شرح حديث لما كان ليلة من الليالي قال عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي قلت
كتب الحديث | صحة حديث | الكتب الستة
دخَلْتُ أنا وعُبيدُ بنُ عُميرٍ على عائشةَ فقالت لِعُبيدِ بنِ عُميرٍ : قد آن لك أنْ تزورَنا فقال : أقولُ يا أمَّهْ كما قال الأوَّلُ : زُرْ غِبًّا تزدَدْ حُبًّا قال : فقالت : دعُونا مِن رَطانتِكم هذه قال ابنُ عُميرٍ : أخبِرينا بأعجَبِ شيءٍ رأَيْتِه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : فسكَتَتْ ثمَّ قالت : لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي قال : ( يا عائشةُ ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي ) قُلْتُ : واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وأُحِبُّ ما سرَّك قالت : فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي قالت : فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت : ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت : ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال : يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر ؟ قال : ( أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ آل عمران: 190 ] ) الآيةَ كلَّها
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج صحيح ابن حبان
الصفحة أو الرقم: 620 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم
شُكرُ
اللهِ سُبحانَه يَكونُ بطُرُقٍ كَثيرةٍ، بالأقوالِ والأفعالِ، والعَبدُ الوَرِعُ التَّقيُّ يَزيدُ شُكرُه للهِ كُلَّما ازدادَتِ النِّعَمُ عليه، وقد كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ القُدوةَ في الشُّكرِ والعِبادةِ، مع عِلْمِه بنِعمةِ
اللهِ عليه بغُفرانِ ما تَقدَّمَ مِن ذُنوبِه وما تأخَّرَ.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ التابِعيُّ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: "دَخَلتُ أنا وعُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ على عائِشةَ" لِزِيارَتِها وسُؤالِها "فقالت لِعُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ: قد آنَ لكَ أنْ تَزورَنا" وكأنَّها تَعتِبُ عليه عَدَمَ زِيارَتِه لها، "فقال: أقولُ يا أُمَّه كما قال الأُوَلُ: زُرْ غِبًّا" والغِبُّ أصلُه أنْ يَرِدَ الإبِلُ الماءَ يَومًا وتَدَعَه يَومًا؛ فالمُرادُ: زُرْ أخاكَ وَقتًا بَعدَ وَقتٍ، "تَزدَدْ حُبًّا"؛ وذلك لِأنَّ الإكثارَ مِنَ الزِّيارةِ يُمِلُّ، والإقلالَ منها مُخِلٌّ، "فقالت: دَعونا مِن رَطانَتِكم هذه" تَقصِدُ الكَلامَ المَسجوعَ، والزِّيارةُ مَطلوبةٌ؛ لِمَا فيها مِنَ التَّوادِّ والتَّحابُبِ؛ فالصَّديقُ المُلاطِفُ لا تَزيدُه كَثرةُ الزِّيارةِ إلَّا مَحبَّةً، بخِلافِ غَيرِه، أمَّا التَّقليلُ مِنَ الزِّيارةِ فقيل: إنَّه مَخصوصٌ بمَن يَزورُ لِطَمَعٍ، وإنَّ النَّهيَ عن كَثرةِ مُخالَطةِ الناسِ مَخصوصٌ بمَن يَخشى الفِتنةَ أوِ الضَّرَرَ؛ لِأنَّ هذا اللَّفظَ الذي ذَكَرَه عُبَيدُ بنُ عُمَيرٍ
( زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا ) إنَّما هو مِن كَلامِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، كما أخرَجَ الطَّيالِسيُّ والطَّبَرانيُّ في الأوسَطِ.
"قال ابنُ عُمَيرٍ: أخبِرِينا بأعجَبِ شَيءٍ رأيتِه مِن رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" وهذا السُّؤالُ لِلتَّعلُّمِ والاقتِداءِ، "فسَكَتتْ" تُفكِّرُ في أحوالِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فكُلُّها عَجيبةٌ وصالِحةٌ لِلاقتِداءِ بها، ولكِنَّها فَكَّرتْ في أعجَبِ شَيءٍ مِن وِجهةِ نَظَرِها "ثم قالت: لَمَّا كان لَيلةٌ مِنَ اللَّيالي" التي كان فيها عِندي "قال: يا عائِشةُ، ذَريني" اترُكيني "أتَعبَّدُ اللَّيلةَ لِرَبِّي" بالصَّلاةِ والقيامِ، وهذا مِن آدابِ الزَّوجيَّةِ أنْ يَستأذِنَ كُلُّ طَرَفٍ مِنَ الآخَرِ إذا أرادَ الانشِغالَ بأمْرٍ مُهِمٍّ لِلتَّعبُّدِ أوِ الذِّكرِ أو غَيرِ ذلك، "قُلتُ: و
اللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُربَكَ" حين تَكونُ بجِواري "وأُحِبُّ ما سَرَّكَ" فأُحِبُّ كُلَّ أمْرٍ يَجعلُكَ مَسرورًا "قالت: فقامَ فتَطهَّرَ" تَوضَّأ "ثم قامَ يُصلِّي" قِيامَ اللَّيلِ "فلم يَزَلْ يَبكي حتى بَلَّ حِجرَه" والحِجرُ طَرَفُ الثَّوبِ، "ثم بَكى فلم يَزَلْ يَبكي حتى بَلَّ لِحيَتَه" ورَطَّبَ شَعرَ لِحيَتِه بالدُّموعِ "ثم بَكى فلم يَزَلْ يَبكي حتى بَلَّ الأرضَ" حتى نَزَلتْ دُموعُه على الأرضِ وبَلَّلتْها بَعدَ أنْ بَلَّلتْ لِحيَتَه وثيابَه، وهذا كِنايةٌ عن كَثرةِ الدُّموعِ والخُشوعِ والخَوفِ مِنَ
اللهِ، "فجاءَ بِلالٌ يُؤْذِنُه بالصَّلاةِ" وهي صَلاةُ الفَجرِ؛ لِيَسمَحَ له بالإقامةِ والبَدءِ في صَلاةِ الجَماعةِ "فلَمَّا رآه يَبكي قال: يا رَسولَ
اللهِ، لِمَ تَبكي وقد غَفَرَ
اللهُ لكَ ما تَقدَّمَ وما تأخَّرَ؟" فكأنَّ بِلالًا ظَنَّ أنَّ سَبَبَ تَحمُّلِه المَشقَّةَ في العِبادةِ أنَّه إنَّما يَعبُدُ
اللهَ خَوفًا مِنَ الذُّنوبِ، وطَلَبًا لِلمَغفِرةِ والرَّحمةِ، فمَن تَحقَّقَ أنَّه غُفِرَ له لا يَحتاجُ إلى ذلك، فأفادَهم بأنَّ هناك طَريقًا آخَرَ لِلعِبادةِ، وهو الشُّكرُ على المَغفِرةِ؛ فقال: "أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا"،
أي: كيف لا أشكُرُه وقد أنعَمَ علَيَّ وخَصَّني بخَيرَيِ الدَّارَيْنِ؟! فمَن عَظُمتْ عليه نِعَمُ
اللهِ، وَجَبَ عليه أنْ يَتلقَّاها بعَظيمِ الشُّكرِ، وخُصوصًا أنبياءَه وصَفوَتَه مِن خَلْقِه، الذين اختارَهم، وخَشيةُ العِبادِ للهِ على قَدرِ عِلمِهم به، ثم قال: "لقد نَزَلتْ علَيَّ الليلةَ آيةٌ، وَيلٌ لِمَن قَرأها ولم يَتفَكَّرْ فيها
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [
آل عمران: 190 ]"،
أي: فيها دَلالاتٌ على قُدرةِ
اللهِ عزَّ وجلَّ يُدرِكُها أصحابُ العُقولِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم