سُئِلْتُ عَنِ المُتَلَاعِنَيْنِ في إمْرَةِ مُصْعَبٍ؛ أَيُفَرَّقُ بيْنَهُمَا؟ قالَ: فَما دَرَيْتُ ما أَقُولُ، فَمَضَيْتُ إلى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بمَكَّةَ، فَقُلتُ لِلْغُلَامِ: اسْتَأْذِنْ لِي، قالَ: إنَّه قَائِلٌ، فَسَمِعَ صَوْتِي، قالَ: ابنُ جُبَيْرٍ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: ادْخُلْ، فَوَاللَّهِ ما جَاءَ بكَ هذِه السَّاعَةَ إلَّا حَاجَةٌ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا هو مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُهَا لِيفٌ، قُلتُ: أَبَا عبدِ الرَّحْمَنِ، المُتَلَاعِنَانِ أَيُفَرَّقُ بيْنَهُمَا؟ قالَ: سُبْحَانَ اللهِ! نَعَمْ؛ إنَّ أَوَّلَ مَن سَأَلَ عن ذلكَ فُلَانُ بنُ فُلَانٍ، قالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ علَى فَاحِشَةٍ، كيفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإنْ سَكَتَ سَكَتَ علَى مِثْلِ ذلكَ! قالَ: فَسَكَتَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كانَ بَعْدَ ذلكَ أَتَاهُ، فَقالَ: إنَّ الذي سَأَلْتُكَ عنْه قَدِ ابْتُلِيتُ به، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ في سُورَةِ النُّورِ: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } [ النور: 6 ] فَتَلَاهُنَّ عليه، وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِن عَذَابِ الآخِرَةِ، قالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِن عَذَابِ الآخِرَةِ.
قالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ إنَّه لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إنَّه لَمِنِ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أنَّ لَعْنَةَ اللهِ عليه إنْ كانَ مِنَ الكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بالمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إنَّه لَمِنِ الكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةُ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ثُمَّ فَرَّقَ بيْنَهُمَا.
الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : مسلم
| المصدر : صحيح مسلم
الصفحة أو الرقم: 1493 | خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ]
التخريج : من أفراد مسلم على البخاري.
وقصة المتلاعنين أخرجها البخاري ( 5312 )
بيَّنَ الشَّرعُ الحَنيفُ أحْكامَ الزَّواجِ بيْنَ الرَّجُلِ والمرأَةِ، كما أوضَحَ أحْكامَ رَميِ الزَّوجِ زَوجَتَه بالزِّنا ولا تُوجَدُ البيِّنةُ، وما يَترتَّبُ على ذلك مِنَ المُلاعَنةِ وغيرِها مِن أحْكامِ الفُرقةِ؛ لحِفْظِ الأنْسابِ، ودَفْعِ المعَرَّةِ عَنِ الأزْواجِ، ودَرْءِ حدِّ القَذْفِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُنا التَّابِعيُّ الجَليلُ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ أنَّه سُئلَ عَنِ حُكمِ المُتَلاعِنَيْنِ -وهو اتِّهامُ الزَّوجِ زَوجَتَه بِالزِّنا ونَفْيِه لِنَسبِ الولدِ منها، فإذا نَفَتِ المرأةُ ذلك حُكِمَ بيْنَهما بِالتَّلاعُنِ- هل يُفرَّقُ بينَهما؟ فَلم يَدرِ ما يَقُولُ ولا الحُكمَ فيها، وكان ذلك في زَمنِ إمارةِ مُصعَبِ بنِ الزُّبَيرِ، حيث كان أميرًا على العِراقِ، ولم يُفرِّقْ مُصعَبٌ بينَ المُتلاعِنَينِ، كما بيَّنتْ رِوايةٌ أُخْرى عندَ مُسلمٍ.
قال سعيدٌ: «
فمَضيْتُ إلى مَنزِلِ ابنِ عُمرَ بمكَّةَ» تَمييزًا له عن مَنزِلِه بالمَدينةِ، والظَّاهرُ أنَّه مَنزلُ ابنِ عُمرَ الَّذي نزَلَه لمَّا جاء مكَّةَ للحجِّ، أو العُمرةِ، والظَّاهرُ أيضًا أنَّ سعيدًا سافَرَ منَ الكوفةِ إلى مكَّةَ، فلمَّا وصَلَ إلى بيتِ ابنِ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما، طلَبَ منَ الغُلامِ خادِمِ ابنِ عُمرَ أنْ يَستأذِنَ له بالدُّخولِ، فأخْبرَه الخادمُ أنَّ ابنَ عُمرَ نائمٌ للقَيْلولةِ، وهو وَقتُ الظَّهيرةِ ونِصفُ النَّهارِ، وقد سمِعَ ابنُ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما صوتَ ابنِ جُبَيرٍ، فعرَفَه، فسألَ: هلِ المستأذِنُ ابنُ جُبيرٍ؟ فأجابَ ابنُ جُبيرٍ: نعمْ، أنا سعيدُ بنُ جُبيرٍ، فأذِنَ له بالدُّخولِ عليه، وقال: «
فواللهِ ما جاء بكَ هذه الساعةَ إلَّا حاجةٌ»، وهذا من فِقهِ ابنِ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما وتواضُعِه، وأنَّه لا يشُقُّ على مَن يَحتاجُ إليه في أوْقاتِ راحَتِه؛ لعِلمِه أنَّ الآتيَ إليه في وقتِ راحَتِه إنَّما جاء لضَرورةٍ عرَضَتْ له، فلا يَنبَغي أنْ يغضَبَ منه، بل يواجِهَه ببَشاشةِ وَجهٍ، فدخَلَ ابنُ جُبيرٍ على ابنِ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما، فوجَدَه يَفرِشُ «
بَرْذَعةً» وهو فراشٌ يُلْقى على ظَهرِ الدَّابَّةِ تحتَ الرَّحلِ، كما أنَّه كان يتوَسَّدُ وِسادةً، وهي المِخَدَّةُ، وكانت مَحشوَّةً باللِّيفِ، وهو لِحاءُ شَجرٍ أو لِحاءُ النَّخلِ.
ثُمَّ قال سَعيدُ بنُ جُبيرٍ: «
يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ» وهي كُنْيةُ عبدِ
اللهِ بنِ عُمرَ، وسألَه: أيُفَرَّقُ بيْنَ المُتَلاعِنَينِ؟ فقال ابنُ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما: «
سُبحانَ اللهِ! نَعَمْ» وإنَّما سبَّحَ ابنُ عُمرَ تَعجُّبًا مِن خَفاءِ هذا الحُكمِ المَشهورِ على سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ثمَّ قال ابنُ عُمرَ: «
أوَّلُ مَنْ سألَ عن ذلك»،
أي: أوَّلُ مَنْ سألَ رسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، «
عَنِ الَّذي سألْتَني عنه هو فُلانُ بنُ فُلانٍ» وهو عُوَيمرٌ العَجْلانيُّ، كما في رِوايةٍ أُخْرى في صَحيحِ مُسلمٍ: «
فَرَّقَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أخَوَيْ بَنِي العَجْلانِ»، سألَ فقالَ: يا رسولَ
اللهِ، أَخبِرْني عن حُكمِ مَن وجَدَ امْرأتَه في حالةِ الزِّنا، فكيف يَفعَلُ في مِثلِ هذا الموقِفِ؟! لأنَّه إنْ تكلَّمَ بما رَأى، فقدْ «
تَكلَّمَ بأمْرٍ عَظيمٍ» تَستَبْشِعُه النُّفوسُ، ويكونُ قَذفًا يَستحِقُّ صاحبُهُ الجَلدَ حَدًّا إنْ لم يَأتِ ببَيِّنةٍ، «
وإنْ سكَتَ» فلم يَتكلَّمْ بما رَأى؛ فقدْ سكَتَ على أمْرٍ عَظيمٍ وغَيظٍ لنْ يُطيقَه، فأخبَرَ ابنُ عُمرَ رَضيَ
اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ سكَتَ ولم يُجِبْ عن سُؤالِ الرَّجُلِ؛ انتِظارًا لنُزولِ الوَحيِ، واستِعظامًا لمَسألتِهِ، وكان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يَعيبُ المسائلَ الَّتي لم تقَعْ، ثُمَّ جاء هذا الرَّجُلُ الَّذي سألَ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ مدَّةٍ، فقال: يا رسولَ
اللهِ، إنَّ الأمرَ الَّذي سألتُكَ عنه «
قدِ ابْتُليتُ به»،
أي: وقَعَ علَيَّ فيه بَلاءٌ واخْتبارٌ؛ فإنِّي رأيْتُ امْرأتي على فاحِشةٍ، فأنزَلَ
اللهُ عزَّ وجلَّ آياتٍ مِن سُورةِ النُّورِ:
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [
النور: 6 - 9 ]، والمعنى: والرِّجالُ الَّذين يَرْمونَ زَوْجاتِهم وليس لهم شهودٌ غيرُ أنفُسِهم يَشهَدونَ على صحَّةِ ما رمَوْهنَّ به؛ يشهَدُ الواحدُ منهم أرْبعَ شَهاداتٍ ب
اللهِ: إنَّه لَصادقٌ فيما رَمى به زَوجتَه منَ الزِّنا، ثُمَّ في شَهادتِه الخامِسةِ يَزيدُ الدُّعاءَ على نفْسِه باسْتِحقاقِ اللَّعنةِ إنْ كان كاذبًا فيما رَماها به، فتَستحِقُّ هي بذلك أنْ تُحَدَّ حدَّ الزِّنا، ويدفَعُ عنها هذا الحدَّ أنْ تشهَدَ هي أربعَ شَهاداتٍ ب
اللهِ: إنَّه لَكاذبٌ فيما رَماها به، ثُمَّ في شَهادَتِها الخامِسةِ تَزيدُ الدُّعاءَ على نفْسِها بغضَبِ
اللهِ عليها إنْ كان صادقًا فيما رَماها به.
فقَرأَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ هذِه الآياتِ على الرَّجلِ، ووعَظَه؛ لعلَّه يَرجِعُ عن قولِهِ، «
وذكَّرَهُ» بأنْ يَتوبَ، وأخْبَره أنَّ عَذابَ الدُّنيا -وهو حدُّ القَذْفِ- أهْوَنُ وأسهَلُ مِن عَذابِ الآخِرةِ، فقال الرَّجلُ: «
لا» أتَراجَعُ عمَّا قُلتُه؛ لأنَّه حقٌّ، وصِدقٌ، وحلَفَ فقال: والَّذي بعَثَكَ بالحَقِّ، ما كنتُ كاذِبًا عليها برَمْيِها بالزِّنا والفاحشةِ، ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ دَعا المرْأةَ، فوعَظَها إنْ كانتْ ألَمَّتْ بذنْبٍ أنْ تَتوبَ منه، وذكَّرَها وأخْبَرها أنَّ عَذابَ الدُّنيا -وهو حَدُّ الزِّنا بالرَّجْمِ- أهْونُ وأسْهلُ مِن عَذابِ الآخِرةِ، فأقسَمَتِ المرأةَ أنَّ زَوجَها لَمِنَ الكاذِبِينَ فيما ادَّعاهُ عليها، فأمَرَهما النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالمُلاعَنةِ، فبدَأَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالرَّجلِ؛ لأنَّ
اللهَ تعالَى بدَأَ به في الآيةِ، فحلَفَ الرَّجلُ أربعَ أيْمانٍ ب
اللهِ، إنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ فيما رَماها به، وفي الشَّهادةِ الخامسةِ دُعاءٌ عليه باللَّعنةِ إنْ كان مِنَ الكاذِبينَ، ثمَّ جاء الدَّورُ على المرْأةَ، فحلَفَتِ أربعَ أيْمانٍ ب
اللهِ، إنَّ زَوجَها كاذبٌ فيما ادَّعى عليها مِنَ الزِّنا والفاحشةِ، وفي الخامسةِ دعَتْ على نفْسِها أنْ يَغضَبَ
اللهُ عليها إنْ كان الزَّوجُ مِنَ الصَّادِقينَ فيما قال، فلم يُقِرَّ أيٌّ منهما بصِدقِ الآخَرِ، ففرَّقَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَهما؛ ومن أحْكامِ المُلاعَنةِ إذا أصَرَّ كلٌّ منهما على كلامِه أنَّهما لا يَجتَمِعانِ بعْدَ المُلاعَنةِ، ولا يكونُ بيْنَهما زَواجٌ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ حُكمِ اللِّعانِ ووَصْفِه.
وفيه: وَعظُ المُذنِبِ وتَذْكيرُه بالتَّوبةِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم