اشترى أبو بكرٍ مِن عازبٍ رَحْلًا بثلاثةَ عشَرَ درهمًا فقال أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه لعازبٍ : مُرِ البَراءَ فلْيحمِلْه إلى أهلي فقال له عازبٌ : لا حتَّى تُحَدِّثَني كيف صنَعْتَ أنتَ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ خرَجْتُما مِن مكَّةَ والمُشرِكونَ يطلُبونَكم فقال : ارتحَلْنا مِن مكَّةَ فأحيَيْنا ليلتَنا حتَّى أظهَرْنا وقام قائمُ الظَّهيرةِ رمَيْتُ ببَصَرِي هل نرى ظِلًّا نأوي إليه فإذا أنا بصخرةٍ فانتهَيْتُ إليها فإذا بقيَّةُ ظلِّها فسوَّيْتُه ثمَّ فرَشْتُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ قُلْتُ : اضطجِعْ يا رسولَ اللهِ فاضطجَع ثمَّ ذهَبْتُ أنظُرُ هل أرى مِن الطَّلبِ أحَدًا فإذا أنا براعي غَنَمٍ يسوقُ غَنَمَه إلى الصَّخرةِ يُريدُ منها مِثْلَ الَّذي أُريدُ - يعني الظِّلَّ - فسأَلْتُه فقُلْتُ : لِمَن أنتَ يا غُلامُ ؟ قال الغُلامُ : لفُلانٍ - رجُلٍ مِن قريشٍ - فعرَفْتُه فقُلْتُ : هل في غَنَمِك مِن لَبَنٍ ؟ قال : نَعم فقُلْتُ : هل أنتَ حالبٌ لي ؟ قال : نَعم : فأمَرْتُه فاعتَقَل شاةً مِن غَنَمِه وأمَرْتُه أنْ ينفُضَ عنها مِن الغُبارِ ثمَّ أمَرْتُه أنْ ينفُضَ كفَّيْهِ فقال : هكذا فضرَب إحدى يدَيْهِ على الأخرى فحلَب في كُثْبةٍ مِن لَبَنٍ وقد رَوَيْتُ معي لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إداوةً على فمِها خِرقةٌ فصبَبْتُ على اللَّبَنِ حتَّى برَد أسفَلُه
فانتهَيْتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوافَقْتُه قدِ استيقَظ فقُلْتُ : اشرَبْ يا رسولَ اللهِ فشرِب فقُلْتُ : قد آنَ الرَّحيلُ يا رسولَ اللهِ فارتحَلْنا والقومُ يطلُبونَنا فلَمْ يُدرِكْنا أحَدٌ منهم غيرُ سُراقةَ بنِ مالكِ بنِ جُعْشمٍ على فرَسٍ له فقُلْتُ : هذا الطَّلَبُ قد لحِقنا يا رسولَ اللهِ قال : فبكَيْتُ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( لا تحزَنْ إنَّ اللهَ معنا ) فلمَّا دنا منَّا وكان بيْنَنا وبيْنَه قِيدُ رُمحَيْنِ أو ثلاثةٍ قُلْتُ : هذا الطَّلبُ يا رسولَ قد لحِقنا فبكَيْتُ له قال : ( ما يُبكيكَ ؟ ) قُلْتُ : أمَا واللهِ ما على نفسي أبكي ولكِنْ أبكي عليك فدعا عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال : ( اللَّهمَّ اكفِناه بما شِئْتَ ) قال : فساخَتْ به فرَسُه في الأرضِ إلى بطنِها فوثَب عنها ثمَّ قال : يا مُحمَّدُ قد علِمْتُ أنَّ هذا عمَلُك فادعُ اللهَ أنْ يُنجِّيَني ممَّا أنا فيه فوَاللهِ لَأُعَمِّيَنَّ على مَن ورائِي مِن الطَّلبِ وهذه كِنانتي فخُذْ منها سهمًا فإنَّك ستمُرُّ على إِبِلي وغَنَمي في مكانِ كذا وكذا فخُذْ منها حاجتَك فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( لا حاجةَ لنا في إبلِك ) ودعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فانطلَق راجعًا إلى أصحابِه
ومضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتَيْنا المدينةَ ليلًا فتنازَعه القومُ أيُّهم ينزِلُ عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إنِّي أنزِلُ اللَّيلةَ على بني النَّجَّارِ أخوالِ عبدِ المطَّلبِ أُكرِمُهم بذلك ) فخرَج النَّاسُ حينَ قدِمْنا المدينةَ في الطُّرقِ وعلى البيوتِ مِن الغِلمانِ والخدَمِ يقولونَ : جاء مُحمَّدٌ جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلمَّا أصبَح انطلَق فنزَل حيثُ أُمِر
وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد صلَّى نحوَ بيتِ المقدِسِ ستَّةَ عشَرَ شهرًا أو سبعةَ عشَرَ شهرًا وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ أنْ يُوجَّهَ نحوَ الكعبةِ فأنزَل اللهُ : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ البقرة: 144 ] قال : فقال السُّفهاءُ مِن النَّاسِ وهم اليهودُ : { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } [ البقرة: 142 ] فأنزَل اللهُ : { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ البقرة: 142 ] قال : وصلَّى مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلٌ فخرَج بعدَما صلَّى فمَرَّ على قومٍ مِن الأنصارِ وهم ركوعٌ في صلاةِ العصرِ نحوَ بيتِ المقدِسِ فقال : هو يشهَدُ أنَّه صلَّى مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنَّه قد وُجِّه نحوَ الكعبةِ فانحرَف القومُ حتَّى توجَّهوا إلى الكعبةِ
قال البَراءُ : وكان أوَّلَ مَن قدِم علينا مِن المُهاجِرينَ مُصعَبُ بنُ عُمَيرٍ أخو بني عبدِ الدَّارِ بنِ قُصيٍّ فقُلْنا له : ما فعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ قال : هو مكانَه وأصحابُه على أثَرِي ثمَّ أتانا بعدَه عمرُو بنُ أمِّ مكتومٍ الأعمى أخو بني فِهْرٍ فقُلْنا : ما فعَل مَن وراءَك : رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه ؟ قال : همُ الآنَ على أثَري ثمَّ أتانا بعدُ عمَّارُ بنُ ياسرٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ وبلالٌ ثمَّ أتانا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ في عِشرينَ راكبًا ثمَّ أتانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَهم وأبو بكرٍ معه
قال البَراءُ : فلَمْ يقدَمْ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى قرَأْتُ سُوَرًا مِن المُفصَّلِ ثمَّ خرَجْنا نَلْقى العيرَ فوجَدْناهم قد حَذِروا
الراوي : البراء بن عازب | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج صحيح ابن حبان
الصفحة أو الرقم: 6870 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط البخاري
كانَتِ الهِجرةُ النَّبويَّةُ مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ مَليئةً بالأحداثِ والعِبَرِ، وفي هذا الحَديثِ بَعضٌ مِن ذلك، حيثُ يَقولُ البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضيَ
اللهُ عنه: "اشتَرى أبو بَكرٍ مِن عازِبٍ" وهو والِدُ البَراءِ، "رَحْلًا بثَلاثةَ عَشَرَ دِرهَمًا" والرَّحلُ هو ما يُوضَعُ فَوقَ الناقةِ لِيُحمَلَ ويُجلَسَ عليه "فقال أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه لِعازِبٍ: مُرِ البَراءَ" اجعَلِ ابنَكَ البَراءَ، "فليَحمِلْه إلى أهلي" يُوصِّلْه إليهم، "فقال له عازِبٌ: لا، حتى تُحَدِّثَني كيف صَنَعتَ أنتَ ورَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ حين خَرَجتُما مِن مَكةَ" مُهاجِريْنِ، وكانَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قد أُمِرَ بالهِجرةِ مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ هو والمُسلِمونَ، فخَرَجَ أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه في صُحبةِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، "والمُشرِكونَ يَطلُبونَكم" يُلاحِقونَكما في طَريقِ هِجرَتِكما، فقال أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه: "ارتَحَلْنا" رَكِبْنا رَواحِلَنا، وهي الدَّوابُّ المُتَّخَذةُ لِلسَّفَرِ، "مِن مَكةَ، فأحيَيْنا لَيلَتَنا" مِنَ الإحياءِ، وهو ضِدُّ الإماتةِ،
أي: فأسرَعْنا السَّيرَ في لَيلَتِنا هذه حتى انقَضَتْ دونَ راحةٍ أو تَوقُّفِ هُروبِنا مِن مُشرِكي مَكةَ وطَلَبِهم لنا، "حتى أظهَرْنا، وقامَ قائِمُ الظَّهيرةِ" دَخَلَ وَقتُ الظُّهرِ وانتِصافِ النَّهارِ، وهو وَقتُ الحَرِّ، "رَمَيتُ ببَصَري، هل نَرى ظِلًّا نأوي إليه" نَجلِسُ فيه ونَستَريحُ، "فإذا أنا بصَخرةٍ، فانتَهَيتُ إليها" ذَهَبتُ إليها "فإذا بَقيَّةُ ظِلِّها" بَقيَ مِن ظِلِّها بَعضُه، يُمكِنُ أنْ نَجلِسَ فيه، فسَوَّيتُ ورَتَّبتُ مَكانَ الظِّلِّ على الأرضِ، "ثم فَرَشتُ لِرَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" فِراشًا لِيَجلِسَ عليه، "ثم قُلتُ: اضطَجِعْ يا رَسولَ
اللهِ.
فاضطَجَعَ" فمالَ على جَنبِه لِيَنامَ، "ثم ذَهَبتُ أنظُرُ هلْ أرَى مِنَ الطَّلَبِ أحَدًا" وهمُ الذين يَبحَثونَ عنهما لِيُعيدوهما إلى مَكةَ، "فإذا أنا براعي غَنَمٍ يَسوقُ غَنَمَه إلى الصَّخرةِ" يَتوَجَّه إلى ظِلِّ الصَّخرةِ "يُريدُ منها مِثلَ الذي أُريدُ -
يَعني الظِّلَّ- فسألتُه، فقُلتُ: لِمَن أنتَ يا غُلامُ؟" والغُلامُ هو الخادِمُ أوِ المَملوكُ "قال الغُلامُ: لِفُلانٍ -رَجُلٍ مِن قُرَيشٍ- فعَرَفتُه، فقُلتُ: هل في غَنَمِكَ مِن لَبَنٍ؟ قال: نَعَمْ" وهذا مِن حُسنِ الطَّلَبِ، ومِن عاداتِ العَرَبِ أنْ يَشرَبَ مَن مَرَّ على الغَنَمِ مِن لَبَنِها بقَدْرِ ما يَكفيه، "فقُلتُ: هل أنتَ حالِبٌ لي؟ قال: نَعَمْ" وهذا مِن حُسنِ أدَبِ الغُلامِ، "فأمَرتُه فاعتَقَلَ شاةً مِن غَنَمِه"،
أي: أمسَكَ بيَدِه نَعجةً حَلوبًا، "وأمَرتُه أنْ يَنفُضَ عنها مِنَ الغُبارِ" يُنظِّفَ ضَرعَها، "ثم أمَرتُه أنْ يَنفُضَ كَفَّيْه" لِيُنظِّفَ يَدَيْه مِنَ التُّرابِ قَبلَ الحَلبِ، "فقال هكذا، فضَرَبَ إحدى يَدَيْه على الأُخرى، فحَلَبَ في كُثبةٍ مِن لَبَنٍ" بمَعنَى أنَّه حَلَبَ في إناءٍ، واللَّبَنُ وَفيرٌ "وقد رَوَيتُ معي لِرَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إداوةً على فَمِها خِرقةٌ"
يَعني: نَظَّفتُ ولَطَّفتُ اللَّبَنَ في إناءٍ لِلنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم وَضَعتُ على فَمِ الإناءِ خِرقةً مِن قُماشٍ "فصَبَبتُ على اللَّبَنِ" بَعضَ الماءِ البارِدِ "حتى بَرَدَ أسفَلُه، فانتَهَيتُ إلى رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فوافَقتُه قدِ استَيقَظَ" مِن نَومَتِه "فقُلتُ: اشرَبْ يا رَسولَ
اللهِ.
فشَرِبَ، فقُلتُ: قد آنَ الرَّحيلُ يا رَسولَ
اللهِ.
فارتَحَلْنا والقَومُ يَطلُبونَنا" بمَعنى أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه لم يُكثِرا مِن وَقتِ الرَّاحةِ، واستَعجَلا طَريقَ هِجرَتِهما، خُصوصًا أنَّ قُرَيشًا ما زالت على أثَرِهما، قال أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه: "فلم يُدرِكْنا أحَدٌ منهم، غَيرَ سُراقةَ بنِ مالِكِ بنِ جُعشُمٍ" وَصَلَ إلينا "على فَرَسٍ له، فقُلتُ: هذا الطَّلَبُ" الذي يَبحَثُ عنَّا "قد لَحِقَنا يا رَسولَ
اللهِ.
قال: فبَكيتُ، فقال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ:
{ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [
التوبة: 40 ]" يَعلَمُ حالَنا، ولن يُضيِّعَنا، "فلَمَّا دَنا مِنَّا" اقتَرَبَ سُراقةُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأبي بَكرٍ، "وكانَ بَينَنا وبَينَه قِيدُ رُمحَيْنِ أو ثَلاثةٍ" وهذا يَدُلُّ على شِدَّةِ اقتِرابِه منهما "قُلتُ: هذا الطَّلَبُ يا رَسولَ
اللهِ قد لَحِقَنا.
فبَكيتُ له، قال: ما يُبكيكَ؟ قُلتُ: أمَا و
اللهِ ما على نَفْسي أبكي، ولكِنْ أبكي عليكَ" بمَعنى أنَّ خَوفَه إنَّما هو على رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أنْ يُصيبَه أذًى، ثم دَعا رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ على سُراقةَ بنِ مالِكٍ، فقال: "اللَّهمَّ اكفِناه بما شِئتَ"،
أي: رُدَّ عنَّا شَرَّه بقُدرَتِكَ كيف شِئتَ، قال أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه: "فساخَتْ به فَرَسُه في الأرضِ" بأنْ غاصَتْ في الرِّمالِ "إلى بَطنِها" وكأنَّ الأرضَ تَبتَلِعُها، "فوَثَبَ عنها"
يَعني: قَفَزَ سُراقةُ مِن فَوقِ فَرَسِه، "ثم قال: يا مُحمدُ، قد عَلِمتُ أنَّ هذا عَمَلُكَ" مِن أثَرِ دُعائِكَ "فادْعُ
اللهَ أنْ يُنَجِّيَني مِمَّا أنا فيه؛ فو
اللهِ لَأُعمِّيَنَّ على مَن وَرائي مِنَ الطَّلَبِ" فوَعَدَ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إنْ أذهَبَ عنه ما حَلَّ به وبفَرَسِه، أنْ يُخفيَ عن قُرَيشٍ أثَرَه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ويَتستَّرَ عليه، "ثم قال: وهذه كِنانَتي" وهي كيسُ السِّهامِ التي يَحمِلُها، "فخُذْ منها سَهمًا"؛ لِيَكونَ عَلامةً وأمارةً منِّي؛ "فإنَّكَ سَتمُرُّ على إبِلي وغَنَمي في مَكانِ كذا وكذا" في طَريقِكما، "فخُذْ منها حاجَتَكَ" مِنَ اللَّبَنِ والطَّعامِ، "فقالَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: لا حاجةَ لنا في إبِلِكَ، ودَعا له رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فانطَلَقَ راجِعًا إلى أصحابِه" مِنَ القُرَيشيِّينَ، "ومَضَى رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ حتى أتَيْنا المَدينةَ" ودَخَلْناها "لَيلًا، فتَنازَعَه القَومُ" وتَنافَسوا فيما بَينَهم "أيُّهم يَنزِلُ عليه رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" ويُقيمُ في بَيتِه، "فقالَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي أَنزِلُ اللَّيلةَ على بَني النَّجَّارِ، أخوالِ" جَدِّهِ "عَبدِ المُطَّلِبِ، أُكرِمُهم بذلك"؛ لِأنَّ نُزولَه في بَيتٍ هو إكرامٌ لِأهلِه، "فخَرَجَ الناسُ حينَ قَدِمْنا المَدينةَ في الطُّرُقِ وعلى البُيوتِ، مِنَ الغِلمانِ والخَدَمِ يَقولونَ: جاءَ مُحمدٌ! جاءَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ!" وهذا مِن فَرحَتِهم بقُدومِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم "فلَمَّا أصبَحَ" خَرَجَ مِن بُيوتِ بَني النَّجَّارِ، "انطَلَقَ فنَزَلَ حيثُ أُمِرَ" نَزَلَ في المَكانِ الذي أمَرَه
اللهُ أنْ يُقيمَ فيه ويَتَّخِذَ مَسجِدًا، "وكانَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قد صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهرًا، أو سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا"؛ لِأنَّ الصَّلاةَ فُرِضتْ عليه في مَكةَ، وأُمِرَ بالتَّوجُّهِ في قِبلَتِه إلى القُدسِ والمَسجِدِ الأقْصى، "وكانَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُوجَّهَ نَحوَ الكَعبةِ" فتَكونَ قِبلَتَه، كما كانَتْ قِبلةً لِأبيه إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ "فأنزَلَ
اللهُ:
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [
البقرة: 144 ]، قال: فقالَ السُّفهاءُ مِنَ الناسِ" وهُم الذين في عُقولِهم نَقصٌ، وفي قُلوبِهم مَرَضٌ، "وهمُ اليَهودُ" وكانوا يَسكُنونَ المَدينةَ آنَذاكَ:
{ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } [
البقرة: 142 ]؛ فأنزَلَ
اللهُ:
{ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [
البقرة: 142 ].
ثم قال أبو بَكرٍ رَضيَ
اللهُ عنه مُوضِّحًا كيف تَمَّ تَحويلُ القِبلةِ: "وصَلَّى مع رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلٌ، فخَرَجَ بَعدَما صَلَّى فمَرَّ على قَومٍ مِنَ الأنصارِ وهم رُكوعٌ في صَلاةِ العَصرِ" وهم يَتَّجِهونَ "نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ، فقال: هو يَشهَدُ أنَّه صَلَّى مع رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه قد وُجِّهَ نَحوَ الكَعبةِ" فشَهِدَ أنَّ القِبلةَ تَحوَّلتْ مِن بَيتِ المَقدِسِ إلى الكَعبةِ المُشرَّفةِ "فانحَرَفَ القَومُ حتى تَوَجَّهوا إلى الكَعبةِ" مِن سُرعةِ الاستِجابةِ لِأمْرِ
اللهِ تَعالى.
قال البَراءُ رَضيَ
اللهُ عنه: "وكانَ أوَّلَ مَن قَدِمَ علينا مِنَ المُهاجِرينَ مُصعَبُ بنُ عُمَيرٍ أخو بَني عَبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ" وقد بَعَثَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُعلِّمَهمُ
القُرآنَ، "فقُلنا له: ما فَعَلَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: هو مَكانَه وأصحابُه على أثَري" سيأتونَ بَعدي "ثم أتانا بَعدَه عَمرُو بنُ أُمِّ مَكتومٍ الأعمَى، أخو بَني فِهرٍ" وهو الذي عاتَبَ
اللهُ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فيه في سورةِ
{ عَبَسَ }، "فقُلنا: ما فَعَلَ مَن وَراءَكَ، رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه؟ قال: همُ الآنَ على أثَري" يأتونَ بَعدي، "ثم أتانا بَعدُ عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وعَبدُ
اللهِ بنُ مَسعودٍ، وبِلالٌ، ثم أتانا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في عِشرينَ راكِبًا" وكان هؤلاء أوَّلَ المُهاجِرينَ إلى المَدينةِ، "ثم أتانا رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بَعدَهم، وأبو بَكرٍ معه، قال البَراءُ: فلم يَقدَمْ علينا رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ حتى قَرأتُ"،
أي: حَفِظتُ، "سُوَرًا مِنَ المُفَصَّلِ" مِمَّا حَفِظَه مِن مُصعَبِ بنِ عُمَيرٍ رَضيَ
اللهُ عنه، والمُفصَّلُ في
القُرآنِ: السُّوَرُ الصِّغارُ، ويَبدَأُ مِن سورةِ مُحمدٍ حتى آخِرِ
القُرآنِ الكَريمِ، وقيلَ: يَبدَأُ مِن سورةِ
{ ق }.
"ثم خَرَجْنا نَلقى العيرَ" وهي الجِمالُ والرَّواحِلُ المُهاجِرةُ إليهم، "فوَجَدناهم قد حَذِروا"،
أي: إنَّهم قد تأخَّروا قَليلًا؛ حَذَرًا وخَوفًا مِن بَعضِ الأُمورِ التي قد تَحدُثُ لهم.
وفي الحَديثِ: بَيانُ مُعاناةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه في أوَّلِ الإسلامِ حتى هاجَروا.
وفيه: مَنقبةٌ ظاهرةٌ لِأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ
اللهُ عنه؛ حيث اختَصَّه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بصُحبَتِه في الهِجرةِ.
وفيه: بَيانُ حُبِّ الأنصارِ لِلنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ والمُهاجِرينَ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم