هذا الحديثُ أحدُ الأحاديثِ الَّتِي هي قَواعدُ الإسلامِ ومَبانِي الأحكامِ،
وفيه يُعلِّمُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم أُمَّتَه ما يَتعلَّقُ بِأسبابِ استجابةِ الدُّعاءِ، وأنَّ
اللهَ طيِّبٌ ومُنَزَّهٌ عن النَّقائِصِ، ويُحِبُّ الحلالَ الطَّيِّبَ، فيُخبِرُنا صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ
اللهَ «
طيِّبٌ» مُنَزَّهٌ عن النَّقائِصِ والعُيوبِ، ومُتَّصِفٌ بالكَمالاتِ مِن النُّعوتِ، ولا يَقبَلُ مِن الصَّدقاتِ ونحْوِها مِن الأعمالِ، إلَّا ما كان مُنَزَّهًا عن العُيوبِ الشَّرعيَّةِ والأغراضِ الفاسدةِ في النِّيَّةِ، وأخبَرَ أنَّ
اللهَ أمَرَ المؤمنين بما أمَر به رُسُلَه، فسوَّى بيْنهم فِي الخطابِ، فأمَرَهم بأكْلِ الحلالِ، وعمَلِ الصَّالحاتِ، فقال
اللهُ في قُرآنِه:
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [
المؤمنون: 51 ]، وهذا النِّداء خِطابٌ لجميعِ الأنبياءِ لا على أنَّهم خُوطِبوا بذلك دَفعةً واحدةً؛ لأنَّهم أُرسِلوا في أَزمِنَةٍ مُختلِفةٍ، بلْ على أنَّ كلًّا منهم خُوطِب به في زَمانِه،
وفيه تَنبيهٌ على أنَّ إباحةَ الطَّيِّباتِ شَرْعٌ قديمٌ، واعتراضٌ على الرَّهبانِيَّةِ ورَفْضِ اللَّذَّاتِ، وإيماءٌ إلى أنَّ أكْلَ الطَّيِّباتِ مُوَرِّثٌ للعملِ الصَّالِحِ، وهو ما يُتقرَّبُ به إلى
اللهِ تعالَى.
وقال
اللهُ تعالَى آمِرًا المؤمنِينَ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [
البقرة: 172 ]،
أي: يا أيُّها الَّذِينَ آمنوا كُلوا مِن حَلالاتِه أو مُستَلَذَّاتِه.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّسُولُ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم الرَّجُلَ يُطِيلُ زَمانَ السَّفَرِ، ويُكثِرُ مُباشَرةَ الرِّحلةِ، مُسافِرًا في العِباداتِ، كالحَجِّ والعُمْرَةِ والجِهادِ وتَعلُّمِ العِلمِ، وسائِرِ وُجوهِ الخَيْرَاتِ، فيُصبِحُ شَعَرُه مِن كَثْرةِ السَّفرِ وشدَّةِ عَنائِه مُتفرِّقًا؛ لعدَمِ تَهذيبِه أو تَمشيطِه، ويَغْبَرُّ لَونُه ولونُ ثِيابِه مِن أثَرِ التُّرابِ، ومع الشَّعَثِ والغُبْرَةِ والتَّعَبِ والنَّصَبِ، يَرفَعُ يدَيْه بالدُّعاءِ إلى السَّماءِ -ومَدُّ اليدَيْن إلى السَّماءِ مِن أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ- قائلًا مُكرِّرًا: «
يا رَبِّ، يا رَبِّ»
وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الدُّعاءَ بلفظِ الرَّبِّ مُؤثِّرٌ في الإجابةِ، فاجتمَعَ فيه مِن أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ أربعةُ أسبابٍ: إطالةُ السَّفرِ، وحُصولُ التَّبذُّلِ في اللِّباسِ والهيئةِ، ومَدُّ اليدِ إلى السَّماءِ، والإلحاحُ على
اللهِ بتَكريرِ ذِكرِ رُبوبيَّتِه.
إلَّا أنَّ طَعامَه وشَرابَه ومَلابِسَه مِن كَسْبٍ حَرامٍ، وغُذِيَ بالحرامِ، وذِكرُ قولِه: «
وغُذِيَ بالحرامِ» بعْدَ قولِه: «
ومَطعَمُه حَرامٌ» إمَّا لأنَّه لا يَلزَمُ مِن كونِ المَطْعَمِ حَرامًا التَّغذيةُ به، وإمَّا تَنبيهًا به على استواءِ حالَتَيه،
أي: كونُه مُنفَقًا في حالِ كِبَرِه، ومُنفَقًا عليه في حالِ صِغَرِه، في وُصولِ الحرامِ إلى باطنِه؛ فأشار بقولِه: «
ومَطعَمُه حَرامٌ» إلى حالِ كِبَرِه، وبقوله: «
وغُذِي بالحرامِ» إلى حالِ صِغَرِه.
فكان المالُ الحرامُ سببًا في عدَمِ إجابةِ دُعائه، كما قال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم: «
فأَنَّى»،
أي: فكيف، أو: فمِن أين؟! «
يُستَجابُ لذلك» الرَّجُلِ، أو: لِأَجْلِ ما ذُكِرَ مِن حالِه؟! والاستِفهامُ للاستِبعادِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على الإنفاقِ مِن الحلالِ، والنَّهيُ عن الإنفاقِ مِن غيْرِه.
وفيه: أنَّ المشروبَ والمأكولَ والملبوسَ ونحْوَ ذلك يَنْبغي أنْ يكونَ حَلالًا خالصًا لا شُبهةَ فيه.
وفيه: إغلاقُ بابِ الكسْبِ الحرامِ وسَدُّ الذَّرائعِ إلى الحرامِ؛ بإعلانِ أنَّه يكونُ سَببًا لعدَمِ قَبولِ الدُّعاءِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم