جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ له: نَهِيكُ بنُ سِنَانٍ إلى عبدِ اللهِ، فَقالَ: يا أَبَا عبدِ الرَّحْمَنِ، كيفَ تَقْرَأُ هذا الحَرْفَ؟ أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً { مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [ محمد: 15 ]، أَوْ: مِن مَاءٍ غَيرِ يَاسِنٍ؟ قالَ: فَقالَ عبدُ اللهِ: وَكُلَّ القُرْآنِ قدْ أَحْصَيْتَ غيْرَ هذا؟! قالَ: إنِّي لأَقْرَأُ المُفَصَّلَ في رَكْعَةٍ، فَقالَ عبدُ اللهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إذَا وَقَعَ في القَلْبِ فَرَسَخَ فيه نَفَعَ، إنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، إنِّي لأَعْلَمُ النَّظَائِرَ الَّتي كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بيْنَهُنَّ سُورَتَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ قَامَ عبدُ اللهِ، فَدَخَلَ عَلْقَمَةُ في إثْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقالَ: قدْ أَخْبَرَنِي بهَا.
[ وفي رواية ]: جَاءَ رَجُلٌ مِن بَنِي بَجِيلَةَ إلى عبدِ اللهِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَهِيكُ بنُ سِنَانٍ.
[ وفي رواية ]: فَجَاءَ عَلْقَمَةُ لِيَدْخُلَ عليه، فَقُلْنَا له: سَلْهُ عَنِ النَّظَائِرِ الَّتي كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بهَا في رَكْعَةٍ، فَدَخَلَ عليه فَسَأَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنَ المُفَصَّلِ في تَأْلِيفِ عبدِ اللَّهِ.
الراوي : شقيق بن سلمة | المحدث : مسلم
| المصدر : صحيح مسلم
الصفحة أو الرقم: 822 | خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ]
أمَرَ
اللهُ سُبحانَه وتعالَى بتَدبُّرِ
القُرآنِ؛ قال تعالَى:
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [
ص: 29 ]، وقال عزَّ مِن قائلٍ:
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } [
النساء: 82 ]، وهذا هو المقصودُ مِن قِراءتِه، لا مُجرَّدُ سَرْدِ حُروفِه دونَ فَهْمٍ أو تَعقُّلٍ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ أبو وائلٍ شَقيقُ بنُ سَلَمةَ أنَّ رجُلًا -وفي رِوايةٍ: «
مِن بَني بَجِيلةَ»- يُقالُ له: نَهِيكُ بنُ سِنانٍ جاء إلى عبدِ
اللهِ بنِ مسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه، فقال: «
يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ، كيف تَقرَأُ هذا الحَرفَ؟»،
أي: كيفَ تَقرَأُ هذه الآيةَ في القرآنِ؟ «
ألِفًا تَجِدُه أمْ ياءً؟ { مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ }، أو ( مِن ماءٍ غَيرِ ياسِنٍ )»؟ والمعنى: هلِ الكلمةُ بحَرفِ الألِفِ أمْ بحَرفِ الياءِ؟ والماءُ الآسِنُ هو المتغيِّرُ طَعمُه ولونُه، والماءُ الياسِنُ هو المُنتِنُ المتعفِّنُ ويُصيبُ ببُخارِه مَن دخَلَه، فسأَلَه عبْدُ
اللهِ رَضيَ
اللهُ عنه: «
وكلَّ القرآنِ قدْ أحصَيتَ غيرَ هذا؟!»،
أي: وهلْ حَفِظتَ كلَّ القرآنِ وضبَطْتَ ألفاظَه إلَّا تلكَ الآيةَ وغيرَ هذا اللفظِ الَّذي تَسألُ عنه؟! كأنَّه يتعجَّبُ منه ويُنكِرُ عليهِ، فأجابَه نَهِيكُ بنُ سِنانٍ إجابةً تدُلُّ على أنَّه يَرى من نفْسِه أنَّه ضبَطَ القرآنَ كلَّه، فأخْبَرَه أنَّه يَقرَأُ المفصَّلَ مِنَ القرآنِ في رَكعةٍ واحدةٍ، وهذا إخْبارٌ عن كَثرةِ حِفظِه وإتْقانِه، والمفَصَّلُ هو صِغارُ السُّوَرِ، قيلَ: يَبدَأُ المُفصَّلُ مِن سُورةِ مُحمَّدٍ، وقيلَ: سُورةِ »ق»، حتَّى آخِرِ القرآنِ الكريمِ، وسُمِّيَ بذلك لكَثرةِ الفَصلِ بيْنَ سُوَرِه بسَطرِ «
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ»، ولم يُجِبْه عبدُ
اللهِ بنُ مسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه عن سُؤالِه؛ لأنَّه فَهِمَ عنه أنَّه غيرُ مُسترشِدٍ، ولكنَّه قال له: »هَذًّا كَهذِّ الشِّعرِ؟!»، والهَذُّ شدَّةُ الإسْراعِ والإفْراطِ في العَجلةِ،
أي: هلْ تَقرَأُ القرآنَ مُسرِعًا غيرَ مُتدبِّرٍ كأنَّكَ تَقرأُ شِعرًا؟! كأنَّ ابنَ مَسعودٍ يُنكِرُ عليهِ قِراءتَه المفصَّلَ في رَكعةٍ واحدةٍ وعدمَ تدبُّرِه وتأمُّلِه في الآياتِ.
ثمَّ قال ابنُ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه: »إنَّ أقْوامًا يَقرَؤونَ
القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقيَهم»، وهذا كِنايةٌ عن عَدمِ الفَهمِ،
أي: إنَّ هناكَ أقْوامًا يَقرَؤونَ القرآنَ فلا يَتدبَّرونَ آياتِه ولا يَتفكَّرونَ في مَعانيهِ، فلا تَصِلُ إلى قُلوبِهم بالتَّدبُّرِ والخُشوعِ، ولا تَصعَدُ إلى السَّماءِ؛ فلا يكونُ لهمْ بها أجْرٌ ولا ثَوابٌ.
والتَّرْقُوةُ: هي العَظمُ البارزُ أعْلى الصَّدرِ من أوَّلِ الكَتِفِ إلى أسفَلِ العُنقِ.
ثمَّ أخبَرَه عبدُ
اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه أنَّ القرآنَ إذا قُرِئَ بتَدبُّرٍ وتأمُّلٍ، فَوعَى القلبُ مَعانيَه وأدْركَ مَواعِظَه؛ نَفعَ قارِئَه، وهذا هو المطلوبُ منَ المسلِمِ والمرادُ مِن قِراءةِ القرآنِ، ثُمَّ بيَّنَ له أنَّ الأحسَنَ أجرًا والأكثرَ ثوابًا في الصَّلاةِ كَثرةُ الرُّكوعِ والسُّجودِ، وليس طولَ القراءةِ الَّتي لا يَتدبَّرُ فيها القارئُ لمعاني الآياتِ.
ثمَّ قال له مُعلِّمًا: وإنِّي لَأعرِفُ السُّورَ الَّتي كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يَجمَعُ بيْنَها في رَكَعاتِ صَلاتهِ.
وهي المُسمَّاةُ بالنَّظائرِ، وهي السُّورُ المتماثِلةُ في المعاني أو المتقارِبةُ في الطُّولِ أو القِصَرِ، وكانَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يَقرَأُ سورَتَينِ منهما في كلِّ ركعةٍ.
ثمَّ قامَ ابنُ مَسعودٍ مِنَ المجلِسِ ودخَلَ دارَه، فدخَلَ وَراءَه التَّابِعيُّ عَلْقَمةُ بنُ قَيسٍ؛ لِيَسألَه عن تلكَ السُّورِ الَّتي كانَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يَجمَعُ بَينَها، ثُمَّ خرَجَ عَلقَمةُ من عندِه وقال للنَّاسِ: قدْ أخبَرَني ابنُ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه بها.
وفي رِوايةٍ: أخبَرَهم عَلقَمةُ أنَّ النَّظائرَ »عِشرونَ سُورةً مِنَ المفَصَّلِ»،
أي: عِشرونَ سُورةً مِن صِغارِ السُّوَرِ، على تَرتيبِ عبدِ
اللهِ بنِ مَسعودٍ للمُصْحَفِ؛ حيثُ اختَلفَ تَرتيبُ ابنِ مَسعودٍ عن تَرتيبِ زَيدِ بنِ ثابتٍ، وقد ورَدَ ذِكرُ هذه السُّوَرِ عندَ أبي داودَ عنِ ابنِ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه، وهي: الرَّحمنُ والنَّجمُ في رَكعةٍ، والقمرُ والحاقَّةُ في رَكعةٍ، والطُّورُ والذَّارِياتُ في رَكعةٍ، والواقعةُ والقلَمُ في رَكعةٍ، والمعارِجُ والنَّازعاتُ في ركعةٍ، و«
وَيْلٌ للمُطفِّفِينَ» و«
عَبَسَ» في ركعةٍ، والمدَّثِّرُ والمُزمِّلُ في رَكعةٍ، والإنْسانُ والقِيامةُ في رَكعةٍ، والنَّبأُ والمُرسَلاتُ في رَكعةٍ، والدُّخَانُ والتَّكويرُ في رَكعةٍ.
فإنْ قيلَ: الدُّخَانُ لَيستْ مِنَ المُفصَّلِ، فَكيف عدَّهَا مِنَ المُفصَّلِ؟ فالجوابُ: أنَّ فيه تَجوُّزًا، وقد جاء في رِوايةٍ في الصَّحيحَينِ: ثَمانِيَ عَشْرةَ سُورةً مِنَ المُفصَّلِ، وسُورَتَينِ مِن آلِ
( حم ).
وفي الحَديثِ: الحثُّ على تَدبُّرِ القرآنِ وعدمِ الإسْراعِ في قِراءتِه.
وفيه: بيانُ مَكانةِ وعِلمِ عبدِ
اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم