كانتِ الفُرسُ والرُّومُ أكبرَ دولتينِ في زمانِهما، وكان بينهما من الصِّراعِ والحُروبِ الكثيرُ، وكان النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يحِبُّ النَّصرَ لأتْباعِ الرُّسلِ من أهلِ الكِتابِ وهم الرُّومِ على المُشرِكين وهم الفُرسُ؛ حتَّى يَطمئنَّ المُسلِمون ويثْبُتوا، وحتَّى يغتاظَ الكُفَّارُ، وقد أنزَلَ
اللهُ في كتابِه آياتٍ تُعبِّرُ عن هذه الأحداثِ "في قولِ
اللهِ تعالى:
{ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [
الروم: 1 - 3 ]، قال عبدُ
اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما في هذا الآياتِ: "غُلِبت وغَلَبت"،
أي: غلَبَهم الفُرْسُ أوَّلًا، ثمَّ تغلَّبَ الرُّومُ على الفُرْسِ آخِرًا، "كان المُشرِكون يحِبُّون أنْ يظهَرَ أهلُ فارسَ على الرُّومِ؛ لأنَّهم أهلُ أوثانٍ" حيثُ كان الفُرْسُ يعبدونَ النَّارَ، والمُشرِكون من العربِ يَعبدونَ الأصنامَ والأحجارَ، "وكان المُسلِمون يحِبُّون أنْ يظهَرَ الرُّومُ على فارسَ؛ لأنَّهم أهلُ كتابٍ، "فذكَروه لأبي بَكرٍ"،
أي: ذكَرَ المُشرِكون كفَّارُ مكَّةَ لأبى بكرٍ أنَّ كِسرى ملِكَ فارِسَ بعَثَ جيشًا إلى قَيصرَ ملِكِ الرُّومِ، فغلَبَت فارِسُ الرُّومَ، يُشيرون بذلك إلى أنَّهم لو قاتلوا المُسلِمين كقِتالِ فارِسَ للرُّومِ، سيَظْهرون عليهم ويَنتصِرون، "فذكَره أبو بكرٍ لرسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: أمَّا إنَّهم سيغْلِبون"،
أي: ستغلِبُ الرُّومُ الفُرْسَ بعدَ هزيمتِهم، "فذكَره أبو بكرٍ لهم"،
أي: أخبَرَهم أبو بكرٍ أنَّ الرُّومَ ستهزِمُ الفُرْسَ كما أخبَره به رسولُ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال المُشرِكون: "اجْعَلْ بيننا وبينك أجلًا"،
أي: موعدًا مُحدَّدًا في المُستقبلِ يَنْتهي فيه قولُك بالنَّصرِ للرُّومِ، "فإنْ ظهَرْنا"،
أي: غلبْنا، وقد جعَلَ المُشرِكون أنفُسَهم مع فريقِ الفُرْسِ، مع أنَّ المُشرِكين من أهلِ مكَّة لا يُقاتِلون الرُّومَ؛ لأنَّهم يُحِبُّونهم ويرجون لهم النَّصرَ كما تقدَّمَ، "كان لنا كذا وكذا"،
أي: من المالِ، "وإنْ ظهَرْتُم"،
أي: وإنِ انتصرْتُم أنتم وفريقُكم من أهلِ الكتابِ، "كان لكم كذا وكذا"،
أي: من المالِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: "فجعَلَ أجلًا خمْسَ سِنينَ"،
أي: سمَّى أبو بكرٍ لهم مُدَّةَ خمْسِ سنينَ يأتي فيها خبَرُ نصْرِ الرُّومِ على الفُرْسِ، "فلم يظْهروا"،
أي: لم تهزِمِ الرُّومُ الفُرْسَ في تلك المُدَّةِ، "فذكروا ذلك للنَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ"،
أي: أخبَرَه أبو بكرٍ رضِيَ
اللهُ عنه بأجَلِه مع مُشْركي مكَّةَ، فقال النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "ألَا جعلْتَه إلى دونَ؟"، وفي روايةٍ: "أفلا جَعَلتَه إلى دُونِ العَشْرِ" أيْ: ألَا جعَلْتَ الأجَلَ إلى آخِرِ البِضعِ، وهو تِسعُ سِنينَ؛ ليكونَ أمْكَنَ في تَحديدِ مَوْعِدِ وُقوعِ النَّصْرِ، واحْترازًا مِن تأخُّرِه إلى آخِرِ الوقتِ المحدَّدِ دُونِ العَشْرِ، "قال: أُراهُ العَشْرَ.
قال: قال سعيدٌ" وهو ابنُ جُبيرٍ الرَّاوي عنِ ابنِ عبَّاسٍ: "والبِضْعُ ما دونَ العَشْرِ"،
أي: دونَ العَشْرِ؛ لأنَّ
اللهَ تعالى قال:
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ }، والبِضْعُ من الثَّلاثِ إلى التِّسعِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما: "ثمَّ ظهرَتِ الرُّومُ بعدُ"،
أي: انتصرَتْ بعدَ تلك الخمْسِ سِنينَ، قال: "فذلك قولُه تعالى:
{ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [
الروم: 1 - 5 ]، قال سُفيانُ الثَّوريُّ- من رُواةِ هذا الحديثِ-: "سمِعْتُ أنَّهم ظهَروا عليهم يومَ بدْرٍ"،
أي: في غَزوةِ بدْرٍ، ففرِحَ المُسلِمون بنصرِ
اللهِ لهم على المُشرِكين، وبنَصْرِه لأهلِ الكِتابِ على الفُرْسِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ تأييدِ
اللهِ لرَسولِه صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وتَسليتِه بالأحداثِ والعِبَرِ مع غيرِه من الأُمَمِ.
وفيه: دليلٌ من دلائلِ نُبوَّتِه صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: بيانُ مَنزلةِ أبي بكر رضِي
اللهُ عنه في الإسلامِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم