بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ في أفْنَاءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ المُشْرِكِينَ، فأسْلَمَ الهُرْمُزَانُ، فَقَالَ: إنِّي مُسْتَشِيرُكَ في مَغَازِيَّ هذِه، قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا ومَثَلُ مَن فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِن عَدُوِّ المُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ له رَأْسٌ، وله جَنَاحَانِ، وله رِجْلَانِ، فإنْ كُسِرَ أحَدُ الجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلَانِ بجَنَاحٍ والرَّأْسُ، فإنْ كُسِرَ الجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلَانِ والرَّأْسُ، وإنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلَانِ والجَنَاحَانِ والرَّأْسُ؛ فَالرَّأْسُ كِسْرَى، والجَنَاحُ قَيْصَرُ، والجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ المُسْلِمِينَ، فَلْيَنْفِرُوا إلى كِسْرَى.
قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بنَ مُقَرِّنٍ، حتَّى إذَا كُنَّا بأَرْضِ العَدُوِّ، وخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى في أرْبَعِينَ ألْفًا، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ، فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنكُمْ.
فَقَالَ المُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: ما أنتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ العَرَبِ كُنَّا في شَقَاءٍ شَدِيدٍ وبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمَصُّ الجِلْدَ والنَّوَى مِنَ الجُوعِ، ونَلْبَسُ الوَبَرَ والشَّعَرَ، ونَعْبُدُ الشَّجَرَ والحَجَرَ، فَبيْنَا نَحْنُ كَذلكَ إذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأرَضِينَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ وجَلَّتْ عَظَمَتُهُ- إلَيْنَا نَبِيًّا مِن أنْفُسِنَا نَعْرِفُ أبَاهُ وأُمَّهُ، فأمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسولُ رَبِّنَا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نُقَاتِلَكُمْ حتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، أوْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ، وأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن رِسَالَةِ رَبِّنَا: أنَّه مَن قُتِلَ مِنَّا صَارَ إلى الجَنَّةِ في نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، ومَن بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ.
فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّما أشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، ولَمْ يُخْزِكَ، ولَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ كانَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ في أوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ، وتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.
الراوي : المغيرة بن شعبة والنعمان بن مقرن | المحدث : البخاري
| المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3159 | خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ]
في هذا الحَديثِ يَروي التابِعيُّ جُبَيرُ بنُ حَيَّةَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضيَ
اللهُ عنه -وهو في خِلافَتِه- بَعَثَ المُحارِبينَ في «
أفْناءِ»،
أي: نَواحي الأمصارِ، والمِصرُ: المَدينةُ العَظيمةُ، والمُرادُ أنَّه رَضيَ
اللهُ عنه كان يُرسِلُهم في مُختَلِفِ البِلادِ والقُرى يُقاتِلونَ المُشرِكينَ، فأسْلَمَ الهُرْمُزانُ طائِعًا، وهو أحَدُ عُظَماءِ الفُرسِ، واسمُه رُسْتُمُ، بعْدَ مَوقِعةِ القادِسيَّةِ التي وَقَعتْ سَنةَ أربَعَ عَشْرةَ مِنَ الهِجرةِ، وصارَ عُمَرُ رَضيَ
اللهُ عنه يُقَرِّبُه ويَستَشيرُه، وذلك بعْدَ هَزيمةِ الفُرسِ، ودُخولِ المُسلِمينَ المَدائِنَ، فقال له: إنِّي مُستَشيرُكَ في مَغازيَّ هَذِه، جمْعُ غَزوةٍ، ويَقصِدُ بها غَزوَ فارِسَ وأصْبَهانَ وأذْرَبيجانَ؛ لِأنَّ الهُرْمُزانَ كانَ أعلَمَ بشَأْنِها مِن غَيرِه.
فأجابَه الهُرْمُزانُ: نَعَمْ.
فوافَقَ أنْ يُسديَ لِعُمَرَ رَضيَ
اللهُ عنه النَّصيحةَ، فضَرَبَ لِهذه الأرضِ المرادِ غَزْوِها مَثَلًا؛ فقال: مَثَلُها ومَثَلُ مَن فيها مِنَ النَّاسِ مِن أعداءِ المُسلِمينَ، مَثَلُ طائِرٍ له رَأْسٌ، وله جَناحانِ، وله رِجْلانِ، فإنْ كُسِرَ أحَدُ الجَناحَيْن نَهَضتِ الرِّجْلانِ بجَناحٍ والرَّأْسُ، فإنْ كُسِرَ الجَناحُ الآخَرُ نَهَضتِ الرِّجْلانِ والرَّأْسُ، وإنْ «
شُدِخَ»،
أي: كُسِرَ الرَّأْسُ، ذَهَبتِ الرِّجْلانِ والجَناحانِ والرَّأْسُ، فذَهَبَ جَميعُ الجَسَدِ، فإذا فاتَ الرَّأْسُ فاتَ الكُلُّ، فالرَّأْسُ كِسْرَى، والجَناحُ قَيْصَرُ صاحِبُ الرُّومِ، والجَناحُ الآخَرُ فارِسُ.
ثمَّ أشارَ الهُرمُزانُ على عُمَرَ أنْ يأمُرَ المُسلِمينَ لِيَخرُجوا إلى الغَزوِ، وأنْ يَبدؤُوا بغَزوِ كِسْرى؛ فإنَّه الرَّأْسُ، وبقَطْعِها يَقَعُ الجَناحانِ.
فلَمَّا كانت سَنةُ عِشرينَ مِنَ الهِجرةِ أخرَجَ عُمَرُ المُجاهِدينَ إلى الغَزوِ، وجَعَلَ أميرَهمُ النُّعْمانَ بنَ مُقَرِّنٍ رَضيَ
اللهُ عنه، فسار الجيشُ، حتَّى إذا كانوا بأرضِ العَدُوِّ -وهي نَهاوَنْدُ- وهي الآنَ مَدينةٌ إيرانيَّةٌ تَقَعُ في مِنطَقةٍ جَبَليَّةٍ إلى الجَنوبِ مِن جِبالِ «
زاجروس»، خَرَجَ عليهم عامِلُ كِسْرى -واسْمُه بُنْدارُ- في أربَعينَ ألْفًا مِن أهْلِ جَبَلِ فارِسَ وكَرْمانَ، وهي الآنَ مَدينةٌ إيرانيَّةٌ تَقَعُ وَسَطَ البِلادِ، ومِن غَيرِهما -كنَهاوَنْدَ وأصْبَهانَ- خَرَجَ مِئةُ ألْفٍ وعَشَرةُ آلافٍ، وأصْبَهانُ الآنَ هي إحدى مُدُنِ إيرانَ ومَرکَزُ مُحافَظةِ أصفهانَ على بُعدِ
( 340 كم ) جَنوبَ طَهرانَ، فقامَ «
تَرْجُمانٌ» -وهو ناقِلُ الكَلامِ مِن لُغةٍ إلى لُغةٍ أُخرى- فقال: لِيُكَلِّمْني رَجُلٌ منكم، فقالَ المُغيرةُ بنُ شُعبةَ رَضيَ
اللهُ عنه: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فسَألَه: «
ما أنتم؟» بصِيغةِ مَن لا يَعقِلُ؛ احتِقارًا، فأجابَه المُغيرةُ رَضيَ
اللهُ عنه: نَحنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ، كُنَّا في شَقاءٍ شَديدٍ وَبَلاءٍ شَديدٍ، نَمَصُّ الجِلدَ، والمُرادُ جُلودُ الماشيةِ، وهو كِنايةٌ عن قِلَّةِ الطَّعامِ، والنَّوَى مِنَ الجُوعِ، ونَلبَسُ الوَبَرَ -وهو الصُّوفُ- والشَّعَرَ، وهذا كِنايةٌ عن قِلَّةِ الثِّيابِ، ونَعبُدُ الشَّجَرَ والحَجَرَ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ الجَهلِ، وظَلُّوا على تلك الحالِ حتَّى بَعَثَ رَبُّ السَّمواتِ والأرَضينَ -تَعالى ذِكْرُه، وجَلَّتْ عَظَمَتُه- إلينا نَبيًّا مِن أنفُسِنا، نَعرِفُ أباه وأُمَّه،
أي: أنَّهم يَعرِفونَ نَسَبَ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، أرادَ بذلك تَعظيمَ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وتَنزيهَه عن أنْ يَكونَ جاءَ مِن سِفاحٍ، فأمَرَنا نَبيُّنا رَسولُ رَبِّنا صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نُقاتِلَكم حتَّى تَعبُدوا
اللهَ وَحدَه، أو تُؤَدُّوا الجِزيةَ، وكانوا مَجوسًا يَعبُدونَ النَّارَ.
وأخبَرَنا نَبيُّنا صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عَن رِسالةِ رَبِّنا: أنَّه مَن قُتِلَ مِنَّا في الجِهادِ، صارَ إلى الجَنَّةِ في نَعيمٍ، لَم يُرَ جَنَّةٌ مِثلُها قَطُّ، وَمَن بَقيَ مِنَّا فلم يُستَشهَدْ، حازَ النَّصرَ، ومَلَكَ رِقابَكم بالأسْرِ.
وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ المُسلِمَ يُقاتِلُ حتَّى النَّصرِ أوِ الشَّهادةِ.
وعِندَما أخَّرَ النُّعْمانُ رَضيَ
اللهُ عنه القِتالَ، وكانَ المُغيرةُ رَضيَ
اللهُ عنه يُريدُ القِتالَ بعْدَ كَلامِه مع التَّرجُمانِ مُباشَرةً، قال النُّعْمانُ لِلمُغيرةِ: رُبَّما أشهَدَكَ
اللهُ -أي: أحضَرَكَ
اللهُ مِثلَها-
أي: مِثلَ هذه الشِّدَّةِ مع رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فلم يُنَدِّمْكَ على التَّأنِّي والصَّبرِ فيما لَقيتَ معه مِنَ الشِّدَّةِ.
ولم يُذِلَّكَ وَيُهِنْكَ، ولَكِنِّي شَهِدتُ القِتالَ مَعَ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزَواتِه التي خَرَجَ لها، فكانَ إذا لم يُقاتِلْ في أوَّلِ النَّهارِ عِندَ شُروقِ الشَّمسِ، انتَظَرَ حتَّى تَهُبَّ الأرْواحُ، جَمعُ رِيحٍ، وتَحضُرَ الصَّلَواتُ بعْدَ زَوالِ الشَّمسِ، يُريدُ ذَهابَ شِدَّةِ الحَرِّ، وذلك مِن بابِ الرِّفْقِ بالجَيشِ والجُنودِ؛ حتى يَكونوا أكثَرَ قُدرَةً على الحَربِ في الجَوِّ المُعتَدِلِ.
وعِندَ أبي داودَ: «
ويَنزِلَ النَّصرُ» فيَكونَ ذلك مِن أسبابِ النَّصرِ التي وَعَدَ
اللهُ به عِبادَه.
وفي الحَديثِ: أخْذُ الجِزيةِ مِنَ المَجوسِ.
وفيه: مَنقَبةُ النُّعْمانِ بنِ مُقَرِّنٍ رَضيَ
اللهُ عنه.
وفيه: مَعرِفةُ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ بالحَربِ، وقُوَّةُ نَفْسِه، وشَهامَتُه وفَصاحَتُه وبَلاغَتُه.
وفيه: فَضلُ المَشورةِ، وأنَّ الكَبيرَ لا نَقْصَ عليه في مُشاوَرةِ مَن هو دُونَه.
وفيه: ضَربُ المَثلِ؛ لِتَوضيحِ مَقصودِ الكَلامِ.
وفيه: الأخْذُ بأسبابِ النَّصرِ عِندَ القِتالِ ومُواجَهةِ العَدُوِّ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم