أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رِضوانُ اللهِ عليه قال للهُرمُزانِ أما إذا فُتَّنِي بنفسِك فانصحْ لي وذلك أنه قال له تكلَّم لا بأسَ فأَمَّنَه فقال الهُرمُزانُ نعم إنَّ فارسَ اليومَ رأسٌ وجَناحانِ قال فأين الرأسُ قال نَهاوِنْدُ مع بُندارِ قال فإنَّ معه أساورةُ كِسرى وأهلِ أصفِهانَ قال فأين الجناحانِ فذكر الهُرمُزانُ مكانًا نسِيتُه فقال الهُرمُزانُ اقطَعْ الجناحَينِ تُوهَنُ الرأسُ فقال له عمرُ رِضوانُ اللهِ عليه كذَبْتَ يا عدوَّ اللهِ بل أعمدُ إلى الرأسِ فيقطعُه اللهُ وإذا قطعه اللهُ عنِّي انقطعَ عني الجَناحانِ فأراد عمرُ أن يسير إليه بنفسِه فقالوا نُذكِّركَ اللهَ يا أميرَ المؤمنينَ أن تسيرَ بنفسِكَ إلى العجَمِ فإن أُصبتَ بها لم يكن للمسلمين نظامٌ ولكنِ ابعثِ الجنودَ قال فبعث أهلَ المدينةِ وبعث فيهم عبدَ اللهِ بنَ عمرَ بنِ الخطابِ وبعث المُهاجرِينَ والأنصارَ وكتب إلى أبي موسى الأشعريِّ أن سِرْ بأهلِ البصرةِ وكتب إلى حُذيفةَ بنِ اليمانِ أنْ سِرْ بأهلِ الكوفةِ حتى تجتمِعوا بنَهاوَندَ جميعًا فإذا اجتمعتُم فأميرُكُم النُّعمانُ بنُ مُقرِّنٍ المُزَني فلما اجتمعوا بنَهاوَندَ أرسل إليهم بُندارَ العِلجَ أن أرسِلوا إلينا يا معشرَ العربِ رجلًا منكم نُكلِّمُه فاختار الناسُ المغيرةَ بنَ شُعبةَ قال أبي فكأني أنظرُ إليه رجلٌ طويلٌ أشعرُ أعورُ فأتاه فلما رجع إلينا سألْناه فقال لنا إني وجدتُ العلجَ قدِ استشار أصحابَه في أيِّ شيءٍ تأذَنون لهذا العربيِّ أبَشارتَنا وبهجتَنا وملكَنا أو نتقشَّفُ له فنزهدُه عما في أيدينا فقالوا بل نأذنُ له بأفضلَ ما يكون من الشَّارةِ والعُدَّةِ فلما رأيتُهم رأيتُ تلك الحرابَ والدَّرقَ يلمعُ منه البصرُ ورأيتُهم قيامًا على رأسِه وإذا هو على سريرٍ من ذهبٍ وعلى رأسهِ التَّاجُ فمضيتُ كما أنا ونكستُ رأسي لأقعدَ معه على السَّريرِ فقال فدفعتُ ونهرتُ فقلتُ إنَّ الرسلَ لا يُفعلُ بهم هذا فقالوا لي إنما أنت كلبٌ أتقعد مع الملِكِ فقلتُ لأَنا أشرفُ في قومي من هذا فيكم قال فانتهرَني وقال اجلِسْ فجلستُ فترجَم لي قولَه فقال يا معشرَ العربِ إنكم كنتُم أطولَ الناسِ جوعًا وأعظمَ الناسِ شقاءً وأقذرَ الناسِ قذرًا وأبعدَ الناسِ دارًا وأبعدَه من كلِّ خيرٍ وما كان منعني أن آمرَ هذه الأساورةَ حولي أن ينتظموكم بالنِّشابِ إلا تنجُّسًا بجِيَفِكم لأنكم أرجاسٌ فإن تذهبوا يُخَلَّى عنكم وإن تأْبَوا نُبوِّئَكم مصارعَكم قال المُغيرةُ فحمدتُ اللهَ وأثنيتُ عليه وقلتُ واللهِ ما أخطأتَ من صفتِنا ونعْتِنا شيئًا إن كنَّا لأبعدَ النَّاسِ دارًا وأشدَّ الناسِ جوعًا وأعظمَ الناسِ شقاءً وأبعدَ النَّاسِ من كلِّ خيرٍ حتى بعثَ اللهُ إلينا رسولًا فوعدَنا بالنَّصرِ في الدنيا والجنَّةِ في الآخرةِ فلم نزلْ نتعرَّفْ مِن ربِّنا مُذْ جاءنَا رسولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الفلاحَ والنصرَ حتى أتيناكم وإنا واللهِ نرى لكم ملكًا وعيشًا لا نرجعُ إلى ذلك الشقاءِ أبدًا حتى نغلبَكم على ما في أيديكم أو نُقتَل في أرضِكم فقال أما الأعورُ فقد صدقَكم الذي في نفسهِ فقمتُ مِن عندِه وقد واللهِ أرعبتُ العلجَ جهدي فأرسل إلينا العلجُ إما أن تعبروا إلينا بنَهاوندَ وإما أن نعبرَ إليكم فقال النعمانُ اعبُروا فعبَرْنا فقال أبي فلم أر كاليومِ قطُّ إنَّ العُلوجَ يجيئون كأنهم جبالُ الحديدِ وقد تواثَقوا أن لا يفِرُّوا من العربِ وقد قُرِنَ بعضُهم إلى بعضٍ حتى كان سبعةٌ في قرانٍ وألقَوا حَسَك َالحديدِ خلفَهم وقالوا من فرَّ منا عقرَهُ حسَكُ الحديدِ فقال المُغيرةُ بنُ شعبةَ حين رأى كثرتَهم لم أرَ كاليومِ قتيلًا إنَّ عدوَّنا يتركون أن يتنامُوا فلا يعجَلوا أما واللهِ لو أن الأمرَ إليَّ لقد أعجلتُهم به قال وكان النعمانُ رجلًا بكَّاءً فقال قد كان اللهُ جلَّ وعز يشهدك أمثالَها فلا يحزِنك ولا يَعيبُك موقفُك وإني واللهِ ما يمنعني أن أناجزَهم إلا بشيءٍ شهدتُه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان إذا غزا فلم يقاتلْ أول َالنهارِ لم يعجلْ حتى تحضرَ الصلواتُ وتهبَّ الأرواحُ ويطيبَ القتالُ ثم قال النعمانُ اللهمَّ إني أسألك أن تقَرَّ عيني بفتحٍ يكون فيه عزُّ الإسلامِ وأهلِه وذُل ُّالكفرِ وأهلِه ثم اختِمْ لي على أثرِ ذلك بالشهادةِ ثم قال أمِّنُوا يرحمْكم اللهُ فأمَّنَّا وبكى وبكَينا فقال النعمانُ إني هازٌّ لوائي فتيسَّروا للسِّلاحِ ثم هازُّه الثانيةَ فكونوا مُتيسِّرينَ لقتالِ عدوِّكم بإزاركِم فإذا هززتُه الثالثةَ فليحملْ كلُّ قومٍ على من يلِيهم من عدوِّهم على بركةِ اللهِ قال فلما حضرتِ الصلاةُ وهبَّتِ الأرواحُ كبَّر وكبَّرْنا وقال ريحُ الفتحِ واللهِ إن شاء اللهُ وإني لأرجو أن يستجيبَ اللهُ لي وأن يفتحَ علينا فهزَّ اللواءَ فتيسَّروا ثم هزَّها الثانيةَ ثم هزَّها الثالثة فحملْنا جميعًا كلُّ قومٍ على من يلِيهم وقال النعمانُ إن أنا أُصبتُ فعلى الناسِ حذيفةُ بنُ اليمانِ فإن أُصيبَ حذيفةُ ففلانٌ فإن أُصيبَ فلانٌ ففلانٌ حتى عدَّ سبعة آخرُهم المغيرةُ بنُ شعبةَ قال أبي فواللهِ ما علمتُ من المسلمينَ أحدًا يحبُّ أن يرجعَ إلى أهلهِ حتى يقتلَ أو يظفرَ فثبَتوا لنا فلم نسمعْ إلا وقعَ الحديدِ على الحديدِ حتى أُصيبَ في المسلمين عصابةٌ عظيمةٌ فلما رأَوْا صبرَنا ورأَوْنا لا نريد أن نرجعَ انهزموا فجعل يقعُ الرجلُ فيقعُ عليه سبعةٌ في قِرانٍ فيُقتلون جميعًا وجعل يعقرهُم حَسكُ الحديدِ خلفَهم فقال النعمانُ قدِّموا اللواءَ فجعلْنا نُقدِّمُ اللواءَ فنقتُلهم ونهزمُهم فلما رأى النعمانُ قد استجاب اللهُ له ورأى الفتحَ جاءتهُ نشَّابةٌ فأصابتْ خاصرتَه فقتلتْه فجاء مَعقِلُ بنُ مُقرِّنٍ فسجَّى عليه ثوبًا وأخذ اللواءَ فتقدم ثم قال تقدَّموا رحمَكم اللهُ فجعلْنا نتقدَّمُ فنهزمُهم ونقتلُهم فلما فرغْنا واجتمع الناسُ قالوا أين الأميرُ فقال مَعقلٌ هذا أميرُكم قد أقرَّ اللهُ عينَه بالفتحِ وختم له بالشهادةِ فبايع الناسُ حُذيفةَ بنَ اليمانِ قال وكان عمرُ بنُ الخطابِ رِضوانُ اللهِ عليه بالمدينةِ يدعو اللهَ وينتظرُ مثل صيحةِ الحُبلَى فكتب حذيفةُ إلى عمرَ بالفتحِ مع رجلٍ من المسلمينَ فلما قدم عليه قال أَبْشِرْ يا أميرَ المؤمنين بفتحٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه وأذلَّ فيه الشركَ وأهلَه وقال النعمانُ بعثك قال احتسِبِ النعمانَ يا أميرَ المؤمنين فبكى عمرُ واسترجعَ فقال ومن ويحَك قال فلانٌ وفلانٌ حتى عدَّ ناسًا ثم قال وآخرين يا أميرَ المؤمنين لا تعرفُهم فقال عمرُ رِضوانُ اللهِ عليه وهو يبكي لا يضرّهم أن لا يعرفَهم عمرُ لكنَّ اللهَ يعرفُهم
الراوي : النعمان بن مقرن | المحدث : الألباني
| المصدر : السلسلة الصحيحة
الصفحة أو الرقم: 6/785 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح رجاله ثقات
بَعَثَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضِيَ
اللهُ عنه في نَواحي الأمْصارِ مَن يُقاتِلون المُشرِكينَ، ومِن ذلك أرضُ فارِسَ، وقد أسلَمَ بعضُ قادتِها، ومنهم الهُرْمُزانُ، واسمُه رُسْتُمُ الَّذي أسلَمَ طائِعًا، وكان مِن عُظماءِ العجَمِ، وكان ملِكًا بالأهوازِ، وصارَ عُمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه يُقرِّبُه ويَستَشيرُه، وذلك بَعدَ هَزيمةِ الفُرسِ وَدُخولِ المُسلِمينَ المَدائِنَ، فقالَ لهُ عمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه: "أمَا إذا فُتَّنِي بنفْسِك"،
أي: لم تُقتَلْ في الحرْبِ وأسلمْتَ، "فانصَحْ لي"،
أي: في شأْنِ قِتالِ بعضِ الجِهاتِ، مِثْل فارِسَ وأَصْبَهانَ وأذْرَبيجانَ؛ لأنَّ الهُرْمُزانَ كانَ أعلَمَ بشَأْنِها مِن غَيرِهِ، "وذلك أنَّه قال له: تكلَّمْ لا بأْسَ، فأمَّنَهُ"،
أي: أعطاهُ عمَرُ الأمانَ أنْ يتكلَّمَ بلا خوفٍ، "فقال الهُرْمزانُ: نعمْ، إنَّ فارسَ اليومَ رأْسٌ وجَناحانِ"،
أي: إنَّ قُوَّةَ فارِسَ تَتمثَّلُ في ثلاثِ مناطقَ هي بمَثابةِ الرَّأسِ والجَناحانِ لتلك الدَّولةِ، قال عمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه: "فأينَ الرَّأسُ؟" قال الهُرْمزانُ: "نَهاونَدُ مع بُندارٍ"، ونَهاونْدُ: مَدينةٌ جَنوبي هَمْدانَ على جبَلٍ، وكانت بها وقْعةٌ عظيمةٌ للمُسلِمين في زمَنِ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ
اللهُ عنه، وكان فتْحُها في سَنةِ إحدى وعشْرين مِن الهِجرةِ على يَدِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضِيَ
اللهُ عنه، وبُندارٌ كان عامِلَ كِسْرى على نَهاونَدَ، "قال: فإنَّ معه أساوِرةَ كِسْرى"،
أي: قادَتَها، "وأهْلَ أصْفهانَ"، مَدينةٌ مِن مُدنِ فارِسَ وأكبَرُها حينئذٍ، وهي حاليًا إحدى مُدنِ إيرانَ، قال عمَرُ: "فأين الجَناحانِ؟ فذكَرَ الهُرْمزانُ مكانًا نَسِيتُه.
وقد روى ابنُ أبي شيبةَ بإسنادٍ جيِّدٍ مِن رِوايةِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ: "أصْبهانُ الرَّأسُ، وفارِسُ وأذْرَبيجانَ الجَناحانِ"، فقال الهُرْمُزانُ: اقطَعِ الجَناحينِ تُوهِنِ الرَّأسَ"،
أي: تُضعِفُ الرَّأسَ بقطْعِ الجَناحينِ المُساعدينِ، "فقال له عمَرُ رِضوانُ
اللهِ عليه: كذَبْتَ يا عدُوَّ
اللهِ، بلْ أعمِدُ إلى الرَّأسِ فيَقطَعُه
اللهُ، وإذا قطَعَهُ
اللهُ عنِّي انقطَعَ عنِّي الجَناحانِ"، وذلك مِن فِقْهِ عمَرَ؛ لأنَّه بقطْعِ الرَّأسِ تَنفَكُّ جميعُ أوصالِ الجسَدِ، فيَنهزِمُ الجميعُ، "فأراد عمَرُ أنْ يَسيرَ إليه بنفْسِه"،
أي: يَخرُجَ إلى نَهاونَدَ غازِيًا وهو على رأْسِ الجيشِ، "فقالوا"،
أي: أهْلُ المشورةِ عنده، "نُذكِّرُك
اللهَ يا أميرَ المُؤمِنين أنْ تَسيرَ بنفْسِك إلى العجَمِ"، كلُّ مَن ليس عربيًّا فهو أعجميٌّ، والمُرادُ بهم هنا أهلُ فارِسَ، "فإنْ أُصِبْتَ بها"،
أي: بالقتْلِ، "لم يكُنْ للمُسلِمين نِظامٌ"؛ وذلك أنَّه كان خَليفةَ المُسلِمين حينئذٍ، واستشهادُه في المعركةِ سيكونُ له الأثَرُ البالِغُ على المُسلِمين داخليًّا، "ولكنِ ابعَثِ الجُنودَ"،
أي: واجعَلْ مَن يَنوبُ عنك عليهم، قال النُّعمانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "فبعَثَ أهْلَ المدينةِ، وبعَثَ فيهم عبدَ
اللهِ بنَ عمَرَ بنِ الخطَّابِ، وبعَثَ المُهاجرينَ والأنصارَ، وكتَبَ إلى أبي مُوسى الأشعريِّ"، وهو أميرٌ على البصرةِ بالعراقِ، "أنْ سِرْ بأهْلِ البصرةِ، وكتَبَ إلى حُذيفةَ بنِ اليَمانِ"، وهو أميرٌ على الكوفةِ بالعراقِ، "أنْ سِرْ بأهْلِ الكوفةِ حتَّى تَجتمِعوا بنَهاونَدَ جميعًا، فإذا اجتمَعْتُم فأميرُكم النُّعمانُ بنُ مُقرِّنٍ المُزَنيُّ"،
أي: يكونُ النُّعمانُ رضِيَ
اللهُ عنه قائدَ الجيوشِ المُجتمِعةِ، "فلمَّا اجتَمَعوا بنَهاونَدَ أرسَلَ إليهم بُندارٌ العِلْجَ"، والعِلْجُ: الرَّجلُ الضَّخمُ مِن كُفَّارِ العجَمِ، والبعضُ يُطلِقُ العِلْجَ على الكافِرِ مُطلقًا، "أنْ أرْسِلوا إلينا يا معشَرَ العربِ رجُلًا منكم نُكلِّمُه، فاختارَ النَّاسُ المُغيرةَ بنَ شُعبةَ.
قال زِيادُ بنُ جُبيرٍ: "قال أبي: فكأنِّي أنظُرُ إليه"،
أي: يصِفُ بُندارًا قائدَ الفُرسِ، "رجُلٌ طويلٌ، أشعَرُ أعوَرُ، فأتاهُ، فلمَّا رجَعَ إلينا سألْناهُ، فقال لنا: إنِّي وجَدْتُ العِلْجَ قدِ استشارَ أصحابَه: في أيِّ شَيءٍ تأْذَنون لهذا العربيِّ؟ أبِشارَتِنا وبَهجَتِنا ومُلْكِنا"،
أي: هل نُقابِلُه بعَلامَتِنا وزِيِّنا الفخْمِ، "أو نَتقشَّفُ له، فنُزَهِّدُه عمَّا في أيْدِينا، فقالوا: بلْ نأْذَنُ له بأفضَلِ ما يكونُ مِن الشَّارةِ والعُدَّةِ، فلمَّا رأَيْتُهم رأَيْتُ تلك الحِرابِ والدَّرقِ"، وهما مِن أدواتِ الحرْبِ، والحِرابُ: الرِّماحُ القصيرةُ، وفي آخِرِها نصْلٌ، والدَّرَقُ: التُّروسُ إذا كانت مِن جُلودٍ ليس فيها خشَبٌ ولا عَصَبٌ، "يَلمَعُ منه البصرُ"،
أي: لِبَريقِها وكثْرَتِها، "ورأَيْتُهم"، يُرِيدُ الحاشيةَ، "قِيامًا على رأْسِه"،
أي: يَقِفون بجوارِ كِسرى كالخدَمِ له، "وإذا هو على سَريرٍ مِن ذهَبٍ، وعلى رأْسِه التَّاجُ، "فمَضَيْتُ كما أنا"، والمُرادُ: أنَّه لم يَلتفِتْ إلى شَيءٍ ممَّا صَنَعوه، "ونكَسْتُ رأْسي"،
أي: أحنَيْتُ وخفَضْتُ رأْسي، "لِأقعُدَ معه على السَّريرِ، فقال: فدُفِعْتُ ونُهِرْتُ"،
أي: زُجِرَ وأُبْعِدَ، "فقلْتُ: إنَّ الرُّسلَ لا يُفعَلُ بهم هذا، فقالوا لي: إنَّما أنت كلْبٌ؛ أتَقْعُدُ مع الملِكِ؟!" وهذا مِن تَكبُّرِهم واحتقارِهم للعرَبِ، "فقلْتُ: لَأنا أشرَفُ في قَومي مِن هذا فيكم، قال: فانْتَهَرني، وقال: اجلِسْ فجلسْتُ، فتُرجِمَ لي قولُه؛ فقال: يا مَعشرَ العرَبِ، إنَّكم كنتُمْ"، والمُرادُ قبْلَ مَجيءِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فيهم، "أطولَ النَّاسِ جُوعًا، وأعظَمَ النَّاسِ شَقاءً"،
أي: بسَببِ الفَقرِ والحاجةِ، "وأقذَرَ النَّاسِ قَذرًا، وأبعَدَ النَّاسِ دارًا، وأبعَدَهُ مِن كلِّ خيرٍ، وما كان مَنَعني أنْ آمُرَ هذه الأساورةَ حَولي أنْ يَنتظِموكم بالنُّشَّابِ"،
أي: إنَّ سَببَ ما كان يَمنَعُ جَيشَه عنهم وقتْلَهم بالسِّهامِ، "إلَّا تَنجُّسًا بجِيَفِكم؛ لأنَّكم أرجاسٌ"،
أي: يَعُدُّ العرَبَ أنجاسًا، "فإنْ تَذْهَبوا"،
أي: تَنسحِبوا، "يُخلَّى عنكم"،
أي: نَعْفُو عنكم ولا نَقتُلُكم، "وإنْ تأَبَوا نُبَوِّئْكم مَصارِعَكم"،
أي: نَقتُلْكم في أماكنِكم، قال المُغيرةُ رضِيَ
اللهُ عنه: "فحمِدْتُ
اللهَ وأثنَيْتُ عليه، وقلْتُ: و
اللهِ ما أخطأْتَ مِن صِفَتِنا ونَعْتِنا شيئًا"،
أي: يُوافِقُه المُغيرةُ بنُ شُعبةَ رضِيَ
اللهُ عنه في وَصْفِه للعرَبِ، "إنْ كنَّا لَأبعَدَ النَّاسِ دارًا، وأشدَّ النَّاسِ جُوعًا، وأعظَمَ النَّاسِ شَقاءً، وأبعَدَ النَّاسِ مِن كلِّ خيرٍ، حتَّى بعَثَ
اللهُ إلينا رسولًا، فوَعَدَنا بالنَّصرِ في الدُّنيا، والجنَّةَ في الآخرةِ، فلم نَزَلْ نَتعرَّفْ مِن رَبِّنا مذْ جاءَنا رسولُه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الفلاحَ والنَّصرَ"،
أي: نَرى نصْرَ
اللهِ مُتتابِعًا للمُسلِمين منذُ بَعثةِ النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، "حتَّى أتَيْناكم، وإنَّا- و
اللهِ- نَرى لكم مُلْكًا وعَيْشًا لا نَرجِعُ إلى ذلك الشَّقاءِ أبدًا حتَّى نَغلِبَكم على ما في أيدِيكم، أو نُقتَلَ في أرْضِكم"، يُظهِرُ له المُغيرةُ بنُ شُعبةَ أنَّهم يُرِيدون القِتالَ، فقال كِسْرى: "أمَّا الأعورُ"، وهذه صِفَةُ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رضِيَ
اللهُ عنه؛ فقد كان أعوَرَ، "فقد صَدَقَكم الَّذي في نفْسِه"،
أي: تكلَّمَ بما يُؤمِنُ به، قال المُغيرةُ رضِيَ
اللهُ عنه: "فقُمْتُ مِن عندِه، وقد- و
اللهِ- أرعَبْتُ العِلْجَ جَهْدِي"،
أي: بذَلَ ما في وُسْعِه لرُعْبِهم وبثِّ الخوفِ فيهم، "فأرسَلَ إلينا العِلْجُ"،
أي: يُخَيِّرُ المُسلِمين، "إمَّا أنْ تَعبُروا إلَينا بنَهاونَدَ، وإمَّا أنْ نَعبُرَ إلَيْكم"،
أي: إمَّا أنْ نَتقدَّمَ إليكم أو تَتقدَّموا أنتُمْ إلينا، "فقال النُّعمانُ: اعْبُروا، فعَبَرْنا"،
أي: كان المُسلِمون هم المُتقدِّمون نحوَهم.
قال زِيادُ بنُ جُبيرٍ: "فقال أبي: فلم أَرَ كاليومِ قطُّ؛ إنَّ العُلوجَ يَجِيئون كأنَّهم جِبالُ الحديدِ"،
أي: لِمَا عليهم مِن دُروعٍ، "وقد تَواثَقوا"،
أي: تعاهَدوا، "ألَّا يَفِرُّوا مِن العرَبِ، وقد قُرِنَ بعضُهم إلى بعضٍ"،
أي: رُبِطوا بعضُهم ببعضٍ، "حتَّى كان سبْعةٌ في قِرانٍ"،
أي: كان السَّبعةُ مِن الجُنودِ في الرِّباطِ الواحدِ، "وألْقَوا حسَكَ الحَديدِ خلْفَهم"،
أي: ألْقَوا ورَمَوا أشواكًا مِن الحديدِ خلْفَهم؛ لتَكونَ عائقًا عن الرُّجوعِ والفِرارِ، "وقالوا: مَن فَرَّ منَّا عقَرَهُ حسَكُ الحديدِ"،
أي: عرْقَلَهُ وقتَلَهُ، "فقال المُغيرةُ بنُ شُعبةَ حيِن رأَى كثْرَتَهم: لمْ أَرَ كاليومِ قَتيلًا؛ إنَّ عدُوَّنا يُتْرُكون أنْ يَتتامُّوا"،
أي: نَترُكُهم يَتجمَّعون حتَّى يَزِيدوا في العدَدِ، "فلا يُعْجَلوا"،
أي: لا يُعاجِلُهم المُسلِمون بالهُجومِ، "أمَا و
اللهِ لو أنَّ الأمْرَ إليَّ لقدْ أعجَلْتُهم به"،
أي: أسرَعْتُ بالهُجومِ عليهم، قال: "وكان النُّعمانُ رجُلًا بكَّاءً، فقال: قد كان
اللهُ جَلَّ وعَزَّ يُشهِدُك أمثالَها، فلا يَحزنُكُ ولا يَعيبُك مَوقِفُك، وإنِّي و
اللهِ ما يَمنَعُني أنْ أُناجِزَهم"،
أي: أُسارِعَ إليهم بالقتالِ والهُجومِ الَّذي كان يَرغَبُ فيه المُغيرةُ، "إلَّا بشَيءٍ شَهِدْتُه مِن رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إنَّ رسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا غَزَا"،
أي: خرَجَ للقِتالِ، "فلمْ يُقاتِلْ أوَّلَ النَّهارِ، لم يَعجَلْ"،
أي: لم يَتعجَّلْ القِتالَ، "حتَّى تَحضُرَ الصَّلواتُ"؛ وذلك لأنَّ للصَّلواتِ مَدخلًا في النَّصرِ، "وتَهُبَّ الأرواحُ"،
أي: النَّسيمُ، "ويَطِيبَ القِتالُ، ثمَّ قال النُّعمانُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُك أنْ تُقِرَّ عَيْني بفتْحٍ يكونُ فيه عِزُّ الإسلامِ وأهْلِه، وذُلُّ الكُفْرِ وأهْلِه، ثمَّ اختِمْ لي على أثَرِ ذلك بالشَّهادةِ"،
أي: يَسأَلُ
اللهَ عَزَّ وجلَّ الشَّهادةَ في تلك المعركةِ بعدَ أنْ يَرزُقَهم
اللهُ النَّصرَ، "ثمَّ قال: أمِنِّوا يَرحَمُكم
اللهُ، فأمَّنَا وبكَى وبكَيْنا، فقال النُّعمانُ: إنيِّ هازٌّ لِوائي"،
أي: مُحرِّكُه، واللِّواءُ: رايةُ الجيشِ وعلَمُها، ولا يُمسِكُها إلَّا قائدُ الجيشِ، "فتَيسَّروا للسِّلاحِ"،
أي: تَجهَّزوا للسِّلاحِ واستَعِدُّوا به، "ثمَّ هازُّهُ الثَّانيةُ، فكُونوا مُتيسِّرينَ"،
أي: مُستعدِّين، "لقِتالِ عدُوِّكم بإزائِكم"،
أي: في مُقابِلِكم، "فإذا هزَزْتُه الثَّالثةَ، فلْيحْمِلْ"،
أي: فلْيَهْجُمْ، "كلُّ قومٍ على مَن يَلِيهم"،
أي: على مَن كان أمامَهُ، "مِن عدُوِّهم على بركةِ
اللهِ.
قال جُبيرٌ: فلمَّا حضَرَتِ الصَّلاةُ وهبَّتِ الأرواحُ، كبَّرَ وكبَّرْنا، وقال"،
أي: النُّعمانُ رضِيَ
اللهُ عنه، "رِيحُ الفتْحِ و
اللهِ إنْ شاءَ
اللهُ، وإنِّي لَأرجُو أنْ يَستجِيبَ
اللهُ لي، وأنْ يَفتَحَ علينا، فهَزَّ اللِّواءَ، فتَيسَّروا، ثمَّ هزَّها الثَّانيةَ، ثمَّ هزَّها الثَّالثةَ، فحَمَلْنا جميعًا كلُّ قومٍ على مَن يَلِيهم، وقال النُّعمانُ: إنْ أنا أُصِبْتُ"،
أي: قُتِلَ أثناءَ المعركةِ، "فعلى النَّاسِ حُذيفةُ بنُ اليَمانِ"،
أي: يَنوبُ عنه حُذيفةُ رضِيَ
اللهُ عنه، "فإنْ أُصِيبَ حُذيفةُ ففُلانٌ، فإنْ أُصِيبَ فلانٌ ففُلانٌ، حتَّى عدَّ سبْعةً"،
أي: عدَّ سبْعةً مِن القادةِ يَنوبُ بعضُهم عن بعضٍ في حالِ قتْلِ الَّذي قبْلَه، "آخِرُهم المُغيرةُ بنُ شُعبةَ".
قال زِيادُ بنُ جُبيرٍ: "قال أبي: فو
اللهِ ما علِمْتُ مِن المُسلِمين أحدًا يُحِبُّ أنْ يَرجِعَ إلى أهْلِه حتَّى يُقتَلَ أو يَظفَرَ"،
أي: يفوزَ بالنَّصرِ، وهذا إشارةٌ إلى هِمَّةِ الجيشِ العاليةِ ورُسوخِ الإيمانِ، "فثَبَتوا لنا، فلم نَسمْعَ إلَّا وقْعَ الحديدِ على الحديدِ"،
أي: صوتَ ضرْبِ السِّلاحِ بعضِه على بعضٍ، وصَوتَ دُروعِ الحديدِ، "حتَّى أُصِيبَ في المُسلِمين عِصابةٌ عظيمةٌ"،
أي: عدَدٌ كبيرٌ في صُفوفِ جَيشِ المُسلِمين، "فلمَّا رَأَوا"،
أي: جيشُ الفُرسِ، "صبْرَنا، ورَأَونا لا نُرِيدُ أنْ نَرجِعَ انْهَزَموا، فجعَلَ يقَعُ الرَّجلُ، فيقَعُ عليه سبْعةٌ في قِرانٍ"،
أي: يقَعُ مع السَّبعةِ المَربوطينَ معه في رِباطٍ واحدٍ، "فيُقْتَلون جميعًا، وجعَلَ يَعقِرُهم حسَكُ الحديدِ خلْفَهم، فقال النُّعمانُ: قَدِّموا اللِّواءَ"، هذا إشارةٌ للجيشِ إلى استمرارِ الهُجومِ على الفُرسِ، "فجَعَلْنا نُقدِّمُ اللِّواءَ، فنَقتُلُهم ونَهزِمُهم، فلمَّا رأى النُّعمانُ قدِ استجابَ
اللهُ له ورأَى الفتْحَ"،
أي: وأوشَكَ النَّصرُ، "جاءتْه نُشَّابةٌ"،
أي: سَهمٌ، "فأصابَتْ خاصِرتَه، فقتَلْتُه، فجاء مَعقِلُ بنُ مُقرِّنٍ"، أخو النُّعمانِ بنِ مُقرِّنٍ، "فسَجَى عليه ثَوبًا"،
أي: غطَّاهُ بذلك الثَّوبِ، "وأخَذَ اللِّواءَ"،
أي: حمَلَهُ منه، "فتَقدَّمَ، ثمَّ قال: تَقدَّموا رحِمَكم
اللهُ، فجعَلْنا نَتقدَّمُ، فنَهزِمُهم ونَقتُلُهم، فلمَّا فرَغْنا واجتمَعَ النَّاسُ، قالوا: أينَ الأميرُ؟ فقال مَعقِلُ: هذا أميرُكم قد أقَرَّ
اللهُ عَينَه بالفتْحِ، وختَمَ له بالشَّهادةِ، فبايَعَ النَّاسُ حُذيفةَ بنَ اليَمانِ"،
أي: لقِيادةِ الجيشِ بعدَ النُّعمانِ رضِيَ
اللهُ عنهم جميعًا، قال جُبيرٌ: "وكان عمَرُ بنُ الخطَّابِ رِضوانُ
اللهِ عليه بالمدينةِ يَدْعو
الله، ويَنتظِرُ مِثْلَ صَيحةِ الحُبْلى"،
أي: صُراخَ الحامِلِ، والمرادُ: أنَّه كان يَنتظِرُ أخبارَ الجيشِ والقِتالِ مِثْلَ الَّذي يَنتظِرُ بِشارةِ المولودِ، "فكتَبَ حُذيفةُ إلى عمَرَ بالفتْحِ مع رجُلٍ مِن المُسلِمين، فلمَّا قدِمَ عليه قال: أبشِرْ يا أميرَ المُؤمِنين بفتْحٍ أعَزَّ
اللهُ فيه الإسلامَ وأهْلَه، وأذَلَّ فيه الشِّركَ وأهْلَه، وقال"،
أي: عمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه، "النُّعمانُ بعَثَك؟"
أي: هو الَّذي أرْسَلَك بالبُشرى؟ يَطمئِنُّ عمَرُ بذلك السُّؤالِ على حياةِ النُّعمانِ، قال الرَّجلُ المُرسَلُ: "احتسِبِ النُّعمانَ يا أميرَ المُؤمِنين"،
أي: احتسِبْه عندَ
اللهِ، "فبَكى عمَرُ واسْترجَعَ"،
أي: قال: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، فقال عمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه للرَّجلِ: "ومَن ويْحَكَ؟!"
أي: ومَن قُتِلَ أيضًا؟ قال الرَّجلُ: "فلانٌ وفلانٌ، حتَّى عدَّ ناسًا، ثمَّ قال: وآخرينَ يا أميرَ المُؤمِنين لا تَعرِفُهم"،
أي: لكثرةِ قَتْلى المُسلِمين مِن مُختلفِ النَّاسِ والأمصارِ، "فقال عمَرُ رِضوانُ
اللهِ عليه وهو يَبْكي: لا يضُرُّهم ألَّا يَعرِفَهم عمَرُ، لكنَّ
اللهَ يَعرِفُهم"،
أي: يُجازِيهم
اللهُ على ما قدَّموا.
وفي الحديثِ: أنَّ حُسنَ الظَّنِّ في
اللهِ سَببٌ مِن أسبابِ النَّصرِ.
وفيه: أنَّ الجِهادَ يُعِزُّ المُسلِمين ويُذِلُّ المُشرِكين.
وفيه: أنَّ حُسنَ طاعةِ الإمامِ العادِلِ سَببٌ في فتْحِ
اللهِ ونصْرِه على المُسلِمين.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم