إذا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ في السَّماءِ، ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بأَجْنِحَتِها خُضْعانًا لِقَوْلِهِ كالسِّلْسِلَةِ علَى صَفْوانٍ -قالَ عَلِيٌّ: وقالَ غَيْرُهُ: صَفْوانٍ يَنْفُذُهُمْ ذلكَ- فإذا فُزِّعَ عن قُلُوبِهِمْ، قالوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا لِلَّذِي قالَ: الحَقَّ، وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُها مُسْتَرِقُو السَّمْعِ -ومُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذا واحِدٌ فَوْقَ آخَرَ؛ ووَصَفَ سُفْيانُ بيَدِهِ، وفَرَّجَ بيْنَ أصابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى، نَصَبَها بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّما أدْرَكَ الشِّهابُ المُسْتَمِعَ قَبْلَ أنْ يَرْمِيَ بها إلى صاحِبِهِ فيُحْرِقَهُ، ورُبَّما لَمْ يُدْرِكْهُ حتَّى يَرْمِيَ بها إلى الذي يَلِيهِ، إلى الذي هو أسْفَلُ منه، حتَّى يُلْقُوها إلى الأرْضِ - [ وفي رواية ]: حتَّى تَنْتَهي إلى الأرْضِ- فَتُلْقَى علَى فَمِ السَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ معها مِئَةَ كَذْبَةٍ، فيُصَدَّقُ؛ فيَقولونَ: ألَمْ يُخْبِرْنا يَومَ كَذا وكَذا يَكونُ كَذا وكَذا، فَوَجَدْناهُ حَقًّا؟ لِلْكَلِمَةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ.
[ وفي رواية ]: إذا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ، وزادَ: والكاهِنِ.
[ وفي رواية ]: إذا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ، وقالَ: علَى فَمِ السَّاحِرِ.
[ وفي رواية ]: قُلتُ لِسُفْيانَ: إنَّ إنْسانًا رَوَى عَنْكَ، عن عَمْرٍو، عن عِكْرِمَةَ، عن أبِي هُرَيْرَةَ ويَرْفَعُهُ، أنَّه قَرَأَ: ( فُرِّغَ )، قالَ سُفْيانُ: هَكَذا قَرَأَ عَمْرٌو، فلا أدْرِي سَمِعَهُ هَكَذا أمْ لا، قالَ سُفْيانُ: وهي قِراءَتُنا.
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري
| المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 4701 | خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ]
اللهُ سُبحانه وتعالى هو الذي يعلَمُ الغَيبَ كُلَّه، ولا يُطلِعُ على غَيبِه أحدًا إلَّا بما شاء وكيف شاء، وكُّل من ادَّعى عِلمَ شيءٍ من الغيبِ من المنَجِّمين والسَّحَرةِ فهو كاذِبٌ؛ فينبغي لكُلِّ عاقلٍ أن يأخُذَ بما في كتابِ
اللهِ وبما أخبَرَ به رسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم.
وفي هذا الحَديثِ يُبَيِّنُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أنَّه إذا قَضى
اللهُ الأَمْرَ وقدَّرَه في السَّماءِ،
أي: بأمْرٍ مِن أمورِ الخَلْقِ، ضَرَبَت المَلائِكةُ بأجْنِحتِها «
خُضْعانًا» مُنْقادينَ طائِعينَ لقولِه جَلَّ وعَلا، ويكون القَوْلُ المَسْموع يُشبِهُ صَوْتَ وقْعِ السِّلْسِلةِ على «
صَفْوانٍ» وهو الحَجَر الأَمْلَس، «
يَنفُذُهم ذلِكَ»،
أي: يَنفُذُ
اللهُ ما أمَرَ به وقَضى إلى مَلائكتِه، فـإذا «
فُزِّعَ عن قُلوِبهم»،
أي: أُزيلَ الخَوفُ عن قُلوبِهم، مِصْداقًا لقَولِ
الله تعالى:
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } [
سبأ: 23 ]، وفي روايةٍ: قُرِئَت «
فُرِّغَ»، قيل: وهي قراءةٌ شاذَّةٌ إلَّا أنَّها موافِقةٌ في المعنى لقراءةِ العامَّةِ.
فسألت المَلائكةُ بعضُها بعضًا: ماذا قالَ رَبُّكم؟ فيقولُ المُقَرَّبونَ مِن المَلائِكة -كَجِبْريلَ وميكائيلَ- مُجيبينَ: قالَ
اللهُ القَولَ الحَقَّ، وهو «
العَليُّ الكَبيرُ»، والعَلِيُّ: هو الذي له العُلُوُّ المُطلَقُ من جميعِ الوُجوهِ: عُلُوُّ الذَّاتِ، وعُلُوُّ القَدْرِ والصِّفاتِ، وعُلُوُّ القَهرِ؛ فهو الذي على العَرْشِ استوى، وبجميعِ صِفاتِ العَظَمةِ والكبرياءِ والجَلالِ والجَمالِ وغايةِ الكَمالِ اتَّصَف، وإليه فيها المُنتهى، والكبيرُ يعني: العظيمَ الذي كلُّ شيءٍ دونَه، ولا شيءَ أعظَمُ منه.
وعند ذلك يسمَعُ مُسْترِقُو السَّمعِ من الجِنِّ والشَّياطينِ ذلك القَولَ الَّذي قالَه
اللهُ، والمستَرِقُ: المُسْتَمِعُ مختَفِيًا كَمَا يَفعَلُ السَّارِقُ، ووَصَفَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنةَ -أحدُ رُواةِ الحديثِ- كَيفيَّةَ المُستَمِعينَ بأنَّهم يَركَبُ بَعْضُهم على بَعْضٍ، وفَرَّجَ بَيْنَ أَصابِعِ يَدِه اليُمْنى، نَصَبَها بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ.
فَرُبَّما أَدرَكَ الشِّهابُ الثَّاقِبُ المُستَمِعَ قَبلَ أَن يَرْميَ بالكَلِمةِ التي سمِعَها إلى صاحِبِه، فَيُحرِقَه، كما أخبر
اللهُ عنهم بقَولِه:
{ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } [
الصافات: 8 ]، ورُبَّما لَم يُدرِكه الشِّهابُ حتَّى يَرْميَ بِها إلى الَّذي يَليه، ثمَّ إلى الَّذي هو أَسْفَلُ مِنه، حتَّى تَنتَهيَ إلى الأرضِ، فَتُلْقى الكَلِمةُ على فَمِ السَّاحِرِ من أتباعِ الجِنِّ والشَّياطينِ، وهو المُنَجِّمُ، فيَكذِبُ مع تلْكَ الكَلِمةِ الحقِّ مِئةَ كَذْبةٍ، فربَّما يصادِفُ وقوعُ بعضِ الصِّدقِ في كَذْباتِه، فَيَقولُ السَّامِعونَ الذين سمِعوا مِنه: أَلَم يُخبِرْنا السَّاحِرُ يَوْمَ كَذا وكَذا يَكون كَذا وكَذا؟ كِنايةً عن الخُرافاتِ الَّتي أَخْبَرَ بِها السَّاحِرُ، فوَجَدْنا الخَبَرَ الَّذي أَخْبَرَ بِه حَقًّا، وذلك بسَببِ الكَلِمة الَّتي سُمِعَتْ مِن السَّماءِ، جَعَلوا كلَّ أخبارِه حقًّا.
وفي الحَديثِ: إثباتُ علوِّ
اللهِ تعالَى على خَلْقه، وأنَّه سُبحانه في السَّماءِ.
وفيه: أنَّ
اللهَ تعالَى يتكلَّمُ بما شاء، وقتَما شاء، وكيف شاء، دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ أو تشبيهٍ.
وفيه: اسْتِراقُ الشَّياطينِ السَّمْعَ حتَّى يَلْبِسوا على بَني آدَمَ أَفعالَهم.
وفيه: انْقيادُ المَلائِكةِ واسْتِسلامُها أَمامَ كَلامِ رَبِّها.
وفيه: بيانُ كَذِبِ الكُهَّانِ؛ فلا يجوزُ الاعتمادُ عليهم فيما يُخبِرون به.
وفيه: دليلٌ على أنَّ النُّجومَ وغيرَها لا يُعْرَفُ بها عِلمُ الغيبِ، ولا القضاءُ، ولو كان كذلك لكانت الملائِكةُ أعلَمَ بذلك وأحقَّ به، وكُلُّ ما يتعاطاه المنَجِّمون فليس شيءٌ منه عِلمًا يقينًا، إنَّما هو رجمٌ بظَنٍّ، وتخمينٌ بِوَهْمٍ، الإصابةُ فيه نادرةٌ، والخطَأُ والكَذِبُ فيهم غالِبٌ.
وفيه: أنَّ جميعَ الملائكةِ لا يَعلَمونَ شيئًا من الأمورِ الغيبيَّةِ إلَّا بأن يُعلِمَهم
اللهُ تعالى به، كما قال تعالى:
{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [
الجن: 26، 27 ].
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم