قلتُ لابنِ عبَّاسٍ: يزعُمُ قومُكَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، رمَلَ بالبيتِ، وأنَّ ذلك سُنَّةٌ؟ فقال: صدَقوا، وكذَبوا.
قلتُ: وما صدَقوا وكذَبوا؟ قال: صدَقوا؛ رمَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالبيتِ، وكذَبوا، ليس بسُنَّةٍ، إنَّ قُرَيشًا قالت زمَنَ الحُدَيبيةِ: دعوا محمدًا وأصحابَه حتى يموتوا موتَ النَّغَفِ، فلمَّا صالحوه على أنْ يقدَموا من العامِ المقبِلِ، يُقيموا بمكةَ ثلاثةَ أيامٍ، فقدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمشركونَ من قِبَلِ قُعَيْقِعانَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصحابِه: ارمُلوا بالبيتِ ثلاثًا، وليس بسُنَّةٍ.
قلتُ: ويزعُمُ قومُكَ أنَّه طاف بينَ الصفا والمروةِ على بعيرٍ، وأنَّ ذلك سُنَّةٌ.
فقال: صدَقوا، وكذَبوا.
فقلتُ: وما صدَقوا، وكذَبوا؟ فقال: صدَقوا؛ قد طاف بينَ الصفا والمروةِ على بعيرٍ، وكذَبوا؛ ليس بسُنَّةٍ، كان الناسُ لا يدفَعونَ عن رسولِ اللهِ، ولا يصرِفونَ عنه، فطاف على بعيرٍ ليسمَعوا كلامَه، ولا تنالُه أيديهم، قلتُ: ويزعُمُ قومُكَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سعَى بينَ الصفا والمروةِ، وأنَّ ذلك سُنَّةٌ؟ قال: صدَقوا، إنَّ إبراهيمَ لمَّا أُمِر بالمناسِكِ، عرَضَ له الشيطانُ عندَ المَسْعى فسابَقَه، فسبَقَه إبراهيمُ، ثم ذهَب به جِبْريلُ إلى جَمْرةِ العَقَبةِ، فعرَضَ له شيطانٌ -قال يونُسُ: الشيطانُ- فرماه بسبْعِ حَصَياتٍ، حتى ذهَب، ثم عرَضَ له عندَ الجَمْرةِ الوُسْطى، فرماه بسبْعِ حَصَياتٍ، قال: قد تَلَّه للجَبينِ -قال يونُسُ: وثَمَّ تَلَّه للجَبينِ- وعلى إسماعيلَ قميصٌ أبيضُ، وقال: يا أبَتِ، إنَّه ليس لي ثوبٌ تُكفِّنُني فيه غيرُه، فاخلَعْه حتى تُكَفِّنُني فيه، فعالَجَه ليخلَعَه، فنُودِيَ من خلفِه: { أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } [ الصافات: 105 ] فالتفَتَ إبراهيمُ، فإذا هو بكبشٍ أبيضَ، أقرَنَ، أعيَنَ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لقد رأيتُنا نتبَعُ ذلك الضَّربَ من الكِباشِ، قال: ثم ذهَب به جِبْريلُ إلى الجَمْرةِ القُصْوى، فعرَضَ له الشيطانُ، فرماه بسبْعِ حَصَياتٍ؛ حتى ذهَب، ثم ذهَب به جِبْريلُ إلى مِنًى، قال: هذا مِنًى -قال يونُسُ: هذا مُناخُ الناسِ- ثم أتى به جَمْعًا، فقال: هذا المَشعَرُ الحرامُ، ثم ذهَب به إلى عَرَفةَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هل تدري لِمَ سُمِّيتْ عَرَفةَ؟ قلتُ: لا.
قال: إنَّ جِبْريلَ قال لإبراهيمَ: عرَفتَ -قال يونُسُ: هل عرَفتَ؟- قال: نعَمْ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: فمِن ثَمَّ سُمِّيتْ عَرَفةَ، ثم قال: هل تدري كيفَ كانَتِ التَّلْبيةُ؟ قلتُ: وكيفَ كانت؟ قال: إنَّ إبراهيمَ لما أُمِر أنْ يُؤذِّنَ في الناسِ بالحَجِّ، خفَضتْ له الجبالُ رؤوسَها، ورُفِعتْ له القُرَى، فأذَّنَ في الناسِ بالحَجِّ.
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج المسند لشعيب
الصفحة أو الرقم: 2707 | خلاصة حكم المحدث : رجاله ثقات
التخريج : أخرجه مسلم ( 1264 )، وأبو داود ( 1885 ) مختصراً، وأحمد ( 2707 ) واللفظ له
كان التابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ رَضيَ
اللهُ عنهم فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ، وكانوا مِن أحرَصِ الناسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ التابِعيُّ أبو الطُّفَيلِ عامِرُ بنُ واثِلةَ: "قُلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: يَزعُمُ قَومُكَ أنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، رَمَلَ بالبَيتِ"،
أي: أسرَعَ في الطَّوافِ حَولَ الكَعبةِ، مع مُقارَبةِ الخُطى، دونَ الجَريِ والعَدْوِ والرَّكضِ، "وأنَّ ذلك سُنَّةٌ؟" فيَزعُمونَ أنَّ الرَّمَلَ والإسراعَ في الطَّوافِ حَولَ الكَعبةِ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، فقال ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ
اللهُ عنهما: "صَدَقوا" في بَعضِ المَعاني، "وكَذَبوا"،
أي: أخطَؤوا في بعضِها، والعَرَبُ يَقولونَ:
( كَذَبتَ ) مَوضِعَ
( أخطَأتَ )، "قُلتُ: وما صَدَقوا وكَذَبوا؟! قال: صَدَقوا، رَمَلَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالبَيتِ، وكَذَبوا؛ ليس بسُنَّةٍ" ثم بَيَّنَ سَبَبَ الرَّمَلِ والإسراعِ، وبَيَّنَ مَعنى قَولِه: "صَدَقوا وكَذَبوا"، فقال رَضيَ
اللهُ عنه: "إنَّ قُرَيشًا قالت زَمَنَ الحُدَيبيَةِ" وكان ذلك في ذي القَعدةِ سَنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجرةِ، والحُدَيبيَةُ: بِئرٌ قَريبةٌ مِن مَكةَ،
وفيها كان الصُّلحُ بَينَ المُسلِمينَ وكُفَّارِ قُرَيشٍ، "دَعَوْا مُحمدًا وأصحابَه حتى يَموتوا مَوتَ النَّغَفِ" وهو دودٌ صَغيرٌ يَكونُ في أنْفِ الحَيَوانِ المَريضِ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: " فلَمَّا صالَحوه على أنْ يَقدَموا مِنَ العامِ المُقبِلِ، يُقيموا بمَكةَ ثَلاثةَ أيَّامٍ" يَعتَمِرونَ فيها، "فقَدِمَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُشرِكونَ" واقِفونَ "مِن قِبَلِ قُعَيقِعانَ" وهو: جَبَلٌ في مَكةَ، كانت قُرَيشٌ مُشرِفةً مِن عليه، "فقال رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه: ارمُلوا بالبَيتِ ثَلاثًا"؛ لِتَرى قُرَيشٌ قُوَّتَهم وجَلَدَهم؛ لِيَغتاظوا.
ثم قال ابنُ عَبَّاسٍ "وليس بسُنَّةٍ" وليس على المُسلِمينَ اليَومَ الاتِّباعُ بالرَّمَلِ في الطَّوافِ.
قال أبو الطُّفَيلِ: "قُلتُ: ويَزعُمُ قَومُكَ أنَّه طافَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ" وهو راكِبٌ "على بَعيرٍ" وهو الجَمَلُ، "وأنَّ ذلك سُنَّةٌ.
فقال: صَدَقوا، وكَذَبوا، فقُلتُ: وما صَدَقوا وكَذَبوا؟! فقال: صَدَقوا؛ قد طافَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ على بَعيرٍ، وكَذَبوا؛ ليس بسُنَّةٍ"، ثم بَيَّنَ سَبَبَ رُكوبِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الجَمَلَ في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، فقال رَضيَ
اللهُ عنه: "كان الناسُ لا يُدفَعونَ" لا يَدْفَعُهم أحدٌ ولا يَبتَعِدونَ "عن رَسولِ
اللهِ، ولا يُصرَفونَ عنه" ولا يَصرِفُهم أحدٌ ولا يَنفَضُّونَ عنه، "فطافَ على بَعيرٍ لِيَسمَعوا كَلامَه، ولا تَنالَه أيديهم"، فيُبيِّنَ لِلجَميعِ الأحكامَ، ويُجيبَ عن أسئِلَتِهم، فيَسمَعَه الجَميعُ ويَنظُروا إليه ويَرَوْه، مع إمكانيَّةِ مُتابَعَتِه السَّعيَ.
"قُلتُ: ويَزعُمُ قَومُكَ أنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ سَعَى بَينَ الصَّفا والمَروةِ، وأنَّ ذلك سُنَّةٌ.
قال: صَدَقوا" في أنَّ السَّعيَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ سُنَّةٌ، ثم بَيَّنَ أصلَ هذه السُّنَّةِ، فقال: "إنَّ إبراهيمَ لَمَّا أُمِرَ بالمَناسِكِ، عَرَضَ له الشَّيطانُ" ظَهَرَ له الشَّيطانُ "عِندَ المَسعى" بَينَ الصَّفا والمَروةِ "فسابَقَه"؛ لِيَشغَلَه عنِ السَّعيِ "فسَبَقَه إبراهيمُ" وأتَمَّ سَعيَه للهِ دونَ النَّظَرِ إلى الشَّيطانِ، "ثم ذَهَبَ به جِبريلُ إلى جَمرةِ العَقَبةِ" وهي الجَمرةُ الكُبرى، والعَقَبةُ مِنَ الشَّيءِ: المَوضِعُ المُرتَفِعُ منه، والعَقَبةُ حَدُّ مِنًى مِن جِهةِ مَكةَ "فعَرَضَ له شَيطانٌ -قال يُونُسُ: الشَّيطانُ- فرَماه بسَبعِ حَصَياتٍ" وهي سَبعُ أحجارٍ صِغارٍ، وهذا تَصغيرٌ لِقَدْرِ الشَّيطانِ "حتى ذَهَبَ" غاصَ في الأرضِ، "ثم عَرَضَ له عِندَ الجَمرةِ الوُسطى، فرَماه بسَبعِ حَصَياتٍ"، وتَكرارُ ظُهورِ الشَّيطانِ يَدُلُّ على تَكرارِ مُحاوَلَتِه إغواءَ إبراهيمَ وإثناءَه عن طاعةِ
اللهِ، وعن ذَبحِ ابنِه إسماعيلَ، كما رأى في رُؤياه، "قال: قد تَلَّه لِلجَبينِ -قال يُونُسُ: وثَمَّ تَلَّه لِلجَبينِ-" فألقى إبراهيمُ وَلَدَه إسماعيلَ على وَجهِه وجَبينِه، لِيُضجِعَه فيَذبَحَه، وقدِ انكَبَّ لِوَجهِه، لِئَلَّا يَنظُرَ وَقتَ الذَّبحِ إلى وَجهِه "وعلى إسماعيلَ قَميصٌ أبيَضُ" يَرتَديه "وقال: يا أبَتِ، إنَّه ليس لي ثَوبٌ تُكَفِّنُني فيه غَيرُه، فاخلَعْه حتى تُكَفِّنَني فيه، فعالَجَه لِيَخلَعَه"،
أي: حاوَلَ أن يَخلَعَ عنه القَميصَ "فنُوديَ مِن خَلفِه:
{ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } [
الصافات: 104 - 105 ]" قد فَعَلتَ ما أُمِرتَ به؛ فإنَّكَ وَطَّنتَ نَفْسَكَ على ذلك، وفَعَلتَ كُلَّ سَبَبٍ، ولم يَبقَ إلَّا إمْرارُ السِّكِّينِ على حَلقِه "فالتَفَتَ إبراهيمُ" إلى الصَّوتِ الذي يُناديه "فإذا هو بكَبشٍ أبيَضَ، أقرَنَ" له قَرنانِ "أعيَنَ" واسِعِ العَينَيْنِ جَميلِ المَنظَرِ "قال ابنُ عَبَّاسٍ: لقد رأيتُنا نَتبَعُ ذلك الضَّربَ مِنَ الكِباشِ" فنَبحَثُ عن الكِباشِ التي بهذه الصِّفاتِ لِلأُضحيَّةِ والهَدْيِ، "قال: ثم ذَهَبَ به جِبريلُ إلى الجَمرةِ القُصوى" وهي الجَمرةُ الصُّغرى "فعَرَضَ له الشَّيطانُ، فرَماه بسَبعِ حَصَياتٍ؛ حتى ذَهَبَ" واختَفى، أو ساخَ في الأرضِ، "ثم ذَهَبَ به جِبريلُ إلى مِنًى، قال: هذا مِنًى -قال يُونُسُ: هذا مَناخُ الناسِ-" حيث يُنيخونَ رَواحِلَهم ودَوابَّهم لِلمُكوثِ في مِنًى ولِلنَّحرِ فيها أيَّامَ التَّشريقِ، "ثم أتَى به جَمْعًا" وهو المُزدَلِفةُ "فقال: هذا المَشعَرُ الحَرامُ، ثم ذَهَبَ به إلى عَرَفةَ" حيث يَقِفُ به الحَجيجُ في يَومِ التاسِعِ مِن ذي الحِجَّةِ "فقال ابنُ عَبَّاسٍ: هل تَدري لِمَ سُمِّيتْ عَرَفةَ؟ قُلتُ: لا.
قال: إنَّ جِبريلَ قال لِإبراهيمَ: عَرَفتَ -قال يُونُسُ: هلْ عَرَفتَ؟-"، يعني: أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ سألَ إبراهيمَ الخَليلَ: هل عَرَفتَ المَشاعِرَ والأحكامَ؟ "قال: نَعَمْ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ: فمِن ثَمَّ سُمِّيتْ عَرَفةَ"؛ نِسبةً إلى المَعرِفةِ بالأماكِنِ والمَشاعِرِ المُقدَّسةِ.
"ثم قال: هل تَدري كيف كانتِ التَّلبيةُ؟ قُلتُ: وكيف كانت؟ قال: إنَّ إبراهيمَ لَمَّا أُمِرَ أنْ يُؤذِّنَ في الناسِ بالحَجِّ، خَفَضتْ له الجِبالُ رُؤوسَها، ورُفِعتْ له القُرى، فأذَّنَ في الناسِ بالحَجِّ" فنادَى في الناسِ بالحَجِّ أنَّ
اللهَ قد فَرَضَ عليكم حَجَّ بَيتِه الحَرامِ، فحُجُّوا، فمَعنى التَّلبيةِ إجابةُ دَعوةِ إبراهيمَ حين أذَّنَ في الناسِ بالحَجِّ، وقد وَرَدَ أنَّ تَلبيةَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ التي عَلَّمَ النَّاسَ إيَّاها: "كانت بقَولِ: لَبَّيكَ اللَّهمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لَبَّيكَ، إنَّ الحَمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شَريكَ لكَ" ومَعناها: إجابةٌ بَعدَ إجابةٍ لكَ يا
اللهُ،
أي: إجابةٌ لِدَعوةِ إبراهيمَ عليه السلام حين أذَّنَ في الناسِ بالحَجِّ، وقيلَ: معناها: اتِّجاهي لكَ، وقيلَ: مَحَبَّتي لكَ.
ثم دَعا مُقِرًّا بأنَّ الحَمدَ للهِ وَحدَه؛ لِأنَّ النِّعَمَ منه وَحدَه، والمُلكَ كُلَّه للهِ، لا شَريكَ له فيه.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم