حديث اذهب بي معك فقال لا حتى أستأمره فاستأمره فقال جئ به معك
أحاديث نبوية | تاريخ الإسلام | حديث سلمان
«كانَ سلمانُ من أهلِ رامَهرمزَ فجاءَ راهبٌ إلى جبالِها يتعبَّدُ فكان يأتيهِ ابنُ دِهقانِ القريةِ قالَ: ففطِنتُ له فقلتُ: اذهَب بي معكَ، فقالَ: لا حتَّى أستأمرَهُ فاستأمرهُ، فقالَ: جِئ به معك فكنَّا نختلِفُ إليه حتَّى فطِن لذلك أهلُ القريةِ فقالوا: يا راهبُ إنَّك قد جاورتَنا فأحسنَّا جوارَكَ وإنَّا نراكَ تريدُ أن تفسِدَ علينا غلمانَنَا فاخرُج عن أرضِنا، قالَ: فخرَج وخرجتُ معه فجعَل لا يزدادُ ارتفاعًا في الأرضِ إلَّا ازداد معرفةً وكرامةً حتَّى أتى الموصِلَ، فأتى جبلًا من جبالِها فإذا رُهبانٌ سبعة كلُّ رجلٍ في غارٍ يتعبَّدُ فيه يصومُ ستَّةَ أيَّامٍ ولياليهنَّ حتَّى إذا كان يومُ السَّابعِ اجتَمعوا فأكلوا وتحدَّثوا. فقلتُ لصاحبي: اترُكني عندَ هؤلاءِ إن شئتَ؟ قالَ: فمضى وقالَ: إنَّكَ لا تطيقُ ما يُطيقُ هؤلاءِ وكان مَلِكٌ بالشَّامِ يقتُلُ النَّاسَ فأبى عليَّ إلَّا أن ننطلقَ فقلتُ: فإنِّي اخرج معَكَ قالَ: فانطلقتُ معهُ. فلمَّا انتهَينا إلى بابِ بيتِ المقدسِ فإذا على باب المسجِدِ رجلٌ مُقعدٌ قالَ: يا عبدَ اللَّهِ تصدَّقْ عليَّ فلم يكن معه شيءٌ يعطيهِ إيَّاهُ، فدخلَ المسجدَ فصلَّى ثلاثةَ أيَّامٍ ولياليهِنَّ ثمَّ إنه انصرف فخطَّ خطًّا وقالَ: إذا رأيت الظِّلَّ بلغ هذا الخطَّ فأيقِظني، فنام وقالَ: فرثَيتُ له من طولِ ما سهِرَ فلم أوقظْهُ حتَّى جاوزَ الخطَّ فاستيقَظ فقالَ: ألم أقل لك؟ قلتُ: إنِّي رثيتُ لكَ من طولِ ما سَهرتَ، فقالَ: ويحَكَ إنِّي أستحي من اللَّهِ أن تمضِيَ ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ لا أذكرُه فيها، ثمَّ خرج فقالَ له المقعَدُ: أنتَ رجلٌ صالحٌ دخلتَ وخرجتَ ولم تصَّدَّق عليَّ فنظرَ يمينًا وشِمالًا فلم ير أحدًا قالَ أرِني يدَك قُم بإذنِ اللَّهِ فقامَ ليسَ به علَّةٌ فشغَلنِيَ النَّظرُ إليه ومضى صاحبي في السَّكَك فالتفتُّ فلم أرَه فانطلقتُ أطلبُه. قالَ: ومرَّت رفقةٌ من العراقِ فاحتملوني فجاءوا بي إلى المدينةِ، فلمَّا قدمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ قالَ: ذكرتُ قولَهم إنَّهُ لا يأكُلُ الصَّدقةَ وَ لا يقبلُ الهديَّةَ فجئتُ بطعامٍ إليه فقالَ: ما هذا؟ قلتُ: صدقَةٌ. فقالَ لأصحابِهِ: كلوا ولم يذقْهُ، ثُمَّ إنِّي رجَعت وجمعت طُعيمًا فقالَ: ما هذا يا سَلمانُ؟ قلتُ: هديَّةٌ فأكل قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أخبِرني عن النَّصارى، قالَ: لا خيرَ فيهم، فقمتُ وأنا مثقَلٌ، قالَ: فرجعتُ إليه رجعَةً أخرى فقلتُ له: يا رسولَ اللَّهِ أخبِرني عن النَّصارَى، قالَ: لا خيرَ فيهِم ولا فيمَن يحبُّهم، فقمتُ وأنا مثقَلٌ، فأنزَلَ اللَّه تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى فأرسل إليَّ فقالَ: يا سلمانُ إنَّ صاحبَكَ أو أصحابَكَ مِن هؤلاءِ الَّذين ذكرَ اللَّهُ تعالى.»
سلمان
إسناده جيد
تاريخ الإسلام - رقم الحديث أو الصفحة: 3/511 -
شرح حديث كان سلمان من أهل رامهرمز فجاء راهب إلى جبالها يتعبد فكان يأتيه
كتب الحديث | صحة حديث | الكتب الستة
عن عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، قال: حدَّثَني سَلْمانُ الفارِسيُّ حَديثَه مِن فيه، قال: كُنتُ رَجُلًا فارسِيًّا مِن أهْلِ أصْبَهانَ مِن أهْلِ قَرْيةٍ منها يُقالُ لها جَيُّ، وكان أبي دِهْقانَ قَرْيَتِه، وكُنتُ أحَبَّ خَلقِ اللهِ إليه، فلم يَزَلْ به حُبُّه إيَّايَ حتى حَبَسَني في بَيتِه كما تُحبَسُ الجاريةُ، واجتَهَدْتُ في المَجوسيَّةِ حتى كُنتُ قَطِنَ النارِ الذي يُوقِدُها لا يَترُكُها تَخْبو ساعةً، قال: وكانَتْ لأبي ضَيْعةٌ عَظيمةٌ، قال: فشُغِلَ في بُنْيانٍ له يَومًا، فقال لي: يا بُنَيَّ، إنِّي قد شُغِلْتُ في بُنْيانٍ هذا اليومَ عن ضَيْعَتي، فاذْهَبْ فاطَّلِعْها، وأمَرَني فيها ببَعْضِ ما يُريدُ، فخَرَجْتُ أُريدُ ضَيْعَتَه، فمَرَرْتُ بكَنيسةٍ مِن كَنائِسِ النَّصارى، فسَمِعتُ أصْواتَهُم فيها وهُم يُصَلُّون، وكُنتُ لا أدْري ما أمْرُ الناسِ لِحَبْسِ أبي إيَّايَ في بَيتِه، فلمَّا مَرَرتُ بهِم، وسَمِعتُ أصْواتَهم، دَخَلتُ عليهم أنظُرُ ما يَصنَعون، قال: فلمَّا رَأيتُهُم أعْجَبَني صَلاتُهُم، ورَغِبتُ في أمْرِهِم، وقُلتُ: هذا -واللهِ- خَيرٌ مِن الدِّينِ الذي نَحنُ عليه، فواللهِ ما تَرَكْتُهم حتى غَرَبَتِ الشمسُ، وتَرَكْتُ ضَيْعةَ أبي ولم آتِها، فقُلتُ لهُم: أين أصْلُ هذا الدِّينِ؟ قالوا: بالشَّامِ قال: ثُمَّ رَجَعتُ إلى أبي، وقد بَعَثَ في طَلَبي وشَغَلْتُه عن عَمَلِه كلِّه، قال: فلمَّا جِئْتُه، قال: أيْ بُنَيَّ، أين كُنتَ؟ ألم أكُنْ عَهِدتُ إليكَ ما عَهِدتُ؟ قال: قلتُ: يا أبَتِ، مَرَرتُ بناسٍ يُصَلُّون في كَنيسةٍ لهُم فأعْجَبَني ما رَأيتُ مِن دِينِهِم، فواللهِ ما زِلتُ عِندَهُم حتى غَرَبَتِ الشمسُ، قال: أيْ بُنَيَّ، ليس في ذلك الدِّينِ خَيرٌ، دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ خَيرٌ منه! قال: قلتُ: كلَّا واللهِ إنَّه لخَيرٌ مِن دِينِنا، قال: فخافَني، فجَعَلَ في رِجْلي قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَني في بَيتِه، قال: وبَعَثتُ إلى النَّصارى فقُلتُ لهم: إذا قَدِمَ عليكم رَكْبٌ مِن الشَّامِ تُجَّارٌ مِن النَّصارى فأخْبِروني بهم، قال: فقَدِمَ عليهم رَكْبٌ مِن الشَّامِ تُجَّارٌ مِن النَّصارى، قال: فأخْبَروني بهم، قال: فقُلتُ لهُم: إذا قَضَوْا حَوائِجَهُم وأرادوا الرَّجْعةَ إلى بِلادِهِم فآذَنوني بهِم، قال: فلمَّا أرادوا الرَّجْعةَ إلى بِلادِهم أخْبَروني بهم، فألْقَيتُ الحَديدَ مِن رِجْلي، ثُمَّ خَرَجتُ معهم حتى قَدِمتُ الشَّامَ، فلمَّا قَدِمتُها، قُلتُ: مَن أفْضَلُ أهْلِ هذا الدِّينِ؟ قالوا: الأُسْقُفُّ في الكَنيسةِ، قال: فجِئْتُه، فقُلتُ: إنِّي قد رَغِبتُ في هذا الدِّينِ، وأحْبَبتُ أنْ أكونَ معَكَ أخْدِمُكَ في كَنيسَتِكَ، وأتَعَلَّمُ منكَ وأُصَلِّي معَكَ، قال: فادْخُلْ فدَخَلتُ معَه، قال: فكان رَجُلَ سُوءٍ؛ يَأمُرُهم بالصَّدَقةِ ويُرَغِّبُهم فيها، فإذا جَمَعوا إليه منها أشْياءَ، اكْتَنَزَه لنَفْسِه، ولم يُعْطِه المَساكينَ، حتى جَمَعَ سَبعَ قِلالٍ مِن ذَهَبٍ ووَرِقٍ، قال: وأبغَضْتُه بُغْضًا شَديدًا لِما رَأيتُه يَصنَعُ، ثُمَّ ماتَ، فاجتَمَعَتْ إليه النَّصارى لِيَدْفِنوه، فقُلتُ لهم: إنَّ هذا كان رَجُلَ سُوءٍ؛ يَأمُرُكم بالصَّدَقةِ ويُرَغِّبُكُم فيها، فإذا جِئْتُموه بها اكْتَنَزَها لنَفْسِه، ولم يُعْطِ المَساكينَ منها شَيئًا، قالوا: وما عِلْمُكَ بذلك؟ قال: قلتُ أنا أدُلُّكُم على كَنْزِه، قالوا: فدُلَّنا عليه، قال: فأرَيتُهُم مَوضِعَه، قال: فاسْتَخْرَجوا منه سَبْعَ قِلالٍ مَمْلوءةً ذَهَبًا ووَرِقًا، قال: فلمَّا رَأوْها قالوا: واللهِ لا نَدْفِنُه أبَدًا فصَلَبوه، ثُمَّ رَجَموه بالحِجارةِ، ثُمَّ جاؤوا برَجُلٍ آخَرَ، فجَعَلوه بمَكانِه، قال: يَقولُ سَلْمانُ: فما رَأيتُ رَجُلًا لا يُصلِّي الخَمْسَ، أرى أنَّه أفْضَلُ منه، أزْهَدُ في الدُّنْيا، ولا أرْغَبُ في الآخِرةِ، ولا أدْأبُ ليلًا ونَهارًا منه، قال: فأحبَبْتُه حُبًّا لم أُحِبَّه مَن قَبْلَه، فأقَمْتُ معَه زَمانًا، ثُمَّ حَضَرَتْه الوَفاةُ، فقُلتُ له: يا فُلانُ، إنِّي كُنتُ معَكَ وأحْبَبْتُكَ حُبًّا لم أُحِبَّه مَن قَبْلَكَ، وقد حَضَرَكَ ما تَرى مِن أمْرِ اللهِ، فإلى مَن تُوصي بي، وما تَأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعْلَمُ أحَدًا اليومَ على ما كُنتُ عليه، لقد هَلَكَ الناسُ وبَدَّلوا وتَرَكوا أكثَرَ ما كانوا عليه، إلَّا رَجُلًا بالمَوْصِلِ، وهو فُلانٌ، فهو على ما كُنتُ عليه، فالْحَقْ به، قال: فلمَّا ماتَ وغُيِّبَ، لَحِقتُ بصاحِبِ المَوْصِلِ فقُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا أوْصاني عِندَ مَوتِه أنْ ألْحَقَ بكَ، وأخْبَرَني أنَّكَ على أمْرِه، قال: فقال لي: أقِمْ عِندي فأقَمتُ عِندَه، فوَجَدْتُه خَيرَ رَجُلٍ على أمْرِ صاحِبِه، فلم يَلبَثْ أنْ ماتَ، فلمَّا حَضَرَتْه الوَفاةُ، قُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا أوْصى بي إليكَ، وأمَرَني باللُّحوقِ بكَ، وقد حَضَرَكَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ ما تَرى، فإلى مَن تُوصي بي، وما تَأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعْلَمُ رَجُلًا على مِثْلِ ما كُنَّا عليه إلَّا بِنَصِيبينَ، وهو فُلانٌ، فالْحَقْ به، قال: فلمَّا ماتَ وغُيِّبَ لَحِقتُ بصاحِبِ نَصِيبينَ، فجِئْتُه فأخبَرْتُه خَبَري، وما أمَرَني به صاحِبي، قال: فأقِمْ عِندي، فأقَمْتُ عِندَه، فوَجَدْتُه على أمْرِ صاحِبَيْه، فأقَمْتُ مع خَيرِ رَجُلٍ، فواللهِ ما لَبِثَ أنْ نَزَلَ به الموتُ، فلمَّا حَضَرَ، قُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا كان أوْصى بي إلى فُلانٍ، ثُمَّ أوْصى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي، وما تَأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما نَعلَمُ أحَدًا بَقِيَ على أمْرِنا آمُرُكَ أنْ تَأتيَه إلَّا رَجُلًا بِعَمُّوريَّةَ؛ فإنَّه على مِثْلِ ما نَحنُ عليه، فإنْ أحْبَبْتَ فأْتِه، قال: فإنَّه على أمْرِنا، قال: فلمَّا ماتَ وغُيِّبَ لَحِقتُ بصاحِبِ عَمُّوريَّةَ، وأخْبَرْتُه خَبَري، فقال: أقِمْ عِندي، فأقَمْتُ مع رَجُلٍ على هَدْيِ أصحابِه وأمْرِهِم، قال: واكتَسَبْتُ حتى كان لي بَقَراتٌ وغُنَيْمةٌ، قال: ثُمَّ نَزَلَ به أمْرُ اللهِ، فلمَّا حُضِرَ قُلتُ له: يا فُلانُ، إنِّي كُنتُ مع فُلانٍ، فأوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، وأوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، ثُمَّ أوْصى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي، وما تأْمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعْلَمُه أصْبَحَ على ما كُنَّا عليه أحَدٌ مِن الناسِ آمُرُكَ أنْ تَأتيَه، ولكنَّه قد أظَلَّكَ زَمانُ نَبيٍّ هو مَبْعوثٌ بدِينِ إبْراهيمَ يَخرُجُ بأرْضِ العَرَبِ، مُهاجِرًا إلى أرضٍ بَينَ حرَّتَينِ بَينَهُما نَخْلٌ، به عَلاماتٌ لا تَخْفى: يَأكُلُ الهَديَّةَ ولا يَأكُلُ الصَّدَقةَ، بَينَ كَتِفَيْه خاتَمُ النُّبوَّةِ، فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَلحَقَ بتلك البِلادِ فافْعَلْ، قال: ثُمَّ ماتَ وغُيِّبَ، فمَكَثْتُ بِعَمُّوريَّةَ ما شاءَ اللهُ أنْ أمكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بي نَفَرٌ مِن كَلْبٍ تُجَّارًا، فقُلتُ لهُم: تَحمِلوني إلى أرضِ العَرَبِ، وأُعْطيكُم بَقَراتي هذه وغُنَيْمَتي هذه؟ قالوا: نَعَمْ، فأعطَيْتُهُموها وحَمَلوني، حتى إذا قَدِموا بي واديَ القُرى ظَلَموني فباعوني مِن رَجُلٍ مِن يَهودَ عَبدًا، فكُنتُ عِندَه، ورَأيتُ النَّخلَ، ورَجَوْتُ أنْ تكونَ البَلَدَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي، ولم يَحِقْ لي في نَفْسي، فبَينَما أنا عِندَه، قَدِمَ عليه ابنُ عَمٍّ له مِن المَدينةِ مِن بَني قُرَيْظةَ فابْتاعَني منه، فاحْتَمَلَني إلى المَدينةِ، فواللهِ ما هو إلَّا أنْ رَأيْتُها فعَرَفْتُها بصِفةِ صاحِبي، فأقَمْتُ بها وبَعَثَ اللهُ رسولَه، فأقامَ بمكَّةَ ما أقامَ لا أسْمَعُ له بذِكْرٍ مع ما أنا فيه مِن شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هاجَرَ إلى المَدينةِ، فواللهِ إنِّي لَفي رَأسِ عَذْقٍ لسَيِّدي أعْمَلُ فيه بَعضَ العَمَلِ، وسَيِّدي جالِسٌ، إذْ أقبَلَ ابنُ عَمٍّ له حتى وَقَفَ عليه، فقال: فُلانُ، قاتَلَ اللهُ بَني قَيْلةَ، واللهِ إنَّهم الآنَ لَمُجتَمِعون بقُباءٍ على رَجُلٍ قَدِمَ عليهم مِن مكَّةَ اليومَ، يَزْعُمون أنَّه نَبيٌّ، قال: فلمَّا سَمِعْتُها أخَذَتْني العُرَواءُ، حتى ظَنَنتُ سأسْقُطُ على سيِّدي، قال: ونَزَلَتْ عن النَّخلةِ، فجَعَلتُ أقولُ لابنِ عمِّهِ ذلك: ماذا تقولُ؟ ماذا تقولُ؟ قال: فغَضِبَ سيِّدي فلَكَمَني لَكْمةً شَديدةً، ثُمَّ قال: ما لكَ ولهذا، أقْبِلْ على عَمَلِكَ، قال: قُلتُ: لا شَيءَ، إنَّما أرَدْتُ أنْ أسْتَثْبِتْه عمَّا قال، وقد كان عِندي شَيءٌ قد جَمَعْتُه، فلمَّا أمْسَيتُ أخَذْتُه ثُمَّ ذَهَبتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وهو بقُباءٍ، فدَخَلتُ عليه، فقُلتُ له: إنَّه قد بَلَغَني أنَّكَ رَجُلٌ صالِحٌ، ومعَكَ أصحابٌ لكَ غُرَباءُ ذَوو حاجَةٍ، وهذا شَيءٌ كان عِندي للصَّدَقةِ، فرَأيْتُكُم أحَقَّ به مِن غَيرِكُم، قال: فقَرَّبتُه إليه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ لِأصحابِه: كُلوا، وأمْسَكَ يَدَه فلم يَأكُلْ، قال: فقُلتُ في نفْسي: هذه واحِدةٌ، ثُمَّ انصَرَفتُ عنه فجَمَعتُ شَيئًا، وتَحَوَّلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ إلى المَدينةِ، ثُمَّ جِئْتُه به، فقُلتُ: إنِّي رَأيتُكَ لا تَأكُلُ الصَّدَقةَ، وهذه هَديَّةٌ أكرَمْتُكَ بها، قال: فأكَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ منها، وأمَرَ أصحابَه فأكَلوا معَه، قال: فقُلتُ في نَفْسي: هاتانِ اثْنَتانِ، قال: ثُمَّ جِئتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وهو ببَقيعِ الغَرْقَدِ، قال: وقد تَبِعَ جِنازةً مِن أصحابِه، عليه شَمْلَتانِ له، وهو جالِسٌ في أصحابِه، فسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أنظُرُ إلى ظَهْرِه، هل أرَى الخاتَمَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي؟ فلمَّا رَآني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ استَدْبَرْتُه، عَرَفَ أنِّي أسْتَثْبِتُ في شَيءٍ وُصِفَ لي، قال: فألْقى رِداءَه عن ظَهْرِه، فنَظَرْتُ إلى الخاتَمِ فعَرَفْتُه، فانْكَبَبْتُ عليه أُقَبِّلُه وأبْكي، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: تَحَوَّلْ، فتَحَوَّلتُ، فقَصَصْتُ عليه حَديثي كما حَدَّثتُكَ يا ابنَ عبَّاسٍ، قال: فأُعجِبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ أنْ يَسمَعَ ذلك أصحابُه، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمانَ الرِّقُّ حتى فاتَه مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بَدْرٌ، وأُحُدٌ، قال: ثُمَّ قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: كاتِبْ يا سَلْمانُ، فكاتَبْتُ صاحِبي على ثَلاثِ مِئةِ نَخلةٍ، أُحْييها له بالفَقيرِ، وبأرْبَعينَ أُوقيَّةً، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ لِأصحابِه: أعِينوا أخاكُم، فأعانوني بالنَّخلِ: الرَّجُلُ بثَلاثينَ وَدِيَّةً، والرَّجُلُ بعِشْرينَ، والرَّجُلُ بخَمْسَ عَشْرةَ، والرَّجُلُ بعَشْرٍ؛ يَعْني: الرَّجُلُ بقَدْرِ ما عِندَه، حتى اجتَمَعَتْ لي ثلاثُ مِئةِ وَدِيَّةٍ، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: اذْهَبْ يا سَلْمانُ ففَقِّرْ لها، فإذا فَرَغْتُ فأْتِني أكونُ أنا أضَعُها بِيَدي، قال: ففَقَّرتُ لها، وأعانَني أصْحابي، حتى إذا فَرَغتُ منها جِئْتُه فأخبَرْتُه، فخَرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ معي إليها، فجَعَلْنا نُقَرِّبُ له الوَديَّ ويَضَعُه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بِيَدِه، فوالذي نَفْسُ سَلْمانَ بِيَدِه، ما ماتَتْ منها وَدِيَّةٌ واحِدةٌ، فأدَّيتُ النَّخلَ، وبَقِيَ علَيَّ المالُ، فأُتِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بمِثْلِ بَيْضةِ الدَّجاجةِ مِن ذَهَبٍ مِن بَعضِ المَغازي، فقال: ما فَعَلَ الفارِسيُّ المُكاتَبُ؟ قال: فدُعِيتُ له، فقال: خُذْ هذه فأدِّ بها ما عليكَ يا سَلْمانُ، فقُلتُ: وأين تَقَعُ هذه يا رسولَ اللهِ ممَّا علَيَّ؟ قال: خُذْها؛ فإنَّ اللهَ سيُؤَدِّي بها عنكَ، قال: فأخَذْتُها فوَزَنْتُ لهُم منها، والذي نَفْسُ سلَمْانَ بِيَدِه، أربَعينَ أُوقِيَّةً، فأوْفَيْتُهم حَقَّهُم، وعَتَقْتُ! فشَهِدتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ الخَندَقَ، ثُمَّ لم يَفُتْني معَه مَشهَدٌ.
الراوي : سلمان الفارسي | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج المسند لشعيب
الصفحة أو الرقم: 23737 | خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن
التخريج : أخرجه أحمد ( 23737 ) واللفظ له، والبزار ( 2500 )، والطحاوي في ( (شرح مشكل الآثار )) ( 4772 )
طَلَبُ الحَقِّ والبَحثُ عنه قيمةٌ كَبيرةٌ، تَستَحِقُّ العَناءَ؛ لِلوُصولِ إليها، ورُبَّما يُكلِّفُ صاحِبَه المَتاعِبَ في نَفْسِه ومالِه ودُنياه كُلِّها، ولكِنَّ صاحِبَ الإصرارِ هو الذي يَستَطيعُ تَحمُّلَ ذلك؛ لِلوُصولِ إلى الحَقِّ الناصِعِ الذي يُريدُه ويَعرِفُ صِفاتِه، وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لِبَعضِ ذلك مِن خِلالِ قِصَّةِ إسلامِ الصَّحابيِّ الجَليلِ سَلمانَ الفارِسيِّ، حيثُ قال عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه: "حَدَّثَني سَلمانُ الفارِسيُّ حَديثَه مِن فيه"، يعني: أنَّه أخَذَ القِصَّةَ مِن فَمِ صاحِبِها، وذلك أوثَقُ ما يَكونُ وأصدَقُه، "قال سَلمانُ: كُنتُ رَجُلًا فارِسيًّا مِن أهلِ أصبَهانَ، مِن أهلِ قَريةٍ منها يُقال لها: جَيٌّ، وكانَ أبي دِهقانَ قَريَتِه"، أي: رَئيسَ القَريةِ وزَعيمَها، "وكُنتُ أحَبَّ خَلقِ اللهِ إليه، فلم يَزَلْ به حُبُّه إيَّايَ حتى حَبَسَني في بَيتِه كما تُحبَسُ الجاريةُ"؛ خَوفًا عليه مِن أنْ يُصيبَه أذًى أو شَرٌّ "واجتَهَدتُ في المَجوسيَّةِ" وهي الدِّيانةُ التي يَعبُدُ فيها أصحابُها النارَ، "حتى كُنتُ قَطَنَ النارِ"، أي: خادِمَها، وأرادَ بَيانَ أنَّه كان مُلازِمًا لها لا يُفارِقُها، "الذي يُوقِدُها، لا يَترُكُها تَخبو ساعةً" فهو لا يَترُكُها تَنطَفئُ؛ لِتَكونَ مُستَمِرَّةَ الاشتِعالِ، "قال سَلمانُ: وكانت لِأبي ضَيعةٌ عَظيمةٌ" وهي الأرضُ الواسِعةُ والبُستانُ الكَبيرُ، وهو إشارةٌ إلى أنَّ أباه كان يُتابِعُ شَأنَها يَوميًّا، "فشُغِلَ في بُنيانٍ له يَومًا" لم يَذهَبْ إليها كما هي عادَتُه، وانشَغَلَ في بِناءٍ له، "فقال لي: يا بُنَيَّ، إنِّي قد شُغِلتُ في بُنيانٍ هذا اليَومَ عن ضَيعَتي، فاذهَبْ فاطَّلِعْها" فتَعرَّفْ ما تَحتاجُه وارْعَها واعمَلْ فيها بمِثلِ عَمَلي، "وأمَرَني فيها ببَعضِ ما يُريدُ" كَلَّفَه بمُهِمَّاتٍ وشُؤونٍ يَعمَلُها في تلك الأرضِ، "فخَرَجتُ أُريدُ ضَيعَتَه، فمَرَرتُ بكَنيسةٍ مِن كَنائِسِ النَّصارى" التي يَتعَبَّدونَ فيها "فسَمِعتُ أصواتَهم فيها وهم يُصلُّونَ" فسَمِعَها سَلمانُ وتَنَبَّه لِطَريقةِ عِبادَتِهم، والنَّصارى: همُ الذين كانوا على دِينِ نَبيِّ اللهِ عيسى ابنِ مَريَمَ عليه السَّلامُ، ولَكِنَّهم حَرَّفوا الإنجيلَ، فصارَ منهم مَن يَعبُدُ عيسى، ومنهم مَن يَزعُمُ أنَّه ابنُ اللهِ، ومنهم مَن قال: إنَّه ثالِثُ ثَلاثةٍ، "وكُنتُ لا أدري ما أمْرُ الناسِ" ماذا يَفعَلونَ، وما شأنُهم هذا الذي يَقومونَ به، وكان ذلك "لِحَبسِ أبي إيَّايَ في بَيتِه، فلَمَّا مَرَرتُ بهم، وسَمِعتُ أصواتَهم، دَخَلتُ عليهم أنظُرُ ما يَصنَعونَ"، وهذا مِن بابِ الفُضولِ الإنسانيِّ؛ لِاستِكشافِ الأُمورِ التي لا يَعرِفُها "فلَمَّا رأيتُهم أعجَبَني صَلاتُهم، ورَغِبتُ في أمْرِهم" أرَدتُ الدُّخولَ في دينِهم، "وقُلتُ: هذا -واللهِ- خَيرٌ مِنَ الدِّينِ الذي نحن عليه" وهذا مِن تأثيرِ الفِطرةِ التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها، حيث يَهتَدي العاقِلُ إلى ما هو أقرَبُ لِلحَقِّ شَيئًا فشَيئًا، حتى يَهتَديَ لِعَينِ الحَقِّ، وقال سَلمانُ رَضيَ اللهُ عنه: "فواللهِ ما تَرَكتُهم حتى غَرَبتِ الشَّمسُ" فمَكَثَ عِندَهم في كَنيسَتِهم طَوالَ اليَومِ، "وتَرَكتُ ضَيعةَ أبي، ولم آتِها" فلم أذهَبْ إلى أرضِ أبي وبُستانِه؛ وذلك لِانشِغالِه بأمْرِ دِينِ النَّصارى "فقُلتُ لهم: أين أصْلُ هذا الدِّينِ؟" أين مَنبَعُه ومَبدَؤُه الذي بدأ منه؟ "قالوا: بالشَّامِ"، وذلك حيث وُلِدَ السَّيِّدُ المَسيحُ عيسى ابنُ مَريَمَ، ونَزَلتْ عليه الرِّسالةُ، ودَعا إلى اللهِ في بِلادِ الشَّامِ القَديمةِ، وفيها الناصِرةُ، وبَيتُ المَقدِسِ، "قال: ثم رَجَعتُ إلى أبي، وقد بَعَثَ في طَلَبي" أرسَلَ إليه بَعضُهم لِيَبحَثَ عنه، ويَرُدَّه إليه، "وشَغَلتُه عن عَمَلِه كُلِّه" بمعنى أنَّ غيابَه عن أبيه طَوالَ يَومٍ جَعَلَه يَنشَغِلُ بالبَحثِ عن سَلمانَ ويَترُكُ ما كان عليه مِن أعمالٍ؛ اهتِمامًا لِأمْرِ ابنِه الذي غابَتْ أخبارُه، "قال سَلمانُ: فلَمَّا جِئتُه، قال: أيْ بُنَيَّ، أين كُنتَ؟ ألم أكُنْ عَهِدتُ إليكَ ما عَهِدتُ؟" طَلَبتُ منكَ الذَّهابَ لِلبُستانِ ورِعايةَ أرضِنا "قُلتُ: يا أبَتِ، مَرَرتُ بناسٍ يُصلُّونَ في كَنيسةٍ لهم، فأعجَبَني ما رَأيتُ مِن دِينِهم، فواللهِ ما زِلتُ عِندَهم حتى غَرَبتِ الشَّمسُ، قال: أيْ بُنَيَّ، ليس في ذلك الدِّينِ خَيرٌ، دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ خَيرٌ منه" وهذا مِن بابِ حُبِّ الرَّجُلِ ما وَجَدَ عليه آباءَه الأقدَمينَ وتقليدِه لهم تَقليدًا أعمَى؛ فهو يَرى أنَّ المَجوسيَّةَ خَيرٌ مِنَ النَّصرانيَّةِ؛ بسببِ اتِّباعِ الآباء! "قال: قُلتُ: كَلَّا واللهِ، إنَّه لَخَيرٌ مِن دِينِنا.
قال: فخافَني"، أي: خافَ أنْ أترُكَ المَجوسيَّةَ وأدخُلَ النَّصرانيَّةَ "فجَعَلَ في رِجلي قَيدًا" فرَبَطَه بقَيدٍ في رِجلِه حتى لا يَتحَرَّكَ ولا يَخرُجَ مِن بَيتِه، "ثم حَبَسَني في بَيتِه، قال: وبَعَثتُ إلى النَّصارى" أرسَلَ إليهم خَبَرًا، ولَعَلَّه بَعَثَ إليهم بَعضَ الخَدَمِ مِمَّن كانوا في بَيتِ أبيه مِمَّن يَثِقُ فيهم، وهكذا يُقيِّضُ اللهُ لكل مَن أرادَ الحقَّ مَن يُساعِدُه، "فقُلتُ لهم: إذا قَدِمَ عليكم رَكبٌ"، أي: قافِلةٌ "مِنَ الشَّامِ، تُجَّارٌ مِنَ النَّصارى، فأخبِروني بهم.
قال: فقَدِمَ عليهم رَكبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصارى"؛ حيث كانتِ التِّجارةُ بَينَ بِلادِ الشَّامِ والفُرسِ مُنتَشِرةً، ويَتَبادَلونَ القَوافِلَ والتِّجارةَ على عادةِ ذلك الزَّمانِ "قال: فأخبَروني بهم" بمَجيءِ تلك القافِلةِ، "فقُلتُ لهم: إذا قَضَوْا حَوائِجَهم" وأخَذوا ما يَحتاجُونَ إليه مِن بِلادِ فارِسَ، "وأرادوا الرَّجعةَ إلى بِلادِهم فآذِنوني بهم"، أي: فأعْلِموني بذلك "فلَمَّا أرادوا الرَّجعةَ إلى بِلادِهم أخبَروني بهم، فألقَيتُ الحَديدَ مِن رِجلي"، وذلك بأنْ فَكَّ قَيدَ الحَديدِ مِن رِجلِه، هارِبًا مِن بَيتِ أبيه.
قال سَلمانُ رضِيَ اللهُ عنه: "ثم خَرَجتُ معهم حتى قَدِمتُ الشامَ، فلَمَّا قَدِمتُها، قُلتُ: مَن أفضَلُ أهلِ هذا الدِّينِ؟ قالوا: الأسقُفُ في الكَنيسةِ" وهو الرَّاهِبُ، كَبيرُ النَّصارى في دَيرِهم وكَنيسَتِهم "فجِئتُه، فقُلتُ: إنِّي قد رَغِبتُ في هذا الدِّينِ"، أي: إنَّه آمَنَ بالنَّصرانيَّةِ، "وأحبَبتُ أنْ أكونَ معكَ أخدُمُكَ في كَنيسَتِكَ، وأتعَلَّمُ منكَ وأصَلِّي معكَ" فأراد أنْ يَلزَمَه لِيتعَلَّمَ منه هذا الدِّينَ، "قال: فادخُلْ.
فدَخَلتُ معه، قال: فكانَ رَجُلَ سَوْءٍ"، أي: فكان سَيِّئَ الخُلُقِ، وقَليلَ الدِّينِ؛ وذلك أنَّه كان "يأمُرُهم بالصَّدَقةِ ويُرغِّبُهم فيها"، أي: يأمُرُ الناسَ بإخراجِ الصَّدَقاتِ مِن أموالِهم "فإذا جَمَعوا إليه منها أشياءَ" وهو مُستأمَنٌ على صَدَقاتِهم وتَوزيعِها على مَن يَستَحِقُّها، ولكِنَّه لِسوءِ خُلُقِه "اكتَنَزَه لِنَفْسِه" بأنْ أخفاها وأخَذَها لِنَفْسِه، "ولم يُعطِه المَساكينَ، حتى جَمَعَ سَبعَ قِلالٍ مِن ذَهَبٍ ووَرِقٍ" والقِلالُ: آنيةٌ كَبيرةٌ مِنَ الفَخَّارِ والخَزَفِ، والوَرِقُ: الفِضَّةُ، "قال: وأبغَضتُه بُغضًا شَديدًا" فكَرِهتُه جِدًّا؛ "لِمَا رأيتُه يَصنَعُ" مِن سُوءِ الخُلُقِ والدِّينِ وجَمعِ الصَّدَقاتِ لِنَفْسِه، "ثم ماتَ، فاجتَمَعتْ إليه النَّصارى لِيَدفِنوه، فقُلتُ لهم: إنَّ هذا كان رَجُلَ سَوْءٍ؛ يأمُرُكم بالصَّدَقةِ ويُرغِّبُكم فيها، فإذا جِئتُموه بها اكتَنَزَها لِنَفْسِه، ولم يُعطِ المَساكينَ منها شَيئًا" فأخبَرَهم سَلمانُ بأمْرِه لَمَّا ماتَ، "قالوا: وما عِلمُكَ بذلك؟ قال: قُلتُ أنا أدُلُّكم على كَنزِه"؛ لِيَكونَ دَليلًا على دَعواه "قالوا: فدُلَّنا عليه.
قال: فأرَيتُهم مَوضِعَه، قال: فاستَخرَجوا منه سَبعَ قِلالٍ مَملوءةٍ ذَهَبًا ووَرِقًا، قال: فلَمَّا رأوْها قالوا: واللهِ لا نَدفِنُه أبَدًا، فصَلَبوه" على عَمودٍ على هَيئةِ الصَّليبِ، "ثم رَجَموه بالحِجارةِ" فضَرَبوه بها وهو مَيِّتٌ؛ انتِقامًا منه، وتَنقيصًا مِن قَدْرِه، "ثم جاؤوا برَجُلٍ آخَرَ، فجَعَلوه بمَكانِه"؛ لِيَكونَ راهبًا مَكانَه، يَقولُ سَلمانُ رَضيَ اللهُ عنه: "فما رأيتُ رَجُلًا لا يُصَلِّي الخَمسَ، أرى أنَّه أفضَلُ منه، أزهَدُ في الدُّنيا" وأكثَرُ بُعدًا عن مَفاتِنِ الدُّنيا والتَّقلُّلِ منها، "ولا أرغَبُ في الآخِرةِ" بالعَمَلِ لها العَمَلَ الصالِحَ والعِبادةَ الخالِصةَ للهِ، "ولا أدْأبُ لَيلًا ونَهارًا منه" بكَثرةِ الصَّلاةِ والأعمالِ الصَّالِحةِ على الدَّوامِ، "فأحبَبتُه حُبًّا لم أُحِبَّه مَن قَبلَه، فأقَمتُ معه زَمانًا" فصاحَبَه مُدَّةً مِنَ الزَّمانِ، "ثم حَضَرتْه الوَفاةُ، فقُلتُ له: يا فُلانُ، إنِّي كُنتُ معكَ وأحبَبتُكَ حُبًّا لم أُحِبَّه مَن قَبلَكَ، وقد حَضَركَ ما تَرى مِن أمْرِ اللهِ" مِنَ المَوتِ؛ "فإلى مَن تُوصي بي؟ وما تأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعلَمُ أحَدًا اليَومَ على ما كُنتُ عليه" مِن حُسنِ الدِّيانةِ والعَمَلِ الصَّالِحِ والتَّجرُّدِ للهِ، ولَعَلَّه يُشيرُ بذلك إلى أنَّه كان على التَّوحيدِ للهِ عَزَّ وجَلَّ، "لقد هَلَكَ الناسُ وبَدَّلوا وتَرَكوا أكثَرَ ما كانوا عليه" مِن أمْرِ الدِّينِ الحَقِّ الذي جاء به عيسى عليه السَّلامُ "إلَّا رَجُلًا بالمَوصِلِ" وهي بَلدةٌ في العِراقِ، وتَتبَعُ الآنَ مَركَزَ مُحافَظةِ نِينَوَى، وتَبعُدُ عن بَغدادَ مَسافةً تُقارِبُ حوالَيْ 465 كلم، "وهو فُلانٌ، فهو على ما كُنتُ عليه؛ فالْحَقْ به" فكُنْ معه ولازِمْه، "قال: فلَمَّا ماتَ وغُيِّبَ"، أي: دُفِنَ "لَحِقتُ بصاحِبِ المَوصِلِ، فقُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا أوصاني عِندَ مَوتِه أنْ ألحَقَ بِكَ، وأخبَرَني أنَّكَ على أمْرِه.
قال: فقال لي: أقِمْ عِندي" فقَبِلَ هذا القِسِّيسُ مُصاحَبةَ سَلمانَ له، قال سَلمانُ رَضيَ اللهُ عنه: "فأقَمتُ عِندَه، فوَجَدتُه خَيرَ رَجُلٍ على أمْرِ صاحِبِه" مِن حُسنِ الدِّيانةِ مع العَمَلِ الصَّالِحِ والعِبادةِ للهِ وحِفظِ الأماناتِ، "فلم يَلبَثْ أنْ ماتَ، فلَمَّا حَضَرتْه الوَفاةُ، قُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا أوْصى بي إليكَ، وأمَرَني باللُّحوقِ بكَ، وقد حَضَرَكَ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ما تَرى" مِنَ المَوَتِ "فإلى مَن توصي بي؟ وما تأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعلَمُ رَجُلًا على مِثلِ ما كُنَّا عليه إلَّا بنَصيبينَ" وهي مَدينةٌ تاريخيَّةٌ في الجَزيرةِ الفُراتيَّةِ العُليا، ومِنطَقةٌ إداريَّةٌ تَقَعُ حاليًّا ضِمنَ حُدودِ تُركيا، وتَتبَعُ اليَومَ مُحافَظةَ ماردينَ في جَنوبِ شَرقِ تُركيا، "وهو فُلانٌ، فالحَقْ به" فكُنْ معه ولازِمْه، "فلَمَّا ماتَ وغُيِّبَ لَحِقتُ بصاحِبِ نَصيبينَ، فجِئتُه فأخبَرتُه خَبَري، وما أمَرَني به صاحِبي، قال: فأقِمْ عِندي.
فأقَمتُ عِندَه، فوَجَدتُه على أمْرِ صاحِبَيْه" مِن حُسنِ الدِّيانةِ وحُسنِ العَمَلِ مع صَلاحِه، "فأقَمتُ مع خَيرِ رَجُلٍ، فواللهِ ما لَبِثَ أنْ نَزَلَ به المَوتُ، فلَمَّا حَضَرَ، قُلتُ له: يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا كان أوصى بي إلى فُلانٍ، ثم أوصَى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي؟ وما تأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما نَعلَمُ أحَدًا بَقيَ على أمْرِنا آمُرُكَ أنْ تأتيَه إلَّا رَجُلًا بعَمُّوريَّةَ" وهي مَدينةٌ كَبيرةٌ كانتْ لِلرُّومِ، فَتَحَها الخَليفةُ المُعتَصِمُ العَبَّاسيُّ سَنةَ 223هـ، وتَقَعُ الآنَ في وَسَطِ غَربِ هَضَبةِ الأناضولِ التُّركيَّةِ؛ "فإنَّه على مِثلِ ما نحن عليه، فإنْ أحبَبتَ فأْتِه.
قال: فإنَّه على أمْرِنا.
قال: فلَمَّا ماتَ وغُيِبَّ" في الترابِ ودُفِنَ، وهذا يَدُلُّ على وَفاءِ سَلمانَ لِمُعلِّمِه، حيثُ انتَظَرَ حتى شارَكَ في دَفنِه، وقال سَلمانُ: "لَحِقتُ بصاحِبِ عَمُّوريَّةَ، وأخبَرتُه خَبَري، فقال: أقِمْ عِندي.
فأقَمتُ مع رَجُلٍ على هَدْيِ أصحابِه وأمْرِهم" مِنَ الالتِزامِ بحُسنِ الدِّيانةِ، "قال: واكتَسَبتُ" بالعَمَلِ "حتى كانَ لي بقَراتٌ وغُنَيمةٌ، قال: ثم نَزَلَ به أمْرُ اللهِ، فلَمَّا حُضِرَ"، أي: جاءَ الراهبَ مَرَضُ المَوتِ "قُلتُ له: يا فُلانُ، إنِّي كُنتُ مع فُلانٍ، فأَوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، وأَوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، ثم أَوْصى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي؟ وما تأمُرُني؟ قال: أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعلَمُه أصبَحَ على ما كُنَّا عليه أحَدٌ مِنَ الناسِ آمُرُكَ أنْ تأتيَه" وهذا لِعِلمِه بتَبديلِ الناسِ دِينَهم وبُعدِهم عنِ الحَقِّ، "ولكِنَّه قد أظَلَّكَ زَمانُ نَبيٍّ هو مَبعوثٌ بدِينِ إبراهيمَ" وهو دِينُ التَّوحيدِ للهِ رَبِّ العالَمينَ "يَخرُجُ بأرضِ العَرَبِ، مُهاجِرًا إلى أرضٍ بَينَ حَرَّتَيْنِ، بَينَهما نَخلٌ"، والحَرَّةُ: هي الأرضُ ذاتُ الحِجارةِ السَّوداءِ، والمُرادُ بها: المَدينةُ المُنوَّرةُ، وكانتْ حِينَئِذٍ تُسَمَّى يَثرِبَ، "به عَلاماتٌ لا تَخفَى"، يعني: أنَّ لِهذا النَّبيِّ عَلاماتٍ ظاهِرةً قد سَبَقَ ذِكْرُها في كُتُبِهم، ويَعلَمُها رُهبانُهم، ومِن تلك العَلاماتِ، "يأكُلُ الهَديَّةَ" التي تُهدى إليه؛ لِأنَّها دَليلُ مَحبَّةٍ، وتَخرُجُ برِضا الخاطِرِ مِن صاحِبِها، "ولا يأكُلُ الصَّدَقةَ" التي تُخرَجُ لِلفُقَراءِ والمَساكينِ؛ تكريمًا وتشريفًا له؛ لأنَّها مِن أوساخِ النَّاسِ يَتطَهَّرونَ بها مِن ذُنوبِهم، ويَترَفَّعُ النَّبيُّ عن أكلِها "بَينَ كَتِفَيْه خاتَمُ النُّبوَّةِ" وهو مِمَّا وُصِفَ به في الإِنْجِيلِ والتَّوْرَاةِ، ومِن صِفَتِه التي جاءَتْ في الرِّواياتِ أنَّه مِثلُ بَيضةِ الحَمامةِ مُدوَّرٌ، يُشبِهُ لَونُه جَسَدَه، وقيلَ: عَظمٌ رَقيقٌ على طَرَفِ الكَتِفِ، حَولَه خيلانٌ، جَمعُ خالٍ: نُقطةٌ تَضرِبُ إلى السَّوادِ، وتُسَمَّى شامةً، وعليه شَعَراتٌ مُجتَمِعاتٌ تُغَطِّيه، "فإنِ استَطَعتَ أنْ تَلحَقَ بتلك البِلادِ فافعَلْ.
قال: ثم ماتَ وغُيِّبَ" في التُّرابِ، دُفِنَ "فمَكَثتُ بعَمُّوريَّةَ ما شاءَ اللهُ أنْ أمكُثَ، ثم مَرَّ بي نَفَرٌ مِن" قَبيلةِ "كَلبٍ تُجَّارًا" وكانت مِن أقوى القبائِلِ، حيث كانت تُسيطِرُ على الطُّرُقِ المُؤدِّيةِ لِلشَّامِ، وكانت لها صِلاتٌ وَثيقةٌ بقُرَيشٍ في مَكةَ قَبلَ الإسلامِ، "فقُلتُ لهم: تَحمِلوني إلى أرضِ العَرَبِ" فتُوَصِّلونَني إلى أرضِهم "وأُعطيكم بَقَراتي هذه، وغُنَيمَتي هذه؟" مُقابِلَ سَفَرِه وحَملِه معهم، "قالوا: نَعَمْ.
فأعطَيتُهموها وحَمَلوني" معهم في قافِلَتِهم وعلى دَوابِّهم "حتى إذا قَدِموا بي واديَ القُرى" وهو مِن أوديةِ الجَزيرةِ العَربيةِ التاريخيَّةِ، يَقَعُ بَينَ تَيماءَ وخَيبَرَ، اختُلِفَ على مَكانِه، ولكِنَّ أغلَبَ الإشاراتِ تُشيرُ إلى أنَّه الوادي المَعروفُ حاليًّا باسمِ وادي الجَزلِ، "ظَلَموني فباعوني مِن رَجُلٍ مِن يَهودَ عَبدًا" فغَدَروا به وجَعَلوه أسيرًا لهم، ثم باعوه، فصارَ مَملوكًا لِليَهوديِّ، قال سَلمانُ: "فكُنتُ عِندَه، ورأيتُ النَّخلَ، ورَجَوتُ أنْ تَكونَ البَلَدَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي" يَقصِدُ به راهِبَ عَمُّوريَّةَ الذي وَصَفَ له الأرضَ التي سيَخرُجُ منها النَّبيُّ مُحمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ولم يَحِقْ لي في نَفْسي" أي: لم أتأكَّدْ أنَّه المَكانُ الذي وَصَفَه لي الرَّاهِبُ "فبَينَما أنا عِندَه"، أي: عِندَ سَيِّدِه اليَهوديِّ الذي اشتَراه ويَخدُمُه، "قَدِمَ عليه ابنُ عَمٍّ له مِنَ المَدينةِ مِن بَني قُرَيظةَ" وهي قَبيلةٌ مِن قَبائِلِ اليَهودِ، كانتْ تَسكُنُ المَدينةَ، "فابتاعَني منه" اشتَراني منه، "فاحتَمَلَني إلى المَدينةِ، فواللهِ ما هو إلَّا أنْ رأيتُها فعَرَفتُها بصِفةِ صاحِبي" فتأكَّدَ سَلمانُ أنَّها هي المَدينةُ المَقصودةُ، قال: "فأقَمتُ بها، وبَعَثَ اللهُ رَسولَه" بالرِّسالةِ والتَّبليغِ لدِينِ الحقِّ، "فأقامَ بمَكةَ ما أقامَ، لا أسمَعُ له بذِكرٍ مع ما أنا فيه مِن شُغُلِ الرِّقِّ" حيثُ كانوا لا يَسمَحونَ لِعَبيدِهم بالخُروجِ أو مُخالَطةِ الناسِ، أو مَعرِفةِ الأخبارِ، إلَّا ما جاءَ عَفْوًا دونَ قَصدٍ، "ثم هاجَرَ" النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "إلى المَدينةِ، فوَاللهِ إنِّي لَفي رأْسِ عَذقٍ لِسَيِّدي"، أي: كُنتُ فَوقَ نَخلةٍ لِسَيِّدي، "أعمَلُ فيه بَعضَ العَمَلِ، وسَيِّدي جالِسٌ، إذْ أقبَلَ ابنُ عَمٍّ له حتى وَقَفَ عليه، فقال: فُلانُ، قاتَلَ اللهُ بَني قَيلةَ" يَقصِدُ الأنصارَ؛ لِأنَّ قَيلةَ هي أُمُّ الأوْسِ والخَزرَجِ، وهي قَيلةُ بِنتُ كاهِلِ بنِ عُذرةَ بنِ سَعدِ بنِ هَزيمٍ، "واللهِ إنَّهمُ الآنَ لَمُجتَمِعونَ بقُباءٍ" وهي قَريةٌ على بُعدِ ميلَيْنِ أو ثَلاثةٍ مِنَ المَدينةِ مِن جِهةِ القادِمِ مِن مَكةَ "على رَجُلٍ قَدِمَ عليهم مِن مَكةَ اليَومَ، يَزعُمونَ أنَّه نَبيٌّ.
قال: فلَمَّا سَمِعتُها أخَذَتْني العُرَواءُ" وهي الرِّعدةُ والرَّعشةُ مِنَ الخَوفِ أوِ الفَرَحِ أوِ المَرَضِ أو غَيرِ ذلك، "حتى ظَنَنتُ سأسقُطُ على سَيِّدي" مِن شِدَّةِ الرِّعدةِ، فلم أتماسَكْ، "قال: ونَزَلتُ عنِ النَّخلةِ، فجَعَلتُ أقولُ لابنِ عَمِّه ذلك: ماذا تَقولُ؟ ماذا تَقولُ؟ قال: فغَضِبَ سَيِّدي، فلَكَمَني لَكمةً شَديدةً" فضَرَبهَ بجُمعِ يَدِه ضَربةً شَديدةً، "ثم قال: ما لكَ ولِهذا؟ أقبِلْ على عَمَلِكَ" فأكمِلْه؛ فليس لِلعَبيدِ أنْ يَتكَلَّموا أو يَسألوا أو يَتدَخَّلوا في كَلامِ السَّادةِ والأحرارِ! "قُلتُ: لا شَيءَ، إنَّما أرَدتُ أنْ أستَثبِتَه عَمَّا قال" فأتأكَّدَ مِن صِحَّةِ كَلامِه ووُصولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ، "وقد كان عِندي شَيءٌ قد جَمَعتُه" مِنَ التَّمرِ أوِ الطَّعامِ، جَمَعَه لِنَفْسِه مِنَ العَمَلِ "فلَمَّا أمسَيتُ أخَذتُه ثم ذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بمَسجدِ قُباءٍ، فدَخَلتُ عليه، فقُلتُ له: إنَّه قد بَلَغَني أنَّكَ رَجُلٌ صالِحٌ، ومعك أصحابٌ لكَ غُرَباءُ ذَوو حاجةٍ" فُقَراءُ، وليس لهم مالٌ، ولا طَعامَ عِندَهم، "وهذا شَيءٌ كان عِندي لِلصَّدَقةِ" وهو قاصِدٌ بقَولِه ( لِلصَّدَقةِ ) مَعرِفةَ حَقيقَتِه، وهي إحْدَى العَلاماتِ التي أخبَرَه بها الرَّاهِبُ، "فرأيتُكم أحَقَّ به مِن غَيرِكم"؛ لِأنَّكم غُرَباءُ وفُقَراءُ "فقَرَّبتُه إليه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه: كُلوا.
وأمسَكَ يَدَه فلم يأكُلْ" مِن طَعامِ الصَّدَقةِ، "فقُلتُ في نَفْسي: هذه واحِدةٌ"، أي: فتأكَّدَ مِن أوَّلِ صِفةٍ وَصَفَها له الراهِبُ قَبلَ ذلك، "ثم انصَرَفتُ عنه فجَمَعتُ شَيئًا، وتَحوَّلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ" عِندَ بَني النَّجَّارِ أخوالِه، "ثم جِئتُه به، فقُلتُ: إنِّي رأيتُكَ لا تأكُلُ الصَّدَقةَ، وهذه هَديَّةٌ أكرَمتُكَ بها" فأعطَيتُكَ إيَّاها بطيبِ خاطِرٍ، "فأكَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منها، وأمَرَ أصحابَه فأكَلوا معه، قال: فقُلتُ في نَفْسي: هاتانِ اثنَتانِ.
قال: ثم جِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو ببَقيعِ الغَرقَدِ" البَقيعُ مِنَ الأرضِ: المَكانُ المُتَّسِعُ، ولا يُسَمَّى بَقيعًا إلَّا وفيه أشجارٌ أو أُصولُها، وبَقيعُ الغَرقَدِ: مَوضِعٌ بظاهِرِ المَدينةِ فيه قُبورُ أهلِها، كان به شَجَرُ الغَرقَدِ، فذَهَبَ وبَقيَ اسمُه، "وقد تَبِعَ جَنازةً مِن أصحابِه، عليه شَملَتانِ له" وهو كِساءٌ يَتغَطَّى به، ويتلَفَّفُ فيه، والمِئزَرُ يَتَّشِحُ به فيُغطي جَسَدَه كُلَّه "وهو جالِسٌ في أصحابِه، فسَلَّمتُ عليه، ثم استَدَرتُ أنظُرُ إلى ظَهرِه، هلْ أرَى الخاتَمَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي؟ فلَمَّا رآني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استَدبَرتُه"، أي: جِئتُ ووقفْتُ خَلفَ ظَهرِه لأنظُرَ إلى الخاتَمِ "عَرَفَ أنِّي أستَثبِتُ في شَيءٍ وُصِفَ لي، قال: فألْقى رِداءَه عن ظَهرِه، فنَظَرتُ إلى الخاتَمِ فعَرَفتُه،
انكَبَبتُ عليه أُقبِّلُه وأبكي" وكان خاتَمُ النُّبوَّةِ عِندَ كَتِفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَحوَّلْ.
فتَحوَّلتُ"، أي: جِئتُه مِن أمامِه، "فقَصَصتُ عليه حَديثي كما حَدَّثتُكَ يا ابنَ عَبَّاسٍ" وهي قِصَّةُ خُروجِه مِن بَلَدِه يَتَتبَّعُ الدِّينَ الحَقَّ إلى أنْ رأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فأعجَبَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسمَعَ ذلك أصحابُه، ثم شَغَلَ سَلمانَ الرِّقُّ" وما هو فيه مِنَ العُبوديَّةِ والشُّغُلِ "حتى فاتَه مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَدرٌ، وأُحُدٌ، قال: ثم قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كاتِبْ يا سَلمانُ" والمُكاتَبةُ هي الاتِّفاقُ بَينَ العَبدِ والمالِكِ على قِيمةٍ يَدفَعُها المَملوكُ ممَّا يَكتسِبُه لنفْسِه بعدَ قِيامِه بحُقوقِ خِدمتِه لسَيِّدِه، ثم يَصيرُ حُرًّا، "فكاتَبتُ صاحِبي على ثَلاثِ مِئةِ نَخلةٍ، أُحييها له بالفَقيرِ" وفَقيرُ النَّخلةِ: حُفرةٌ تُحفَرُ لِلفَسيلةِ إذا حُوِّلتْ مِن مَغرَسِها المُؤَقَّتِ لِتُغرَسَ فيها؛ لِتَكونَ مَكانَها الدَّائِمَ "وبأربَعينَ أُوقيَّةً" مِنَ الذَّهَبِ "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأصحابِه: أعينوا أخاكم"، أي: ساعِدوه كلٌّ بما يَستطيعُ، "فأعانوني بالنَّخلِ: الرَّجُلُ بثَلاثينَ وَديَّةً" وهي النَّخلةُ الصَّغيرةُ، فإذا خَرَجتِ النَّخلةُ مِنَ النَّواةِ فهي غَريسةٌ، ثم يُقالُ لها: وَديَّةٌ، ثم فَسيلةٌ، ثم إشاءةٌ، "والرَّجُلُ بعِشرينَ، والرَّجُلُ بخَمسَ عَشرةَ، والرَّجُلُ بعَشرٍ؛ يَعني: الرَّجُلُ بقَدْرِ ما عِندَه، حتى اجتَمَعتْ لي ثَلاثُ مِئةِ وَديَّةٍ، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اذهَبْ يا سَلمانُ ففَقِّرْ لها" احفِرْ لها الحُفَرَ التي ستُوضَعُ فيها، "فإذا فَرَغتَ فأْتِني أكونُ أنا أضَعُها بيَدي" فأمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُجهِّزَ الحُفَرَ لِغَرسِ النَّخلِ، ثم يَنتَظِرَه حتى يأتيَه ويَضَعَ بيَدَيْه الشَّريفَتَيْنِ النَّخلَ في الحُفَرِ، "ففَقَّرتُ لها، وأعانَني أصحابي، حتى إذا فَرَغتُ منها جِئتُه فأخبَرتُه، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معي إليها، فجَعَلْنا نُقرِّبُ له الوَديَّ" ونَضَعُه بَينَ يَدَيْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ويَضَعُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِه، فوالذي نَفْسُ سَلمانَ بيَدِه، ما ماتَتْ منها وَديَّةٌ واحِدةٌ" فصَلُحَ النَّخلُ كُلُّه بفَضلِ اللهِ تعالى وببَركةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فأدَّيتُ النَّخلَ، وبَقيَ علَيَّ المالُ، فأُتيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثلِ بَيضةِ الدَّجاجةِ مِن ذَهَبٍ مِن بَعضِ المَغازي" وهي قِطعةٌ مِنَ الذَّهَبِ الخامِ على شَكلِ بَيضةٍ، "فقال: ما فَعَلَ الفارِسيُّ المُكاتَبُ؟" يَسألُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أحوالِ سَلمانَ؛ لِيُساعِدَه في سَدادِ المالِ الذي عليه، "فدُعيتُ له، فقال: خُذْ هذه فأدِّ بها ما عليكَ يا سَلمانُ.
فقُلتُ: وأين تَقَعُ هذه يا رَسولَ اللهِ مِمَّا علَيَّ؟" وكأنَّه رآها قَليلةَ الحَجمِ والوَزنِ ولا تَكفي ما عليه مِنَ الأربَعينَ أُوقيَّةً، "قال: خُذْها؛ فإنَّ اللهَ سيُؤدِّي بها عنكَ.
قال: فأخَذتُها فوَزَنتُ لهم منها، والذي نَفْسُ سَلمانَ بيَدِه، أربَعينَ أُوقيَّةً" والأُوقيَّةُ: قَدْرُها أربَعونَ دِرهمًا، والمُرادُ الدِّرهمُ الخالِصُ مِنَ الفِضَّةِ، أو ما يُعادِلُه مِنَ الذَّهَبِ، والأُوقيَّةُ 201 جرامٍ تَقريبًا.
قال سَلمانُ "فأوفَيتُهم حَقَّهم"، أي: أعطَيتُ أسيادي حَقَّهم كُلَّه "وعُتِقتُ!" فأصبَحتُ حُرًّا "فشَهِدتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الخَندقَ" وهي غَزوةُ الأحزابِ، وهي التي اقتَرَحَ فيها سَلمانُ حَفرَ الخَندَقِ حَولَ المَدينةِ لِحِمايَتِها، "ثم لم يَفُتْني معه مَشهَدٌ" معَ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمَشهَدُ: الغَزوةُ والحَربُ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ عَظيمِ مناقِبِ الصَّحابيِّ الجَليلِ سَلمانَ الفارِسيِّ، وكيفيَّةِ بَحثِه عنِ الدِّينِ الحَقِّ، وصَبرِه وتَحمُّلِه في سبيلِ ذلك.
وفيه: مَعرِفةُ أهلِ الكِتابِ بمَبعَثِ النَّبيِّ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنَّه مَذكورٌ عِندَهم.
وفيه: بَيانُ بَعضِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِثلَ: الأكلِ مِنَ الهَديَّةِ، وعَدَمِ الأكلِ مِنَ الصَّدَقةِ، وخاتَمِ النُّبوَّةِ الذي بَينَ كَتِفَيْه.
وفيه: بَيانُ بَرَكةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبَرَكةِ يَدِه، حيثُ غَرَسَ صِغارَ النَّخلِ بيَدَيْه، وما ماتَتْ منها واحِدةٌ.
وفيه: بَذلُ المُسلِمينَ جَهدَهم وأموالَهم بَعضِهم لِبَعضٍ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم
قم بقراءة المزيد من الأحاديث النبوية
أشهر كتب الحديث النبوي الصحيحة
قراءة القرآن الكريم
الباحث القرآني | البحث في القرآن الكريم
Friday, November 22, 2024
لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب
القرآن الكريم كاملا
المصحف الشريف
قراء مميزون
سعد الغامدي القرآن الكريم mp3
المصحف كامل
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد mp3
المصحف المجود كامل
القرآن الكريم ماهر المعيقلي mp3
المصحف كامل
الشيخ ياسر الدوسري mp3
المصحف المرتل
الشيخ اسلام صبحي mp3
تلاوات خاشعة
الشيخ خالد الجليل القرآن mp3
المصحف كامل
فارس عباد القرآن الكريم mp3
المصحف كامل
الشيخ حسن صالح mp3
المصحف المرتل
الشيخ احمد العجمي mp3
المصحف كامل
اخترنا لكم