كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم رَؤوفًا رَحيمًا بأُمَّتِه، فكان يَدْعو للمسلمين أحياءً وأمواتًا، وكان يُعلِّمُ السَّائلين ما يَنفَعُهم، وكانت زَوجاتُه رَضِي
اللهُ عنهنَّ مِن أكثَرِ النَّاسِ عِلمًا بأحوالِه في بيْتِه.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ محمَّدُ بنُ قَيسِ بنِ مَخْرَمةَ بنِ المُطَّلبِ أنَّه سَمِع أُمَّ المؤمنينَ عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها تُحَدِّثُ النَّاسُ ذاتَ مرَّةٍ عن شأْنِها وشأنِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم، ثمَّ قالَتْ لمَن حوْلَها بطَريقةِ التَّشويقِ: «
أَلَا أُحَدِّثُكُم عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وعَنِّي؟»،
أي: مِن أخبارِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم وسُنَّتِه في دارِه ومَنزلِه، فأنْصَتَ النَّاسُ لها وأجابُوها بالمُوافَقةِ على أنْ تُحدِّثَهم، وبنفْسِ أُسلوبِ التَّشويقِ في رِوايةٍ أُخرى: قال محمَّدُ بنُ قيْسٍ لأصحابِه يَوْمًا: «
أَلَا أُحَدِّثُكُم عَنِّي وعَنْ أُمِّي»، فظَنَّ النَّاسُ أنَّه يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتي وَلَدَتْه، ولكنْ قصَدَ نَبيُّنا محمَّدٌ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم بأُمِّه أمَّ المؤمنينَ عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها؛ لقولِه تعالَى:
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [
الأحزاب: 6 ]، ثمَّ ذكَرَ أنَّها رَضِي
اللهُ عنها أخبَرَتْه أنَّه لَمَّا حضَرَت ليْلتُها الَّتي كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم يَبِيتُ فيها عِندها، تَحوَّلَ إلى فِراشِه الَّذي سيَضطجِعُ عليه، وقيل: انصَرَف مِن المسجدِ بعْدَ العِشاءِ ورجَعَ إلى فِراشِه، فخلَعَ ثِيابَه، وخلَعَ نَعليْه ووَضَعهما عندَ ناحيةِ رِجْليْه ليُمكِنَه لُبْسُهما عندَ قِيامِه للخُروجِ، وبسَطَ طَرَفَ إزارِه -وهو الثَّوبُ الَّذي يُغطِّي نصْفَه السُّفلى- على فِراشِه ونام عليه، فاسْتَلقى النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم على فِراشِه ليَنامَ، ولكنَّه لم يَمكُثْ ولم يَستمِرَّ على اضطجاعِه وقْتًا، إلَّا قَدْرَ ما ظنَّ أنَّ عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها قدْ رقَدْتُ ونامتْ، فأخَذ رِداءَه بلُطفٍ وهُدوءٍ؛ حتَّى لا تَستيقظَ ولا تَنتبِهَ مِن نَومِها، ثمَّ لَبِس النَّعلينِ بهُدوءٍ ولُطفٍ أيضًا، وفتَح البابَ فخرَجَ مِن البيتِ، ثمَّ أغلَق البابَ بهُدوءٍ ولُطفٍ، بلا إظهارِ صَوتِ الإغلاقِ، وإنَّما فعَلَ ذلك كلَّه في خُفيةٍ وبهُدوءٍ رِفقًا بها؛ لئلَّا يُوقِظَها، ويَخرُجَ مِن عندها وهي يَقْظى، فربَّما لَحِقَتْها وَحشةٌ في انفرادِها في ظُلمةِ اللَّيلِ.
ثمَّ إنَّ عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها شَعَرت بخُروجِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم، فلَبِسْتُ قَميصَها مِن جِهةِ الرَّأسِ، وغطَّت رأْسَها بالخِمارِ، وجعَلَت إزارَها قِناعًا تَستُرُ به وَجْهَها، ثمَّ انطلَقْت خلْفَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم؛ لتَعلَمَ أيْن يَذهَبُ، فوجَدَتْه صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم قدِ انطلَقَ وذهَبَ حتَّى جاء البَقيعَ -وهي مقْبرةُ أهلِ المدينةِ على الجِهةِ الشَّرقيَّةِ مِن المسجِدِ النَّبويِّ- فقام صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم في البَقيعِ للدُّعاءِ لأهلِه، فأطال القيامَ، ثمَّ رفَع يَدَيه يَدْعو لهم ثَلاثَ مرَّاتٍ، فالتَّكرارُ أدْعى لإجابةِ الدُّعاءِ، ثمَّ بعْدَ انتهائهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم انصرَفَ مِن البَقيعِ راجعًا إلى بيْتِه، فانصَرَفت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها مِن مَوضعِها قبْلَ أنْ يَراها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم، فأسْرَع النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم في مِشيَتِه، فأسرَعَت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها أيضًا، فجَرى جَرْيًا فوْقَ المشْيِ وليس بالشَّديدِ، فهَرْوَلت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها، فاشتَدَّ في جِرْيتِه، فشدَّت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها في جِرْيتِها أيضًا، والإحضارُ: العدْوُ، والعدْوُ فوْقَ الهَرْولةِ.
ثمَّ إنَّ عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها سَبَقته، فدخَلَت إلى البيتِ، وبمُجرَّدِ أنِ اضطجَعَتْ في مكانِ نَومِها، دخَل النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم خلْفَها، فسَألها: «
ما لكِ يا عائشُ؟!» ناداها بحذْفِ التَّاءِ تلطُّفًا وتَودُّدًا، «
حَشْيَا» وهو التَّهيُّجُ الَّذي يَعرِضُ للمُسرعِ في مَشيِه والمُحتَدِّ في كَلامِه مِن ارتفاعِ النَّفَسِ وتَواترِه، «
رابِيَةً»،
أي: مُرتفِعةَ البطْنِ! فلأيِّ سَببٍ اضطَرَبَ جِسمُكِ وانقَطَع نفَسُكِ؟ فأخبَرَتْه أنَّه لم يُوجَدْ منها شَيءٌ يُوجِبُ ذلك، فقال لها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم: «
لتُخبِرِيني» عن سَببِ اضطَرابِكِ وانقطاعِ نفَسِكِ، «
أو ليُخبِرَنِّي» عن سَببِ ذلك
اللهُ «
اللَّطيفُ» الرَّفيقُ لعِبادِه «
الخبيرُ» العليمُ بأحوالِهِم ظاهرِها وباطنِها، فقالت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها: «
يا رسولَ اللهِ، بأبي أنت وأمِّي» فأنت مَفْديٌّ مِن كلِّ مَكروهٍ بوالديَّ، فأخبَرَتْه عن سَببِ ذلك وما حدَثَ منها مِن مَشْيِها خلْفَه لتَنظُرَ إلى أيِّ مَكانٍ يَذهَبُ، وهنا فَهِمَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم وعَلِم أنَّها الشَّخصُ الَّذي رآهُ وهو راجعٌ، فقال لها: «
فأنتِ السَّوادُ»،
أي: الشَّخصُ الَّذي رأيْتُ أمامي حِين رجَعْتُ مِن البَقيعِ؟ فقالت: نَعمْ، فدَفَعَها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم بشِدَّةٍ، أو ضرَبَها بجمْعِ كفِّهِ في صَدْرِها ضَربةً أوجَعَتْها، ثمَّ قال لها: «
أظنَنْتِ أنْ يَحيفَ اللهُ عليكِ ورَسولُه؟»،
أي: يَظلِمَكِ
اللهُ ورسولُه، والحيْفُ: الجَورُ والظُّلمُ، والمعنى: أظنَنْتِ أنِّي ظَلمْتُكِ بجَعْلِ نَوبتِكِ ويَومِكِ لغيرِكِ، وذِكرُ
اللهِ تعالَى تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لذِكرِ رسولِه، فليس مَقصودًا بالحيْفِ، ولتَعظيمِ الرَّسولِ والدَّلالةِ على أنَّ الرَّسولَ لا يُمكِنُ أنْ يَفعَلَ بدونِ إذنٍ مِن
اللهِ تعالَى.
فقالت عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها تَصديقًا لقولِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم: «
مهْما يَكتُمِ النَّاسُ» أيُّ شَيءٍ يَكتُمُه الإنسانُ ويُخْفيه عن غيرِه «
يَعلَمْه اللهُ» الَّذي يَعلَمُ خَواطِرَ القلوبِ، وكأنَّه إقرارٌ منها بذلك الظَّنِّ.
ثمَّ أخبَرَها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم بحَقيقةِ ما فَعَل وخُروجِه في ذلك الوقتِ؛ وهو أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ -وهو الملَكُ المُوكَّلُ بالوحيِ- أتاهُ حِين رأتْ عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم يقومُ مِن فِراشِه، فناداهُ جِبريلُ عليه السَّلامُ ودَعاه مِن خارجِ الحُجرةِ، وأخْفى نِداءَه مِن عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها حتَّى لا تَسمَعَ، فأجَابه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم ولبَّى نِداءَهُ، وأخفى إجابتَه له مِن عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها، ثمَّ بيَّن لها سَببَ هذا الخفْضِ والإخفاءِ، وأنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ ناداهُ مِن خارجِ الحُجرةِ؛ لأنَّه لم يكُنْ يَدخُلُ على عائشةَ رَضِي
اللهُ عنها في حُجرتِها وقدْ وضَعَت وخلَعَت ثِيابَها، وأخبَرَها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّه ظنَّ حِين خُروجِه مِن عندِها أنَّها قدْ نامتْ، فكَرِه أنْ يُوقظَها، وخَشِي أنْ تَشعُرَ بالوَحشةِ إنْ ترَكَها بمُفردِها في ظُلمةِ اللَّيلِ يَقْظى.
ثمَّ لمَّا خرَجَ إلى جِبريلَ عليه السَّلامُ، قال له: «
إنَّ ربَّك يَأمُرُك أنْ تَأتيَ أهلَ البَقيعِ فتَستغفِرَ لهم»،
أي: تَدْعوَ وتَطلُبَ مِن
اللهِ سُبحانه غُفرانَ ذُنوبِهم، وهنا سألَتْ عائشةُ رَضِي
اللهُ عنها: «
كيف أقولُ لهم يا رسولَ الله» إذا أردتُ زِيارتَهم؟ وهذا يَشمَلُ أهلَ القبورِ مُطلقًا، والمعنى: كيْف أقولُ مِن الذِّكرِ والدُّعاءِ عندَ زِيارةِ القبورِ؟ فعلَّمَها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم أنْ تقولَ: «
السَّلامُ على أهلِ الدِّيارِ مِن المؤمنين والمُسلمين»، وسمَّى صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم مَوضِعَ القبورِ دارًا وديارًا لاجتماعِهِم فيه كالأحياءِ في الدِّيارِ، «
ويَرحَمُ اللهُ المُستقدِمين»،
أي: الَّذين تَقدَّموا علينا بالموتِ، «
منَّا» مَعْشرَ المؤمنين «
والمُستأخِرِين»،
أي: المُتأخِّرين اللَّاحقينَ بنا في الموتِ، «
وإنَّا -إنْ شاءَ اللهُ- بكم لَلَاحِقون» في الموتِ على الإسلامِ، وقولُه: «
إنْ شاء اللهُ» ليْس للشَّكِّ، وإنَّما هو للتَّبرُّكِ، وامتثالِ أمرِ
اللهِ له بقولِه:
{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } الآيةَ [
الكهف: 23، 24 ].
وفي الحديثِ: إطالةُ الدُّعاءِ وتَكرارُه.
وفيه: رفعُ اليدينِ في الدُّعاءِ.
وفيه: أنَّ دُعاءَ القائمِ أكملُ مِن دُعاءِ الجالسِ في القبورِ.
وفيه: رِفقُ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم ورَحمتُه.
وفيه: ما يُقالُ عند دُخولِ القبورِ.
وفيه: أنَّ السَّلامَ على المَوتى كالسَّلامِ على الأحياءِ.
وفيه: الدُّعاءُ بالرَّحمةِ للأحياءِ والأمواتِ.
وفيه: بيانُ ما جُبِلَت عليه النِّساءُ مِن الغَيرةِ.
وفيه: تأديبُ الزَّوجِ زَوجتَه بالضَّربِ باليَدِ ونحْوِه، ولو أوجَعَها ذلك.
وفيه: زِيارةُ النِّساءِ للقُبورِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم