شَرائِعُ الدِّينِ مَبنيَّةٌ على الوحْيِ وما أمَرَ
اللهُ سُبحانَه به، وكان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّبِعًا لذلك، وإنْ مالَتْ نفْسُه إلى أمْرٍ فإنَّه لا يَفعَلُه ما لم يُؤمَرْ به.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ البَراءُ بنُ عازبٍ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ هِجرتِه إلى المدينةِ كانت قِبلتُه في الصَّلاةِ واتِّجاهُه فيها، إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وهو ناحيةُ شَمالَي المدينةِ، وظلَّ ذلك الأمرُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُعجِبُه ويَرْجو أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ اتِّجاهَ الكعبةِ المشرَّفةِ، وقبْلَ الهِجرةِ كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُصلِّي في مكَّةَ، فيَتَّجِهُ إلى بيْتِ المقدِسِ، ويَجعَلُ الكعبةَ بيْنه وبيْن بَيتِ المقدِسِ، فلمَّا هاجَرَ لم يَتمكَّنْ مِن ذلك؛ لأنَّ المدينةَ تقَعُ في الوَسطِ بيْن مكَّةَ وبيْتِ المقدِسِ، فتَتقابَلُ الجِهتانِ؛ فلا يَستطيعُ أنْ يَجعَلَ الكعبةَ بيْنه وبيْن بيتِ المقدِسِ، فصار يُصلِّي إلى بيْتِ المقدِسِ هذه المُدَّةَ مع تَشوُّفِه إلى أنْ يَأمُرَه
اللهُ بالتَّوجُّهِ إلى البيتِ الحرامِ، وقدْ أخبَرَ
اللهُ سُبحانه عن حالِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ هذه في قولِه تعالى:
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [
البقرة: 144 ]، فوَعَدَه
اللهُ سُبحانه أنْ يُوجِّهَه إلى القِبلةِ التي يَرْضاها، ثمَّ أمَرَه
اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يُحوِّلَ قِبلتَه إلى الكعبةِ الشَّريفةِ بمكَّةَ المكرَّمةِ، أيْنما كان، وكانتْ أوَّلُ صَلاةٍ صلَّاها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ هي صَلاةَ العصرِ، ولا خِلافَ أنَّ ذلك كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، وصلَّى معه بَعضُ أصحابِه.
ثمَّ إنَّه قدْ خرَجَ رجلٌ ممَّن صلَّى مع النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ تَحويلِ القِبلةِ -قيل: هو عَبَّادُ بنُ بِشرٍ رَضِي
اللهُ عنه، وقيل غيرُه- فمَرَّ على أهلِ مَسجدٍ بالمدينةِ، وهو لِبَني سَلِمةَ، ويُعرَفُ بمَسجدِ القِبلتَينِ، وهو غيرُ مَسجدِ قُباءٍ المعروفِ، فأتى الرجُلُ أهْلَ المَسْجِدِ وهُمْ رَاكِعُونَ، وكانوا يُصَلون العصرَ، فكلَّمَهم وهمْ في صَلاتِهم، وأخبَرَهم بتَحويلِ القِبلةِ، وقال مُقسِمًا: «
أشْهَدُ باللَّهِ، لقَدْ صَلَّيْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ»،
أي: مُتَّجِهًا إلى الكَعبةِ، فلمَّا سَمِعوه صدَّقوه وَدارُوا ناحيةَ المسجدِ الحرامِ، ولم يَقطَعوا الصَّلاةَ، بلْ أتمُّوها إلى جِهةِ الكعبةِ، فصلَّوا صَلاةً واحدةً إلى جِهتينِ: جِهةِ المسجدِ الأقْصى، وجِهةِ المسجدِ الحرامِ.
أمَّا أهلُ قُباءٍ فأتاهم العِلمُ والخبرُ بتَحوُّلِ القِبلةِ في صَلاةِ الصُّبحِ مِن اليومِ التَّالي، فتَحوَّلوا أيضًا؛ ففي الصَّحيحَينِ من حَديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
اللهُ عنهما قال: «
بيْنما النَّاسُ في صَلاةِ الصُّبْحِ بقُبَاءٍ، إذْ جاءَهُمْ آتٍ فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قدْ أُنْزِلَ عليْهِ اللَّيلَةَ، وقَدْ أُمِرَ أنْ يَستَقْبِلَ الكَعْبةَ فاسْتَقْبِلُوها، وكانَتْ وُجُوهُهم إلى الشَّامِ، فاسْتَدَارُوا إلى الكَعْبةِ».
ثمَّ أخبَرَ البَراءُ رضِيَ
اللهُ عنه أنَّ بعْضَ الصَّحابةِ ممَّن صلَّى إلى بَيتِ المقدِسِ مات أو قُتِل قبْلَ أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ إلى البيتِ الحرامِ، فسُئِل النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم وعن حُكمِ صَلاتِهم التي كانتْ إلى بيتِ المقدِسِ، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ قولَه تعالى:
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [
البقرة: 143 ]، أراد جلَّ ثَناؤه بذلك أنَّه سُبحانه أرحَمُ بعِبادِه مِن أنْ يُضِيعَ لهم طاعةً أطاعوه بها، فلا يُثِيبَهم عليها، وأرأَفُ بهم مِن أنْ يُؤاخِذَهم بترْكِ ما لم يَفرِضْه عليهم.
وقولُه في الآيةِ:
{ إِيمَانَكُمْ }،
أي: صَلاتَكم، والمقصودُ تَعميمُ الحُكمِ للأُمَّةِ حيًّا وميتًا، حاضرًا وغائبًا، فذكَرَ الأحياءَ المخاطبين تَغليبًا لهم على غيْرِهم.
وفي الحديثِ: ما كان عندَ الصَّحابةِ رَضيَ
اللهُ عنهم مِن سُرعةِ تَلبيةِ واستجابةِ أوامرِ
اللهِ عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الحَلِفُ على الشَّيءِ لتَأكيدِه.
وفيه: دَليلٌ على قَبولِ أخبارِ الآحادِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم