في هذا الحديثِ تَأديبٌ وتَعليمٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم لأُمَّتِه، وحِرصٌ مِنه عَلى أنْ يَظَلَّ المُسلمُ بَعيدًا عن إغواءِ الشَّيطانِ، وخاصَّةً عندَ مُصيبةِ مَوتِ قَريبٍ أو غالٍ عَزيزٍ؛ فتَرْوي أُمُّ المؤمنينَ أُمُّ سَلَمةَ رَضِي
اللهُ عنها أنَّه «
لَمَّا ماتَ أَبو سَلَمةَ» وهو عبْدُ
اللهِ بنُ عبدِ الأسَدِ المَخزوميُّ رَضِي
اللهُ عنه، وهو زَوجُها الأَوَّلُ، وقد هاجَرَ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ، حدَّثَت أمُّ سَلَمةَ نفْسَها فقالت: «
غَريبٌ، وفي أرضِ غُربةٍ»،
أي: إنَّه مِن أهلِ مكَّةَ، وماتَ بالمدينةِ غريبًا عن أقاربِهِ وعن وطَنِه، فليْس معه مَن يَبْكي عليه غيرُها، فاجتَمعتْ مُصيبةُ الغُربةِ مَع مُصيبةِ الموتِ، ومُرادُها بهذه الجُملةِ تَعليلُ بُكائِها الهائلِ الَّذي عزَمَت عليه، فلِذلكَ أقسَمَت أنْ تَبكِيَ عليهِ بُكاءً ونَوحًا شديدًا يَتحدَّثُ النَّاسُ بهِ ويَتعجَّبون منهُ لشِدَّتِه؛ وذلك منها على ما كانوا عليه في الجاهليَّةِ مِنَ النِّياحةِ والاجتماعِ لها قبْلَ أنْ يَبلُغَها تَحريمُ النِّياحةِ، ثمَّ أخبَرَت أمُّ سَلَمةَ أنَّها قدْ تهيَّأت واستَعدَّتْ للبُكاءِ بالقَصدِ والعَزيمةِ وتَهيئةِ أَسبابِ الحُزنِ، وَفي تلك الأَثناءِ أقبَلَتِ امرأةٌ تُريدُ أنْ تُسعِدَها، مِنَ الإِسعادِ وهوَ الإِعانةُ،
أي: تُساعدُني في البُكاءِ والنَّوحِ، وكانت هذه المرأةُ الَّتي تُريدُ مُساعَدةَ أمِّ سَلَمةَ مِنَ الصَّعيدِ، وهو منْطقةُ عَوالي المدينةِ، وأصلُ الصَّعيدِ: ما كان على وجْهِ الأرضِ مِنَ التُّرابِ، والعَوالي اليومَ هي المنطقةُ الواقعةُ في الجهةِ الشَّرقيَّةِ والجنوبيَّةِ الشَّرقيَّةِ مِنَ المدينةِ في خطٍّ يَمتَدُّ شرْقًا مِنَ البقيعِ إلى حَرَّةِ واقمٍ، وجَنوبًا بمُحاذاةِ مَسجدِ قُباءٍ.
فاستقْبَلَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم تلكَ المرأةَ ليَعِظَها ويَنْهاها عن فِعلِها، فقال لها بعدَ عِلمِه بِما هيَ قاصدةٌ له: أتُريدينَ أَيَّتُها المرأةُ بإعانتِكِ عَلى المعصيةِ أنْ تَكوني سَببًا لدُخولِ الشَّيطانِ بعمَلِه وتَسويلاتِه بيْتًا بعْدَ أنْ أَخرَجَه
اللهُ منهُ وأَبعَدَه مِن إِغواءِ أهلِه؟! وأعاد النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم مَوعظتَه على المرأةِ مرَّتينِ، تأكيدًا على هذا النَّهيِ.
ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المعنى: أخرَجَ الشَّيطانَ مِن ذلك البيتِ وأبعَدَه مِن إغواءِ أهْلِه مَرَّتَيْنِ، ويُرادُ بالمرَّتينِ: صحَّةُ إسلامِ أبي سَلَمةَ، وحُسنُ هِجرتِه.
أو يُرادُ بالمرَّةِ الأُولى يومُ دُخولِه في الإسلامِ، وبالثَّانيةِ يومُ خُروجِه مِنَ الدُّنيا مسْلِمًا، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ به التَّكريرُ،
أي: أخرَجَه
اللهُ تعالَى إخراجًا بعْدَ إخراجٍ، كقولِه تعالَى:
{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [
الملك: 4 ].
وقيل: يَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بالمرَّةِ الأُولى هِجرتُه مِن مكَّةَ إلى الحبَشةِ، وبالثَّانيةِ هِجرتُه إلى المدينةِ؛ فإنَّه مِن أصحابِ الهِجرتينِ.
وهذا مِن حُسنِ تَربيةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم وتأديبِه لأصحابِه رَضِي
اللهُ عنهم؛ فقدْ بيَّن للمرأةِ أنَّها إذا فعَلَت ذلك أدخَلَتِ الشَّيطانَ في بيْتٍ أخرَجَه
اللهُ منه، وهذا ضرَرٌ عظيمٌ، وعمَلٌ مُنكَرٌ، ولم يَنْهَها فقطْ، بل بيَّن لها مَساويَ ذلك المنكَرِ، وما يَترتَّبُ عليه مِن المفاسدِ، والمَضارِّ، والعُقوباتِ، وهذا أدْعى للقَبولِ.
فلمَّا سَمِعت أمُّ سَلَمةَ رَضِي
اللهُ عنها مَقالتَه صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّم للمرأةِ، كَفَّت عنِ البُكاءِ وانزَجرَتْ، فلمْ تَبْكِ البُكاءَ المَذمومَ الَّذي يَكونُ مَعه نَدْبٌ أو نِياحةٌ.
وفي الحديثِ: أنَّ البُكاءَ عَلى الميِّتِ المَصحوبَ بالنِّياحةِ مِن عَملِ الشَّيطانِ.
وفيهِ: أنَّ المُسلمَ يَتَّبِعُ أَوامرَ الشَّرعِ ونَواهيَه بعْدَ عِلمِه بِها.
وفيه: بيانُ أنَّ المساعدةَ على النِّياحةِ إعانةٌ على المَعصيةِ.
وفيه: بيانُ فضْلِ بيْتِ أبي سَلَمةَ، وأمِّ سَلَمةَ، حيث أخرَجَ
اللهُ تعالَى عنه الشَّيطانَ، فلمْ يَستطِعْ أنْ يَتسلَّطَ على أهلهِ بالإغواءِ والإضلالِ.
وفيه: بيانُ أنَّ النَّهيَ عنِ المنكَرِ يكونُ بالحِكمةِ؛ وذلك ببَيانِ الضَّررِ المترتِّبِ عليه.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم