شرَعَ
اللهُ الطَّلاقَ بعْدَ بَذلِ الوُسعِ في الصُّلحِ بيْنَ الزَّوجَيْنِ، وبيَّنَ أحْكامَه وما يترتَّبُ عليه، وجَعَلَهُ ثَلاثَ تَطْليقاتٍ؛ حتَّى يُراجِعَ كُلٌّ مِنَ الزَّوجَيْنِ نَفْسَه، وإلَّا كانَ الفِراقُ بيْنَهما في الطَّلقةِ الثَّالِثةِ، فلا تَحِلُّ له بعْدَ ذلك حتَّى تَنكِحَ زَوجًا غَيرَهُ.
وهذا الحَديثُ مُرتبِطٌ بقصَّةٍ وردَتْ في الصَّحيحَينِ وغيرِهما أنَّ الصَّحابيَّةَ فاطمةَ بنتَ قَيْسٍ رَضيَ
اللهُ عنها كانَتْ طُلِّقَتْ مِن زَوْجِها ثَلاثًا، فأَمَرَها النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ تَنْتقِلَ لِبَيتِ ابنِ أُمِّ مَكْتومٍ رَضيَ
اللهُ عنه -وهو ابنُ عمِّها، وكان أعْمى- وتَعتَدَّ عِندَهُ ولم يَجعَلْ لها نَفَقةً؛ لِحالةٍ خاصَّةٍ بها؛ وذلك أنَّها كانَتْ تَتَطاوَلُ بلِسانِها على أهْلِ زَوجِها، أو لأنَّها كانتْ بمكانٍ موحِشٍ، فخيفَ أنْ يَتهجَّمَ عليها أحدٌ، فلهذا نَقَلَها عندَ ابنِ أمِّ مَكتومٍ الأعْمى حتَّى لا يَراها، وظلَّتْ فاطمةُ بنتُ قَيسٍ تُحدِّثُ بحَديثِها هذا بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنْكرَه عليها جمعٌ منَ الصَّحابةِ؛ فيَرْوي التَّابِعيُّ أبو إسْحاقَ السَّبيعيُّ أنَّه كانَ معَ الأَسْودِ بنِ يَزيدَ النَّخَعيِّ -أحَدُ التَّابِعينَ- في المسجِدِ الأَعظَمِ،
أي: المسْجِدِ الجامِعِ، والمرادُ به مَسجِدُ الكوفةِ، وكانَ الشَّعْبِيُّ -وهوَ عامِرُ بنُ شَراحِيلَ أحدُ التَّابِعينَ- يُحدِّثُ في هذا المسجِدِ بحديثِ فاطِمةَ بنتِ قَيْسٍ،
أي: يُفْتي به؛ أنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ لم يَجعَلْ لِفاطِمةَ سُكْنى ولا نَفَقةً في طَلاقِها ثَلاثًا، فأخَذَ الأَسْودُ كفًّا مِن حَصًى، فرَماه به، وقال له: «
وَيْلكَ!» أي ألزمَكَ
اللهُ الوَيلَ والهَلاكَ، وهي كلمةٌ جرَتْ على ألسِنةِ العربِ ولا يَقصِدونَ بها الدُّعاءَ، «
تُحدِّثُ بمثلِ هَذا؟!» وهَذا كلُّه استِنكارٌ مِنَ الأَسوَدِ على الشَّعْبيِّ بسببِ تَحْديثِهِ بهذا الحَديثِ، ثُمَّ أخبَرَه أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ
اللهُ عنه قال: «
لا نَترُكُ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لِقَولِ امْرأةٍ»،
أي: لا نَعْتمِدُ في مِثلِ هذه الفَتْوى على حَديثِ فاطِمةَ؛ لِكِبَرِ شأنِ هذه الفَتْوى؛ لأنَّها رُبَّما حَفِظتْ خَطأً أو نَسِيَتْ، ولعَلَّ عُمرَ أرادَ بسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ما دلَّتْ عليه أحْكامُه منَ اتِّباعِ كتابِ
اللهِ لا أنَّه أرادَ سُنَّةً مخصوصةً في هذا، ثمَّ استَدَلَّ عُمرُ رَضيَ
اللهُ عنه أنَّ لِلمُطلَّقةِ ثَلاثًا السُّكْنى والنَّفَقةَ في عِدَّتِها بقَولِ
اللهِ عزَّ وجلَّ:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } [
الطلاق: 1 ]،
أي: خافوا
اللهَ أيُّها النَّاسُ ربَّكم، فاحْذَروا مَعصيتَه أنْ تَتعَدُّوا حدَّه، لا تُخرِجوا مَن طلَّقْتم من نِسائِكم لعِدَّتِهنَّ من بُيوتِهنَّ الَّتي كُنتم أسْكَنْتُموهنَّ فيها قبلَ الطَّلاقِ حتَّى تَنقضيَ عِدَّتُهنَّ، والمرادُ بالفاحشةِ هنا النُّشوزُ وسوءُ الخُلقِ، وقيلَ: هو البَذاءةُ على أهْلِ زَوجِها، وقيلَ مَعناه: إلَّا أنْ يأْتينَ بفاحشةِ الزِّنا فيَخرُجْنَ لإقامةِ الحدِّ ثُمَّ ترجِعُ إلى المسكَنِ.
وقد رَدَّ حديثَ فاطمةَ بنتِ قَيسٍ جَمعٌ مِنَ الصَّحابةَ، منهم: عُمَرُ، وعائشةُ، وغيرُهُما مِمَّنْ هُمْ أعْلَمُ بالسُّنَّةِ من فاطمةَ بنتِ قيسٍ، وقد أخَذَ البَعضُ بظاهِرِ الحَديثِ وجعَلَ للمُطلَّقةِ ثَلاثًا أنْ تَقضيَ عدَّتَها حيث شاءتْ، وليس عليها أنْ تَبيتَ في بَيتِ مُطَلِّقِها.
وفي الحَديثِ: الرَّدُّ على العالمِ إذا أَخْطأَ ولو كانَ في مَجلِسِ عِلمِه.
وفيه: بيانُ حِرصِ الصَّحابةِ على اتِّباعِ القرآنِ وصَحيحِ السُّنَّةِ النَّبويَّة.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم