لقد أتتِ الشريعةُ الإسلاميَّةُ بتَحقيقِ مَصالحِ الخَلقِ وسَعادتِهم في الدُّنيا والآخِرَةِ، وهي كَفيلةٌ بإصلاحِ جَميعِ المجالاتِ في حَياةِ البشريَّةِ؛ فالواجبُ هو الانقيادُ لأحكامِها؛ فالحُكمُ بغيرِ ما أنزَل
اللهُ خَطرُه عظيمٌ، وقد جعَلَه
اللهُ سبحانَه وتعالَى كُفرًا وظُلمًا وفِسقًا؛ لِمَا فيه مِن مُخالفةٍ لأوامِرِ الشَّرعِ الحَكيمِ باتِّباع حُكمِ
اللهِ؛ إذ حَقيقةُ الدِّين هي اتِّباعُ أوامِرِ
اللهِ والانقيادُ لها وعدَمُ سُلوكِ غَيرِ طريقِه.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ
اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِي
اللهُ عَنهما: "كانتْ مُلوكٌ بعدَ عيسى ابنِ مريمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بدَّلوا التَّوراةَ والإنجيلَ"،
أي: غيَّروا فيهِما وحرَّفوهما بما يُناسِبُ أهواءَهم، والمرادُ بالملوكِ: تَعدُّدُ الأزمِنَةِ وتَتابُعُ الملوكِ عليهم، وربَّما يكونُ المرادُ: مَلِكًا بعَينِه مع مَن حوْلَه مِن الحاشيةِ والأعوانِ، "وكان فيهم مُؤمِنون يَقرَؤون التَّوراةَ"،
أي: وكان في زمَنِ هؤلاء الملوكِ أُناسٌ مؤمِنون ب
اللهِ عزَّ وجلَّ وبما أنزَل في التَّوراةِ والإنجيلِ قبلَ تَحْريفِهما، "قيلَ لِمُلوكِهم"،
أي: لِمُلوكِ هؤلاء المؤمِنين: "ما نَجِدُ شَتْمًا أشَدَّ مِن شَتْمٍ يَشتُمونا هؤلاء"،
أي: ما نَجِدُ إنكارًا مِن هؤلاء المؤمِنين على الملوكِ بمِثْلِ ما يَقرَؤون مِن التَّوراةِ، ثمَّ بيَّنوا سبَبَ ذلك بقَولِهم: "إنَّهم يَقرَؤون:
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، وكأنَّ هذه الآيةَ بهذا المعنى واللَّفظِ كانتْ موجودةً عِندَهم، "وهؤلاءِ"،
أي: تِلْك الآياتِ وأمثالَها،
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [
المائدة: 45 ]،
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [
المائدة: 47 ]، "مع ما يَعيبونا به في أعمالِنا في قِراءتِهم"،
أي: يُنكِرون عليهم بتِلك الآياتِ عندَ قِراءتِها، تَرْكَهم العمَلَ بما أُنزِلَ إليهم مِن ربِّهم، فقيل لِمَلِكِهم: "فادْعُهم"،
أي: اطلُبْ هؤلاء المؤمنين وأجبِرْهم؛ "فَلْيَقرَؤوا كما نَقرَأُ"،
أي: بمِثلِ ما حرَّفْنا، "وَلْيُؤمِنوا كما آمَنَّا"،
أي: وَاجْعَلْهم يَعتقِدون في
اللهِ بمِثلِ ما نَعتقِدُ، "فدَعاهم، فجمَعهم"،
أي: ففعَل الملِكُ ما قيل له، فجمَع هؤلاء المؤمنين عندَه، "وعرَض عليهم القتْلَ، أو يَتْرُكوا قِراءةَ التَّوراةِ والإنجيلِ، إلَّا ما بَدَّلوا منها"،
أي: خيَّرَهم بينَ القَتلِ وبينَ أن يُؤمِنوا بالمحرَّفِ مِن كِتابِهم، فقال المؤمِنون: "ما تُريدون إلى ذلك؟"،
أي: ما الَّذي تَقصِدونه بفِعْلِكم هذا معَنا ونحن لا نُؤذيكم ولا نُنكِرُ عليكم أعمالَكم، "دَعونا"،
أي: اتْرُكونا وما نحن عليه مِن الإيمانِ، ثمَّ عرَض عليهم المؤمِنون ما يَجعَلُ الملِكَ يَترُكُهم به، فقالت طائفةٌ مِن المؤمِنين: "ابْنُوا لنا أُسْطُوانَةً"، والأُسطوانةُ العَمودُ الَّتي يُرفَعُ عليه السَّقفُ، والمرادُ بها هنا: أن يُبنَى لهم مكانٌ أو بيتٌ مرتفِعٌ عن الأرضِ يَسكُنونه، ويَعتَزِلون فيه، ولا يَختلِطون بالنَّاسِ، "ثمَّ ارفَعونا إليها"،
أي: نَسكُنُها، "ثمَّ أعطونا شَيئًا نَرفَعُ به طَعامَنا وشَرابَنا"، وهذا بَيانٌ لشِدَّةِ اعتزالِهم لهم، "فلا نَرِدُ عليكم"،
أي: فلا نَأتيكم ونُخالِطُكم، وقالتْ طائفةٌ أخرى منهم: "دَعونا نَسيحُ في الأرضِ"،
أي: نَطوفُ فيها ونَمْشي بها كالتَّائِهين والسَّائرين فيها بلا هدفٍ، "ونَهيمُ"،
أي: نَسلُكُ طُرقَها، "ونَشرَبُ كما يَشرَبُ الوَحشُ"،
أي: مِن الأنهارِ والسُّيولِ الَّتي يُصادِفونها، والمرادُ بالوحشِ: الحيوانُ البرِّيُّ، "فإنْ قدَرْتُم علينا في أرضِكم"،
أي: فإنْ وجَدتُمونا بأرضِكم مرَّةً أخرى، "فاقتُلونا"،
أي: فيَحِقُّ لكم قتلُنا، وقالت طائفةٌ أخرى: "ابنُوا لنا دُورًا"،
أي: بُيوتًا ومَنازِلَ ، "في الفَيافي"،
أي: في الصَّحراءِ، "ونَحتفِرُ الآبارَ"، جمعُ بئرٍ، والمرادُ إخراجُ الماءِ لِيَكفِيَهم شُربَهم وحاجتَهم، "ونَحتَرِثُ البُقولَ"،
أي: نَزرَعُها، "فلا نَرِدُ عليكم ولا نَمُرُّ بكم"،
أي: فلا نأتيكم ولا نُخالِطُكم، "وليس أحَدٌ مِن القَبائلِ إلَّا وله حَميمٌ فيهم"،
أي: قَريبٌ في المؤمنين، والمرادُ: إظهارُ أنَّ خِيارَ قَتْلِهم ربَّما يُثيرُ ضِدَّهم القبائلَ؛ لِمَا لهم مِن قَراباتٍ في تلك القبائلِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِي
اللهُ عَنهما: "ففَعلوا ذلك"،
أي: وافَق الملِكُ ومَن معه على ما اقتَرحه المؤمِنون في حقِّ أنفُسِهم، "فأنزل
اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } [
الحديد: 27 ]،
أي: إنَّ تِلك الطَّريقةَ في العِبادةِ واعتزالِ النَّاسِ لم تُفرَضْ عليهم ولم يُؤمَروا بها، ولكنْ هُم الَّذين ابتَدعوها ولم يَفرِضِ
اللهُ عليهم إلَّا أن يَطلُبوا رِضوانَه عزَّ وجلَّ بهذه الطَّريقةِ، "والآخَرون"،
أي: الَّذين جاؤوا بعدَ هؤلاء المؤمِنين، ولم يَكونوا مِن الَّذين خيَّرهم الملوكُ، قالوا: "نتَعبَّدُ كما تَعبَّد فُلانٌ، ونَسيحُ كما ساح فلانٌ، ونتَّخِذُ دُورًا كما اتَّخَذ فُلانٌ"،
أي: أرادوا أن يَسيروا على نَهْجِ وعملِ رَهبانيَّةِ المؤمِنين الأوَّلين، "وهم على شِرْكِهم"،
أي: وهم على ما عليه مِن تَحريفٍ في التَّوراةِ والإنجيلِ، "لا عِلْمَ لهم بإيمانِ الَّذين اقْتَدْوا به"،
أي: لم يَكُنْ إيمانُ المتأخِّرين مِثلَ إيمانِ المتقدِّمين عنهم الَّذين كان إيمانُهم معَه عِلمٌ ومعرفةٌ بالتَّوراةِ الإنجيلِ الصَّحيحَينِ، "فلمَّا بعَث
اللهُ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم ولم يَبْقَ مِنهم إلَّا قليلٌ"،
أي: مِن هؤلاء المتعبِّدين، "انْحَطَّ"،
أي: نزَل، "رَجلٌ مِن صَومعتِه"، والصَّومعةُ: بيتٌ مثلُ الدَّيْرِ والكنيسةِ يَنقطِعُ فيها رُهْبانُ النَّصارى للعِبادةِ، "وجاء سائحٌ مِن سياحتِه، وصاحبُ الدَّيرِ مِن دَيرِه، فآمَنوا به وصدَّقوه"،
أي: جاء بعضُهم إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم مؤمِنين به وبرِسالتِه، فقال
اللهُ تبارك وتعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } [
الحديد: 28 ]، قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِي
اللهُ عَنهما: "أَجْرَين؛ بإيمانِهم بعيسى وبالتَّوراةِ والإنجيلِ، وبإيمانِهم بمُحمَّدٍ وتَصديقِهم"، وهذا تفسيرٌ مِن ابنِ عبَّاسٍ لِما تقدَّم مِن الآيةِ، يُوضِّحُ أنَّ الخِطابَ للرُّهْبانِ الَّذين آمَنوا بالنَّبيِّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم، "قال تعالى:
{ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [
الحديد: 28 ]، والنُّورُ هو القرآنُ، واتِّباعُهم للنَّبيِّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم؛ قال تعالى:
{ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [
الحديد: 29 ]،
أي: يَقولُ تعالى ذِكْرُه للمؤمنين به وبمحمَّدٍ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم مِن أهلِ الكتابِ: إنَّ ربَّكم يَأمُرُكم بهذا؛ لِكَي يَعلَمَ أهلُ الكتابِ، "يتَشبَّهون بكُم"، وفي لفظٍ: "الَّذين يتَشبَّهون بكم"،
أي: الَّذين لم يُؤمِنوا بالنَّبيِّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم ويَظنُّون أنَّ لهم أجْرًا مِثلَ أجرِ المؤمنين، "
{ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [
الحديد: 29 ]"،
أي: إنَّهم لا يُعْطَون مِن الأجرِ شيئًا؛ لأنَّهم لم يُؤمِنوا برسولِه صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم، والأجرُ والثَّوابُ مَشْروطانِ بالإيمانِ به صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم، وقيل: لا يَقدِرون على شيءٍ مِن فضلِ
اللهِ، فضلًا عن أن يتَصرَّفوا في أعظَمِه وهو النُّبوَّةُ، فيَخُصُّون بها مَن أرادوا، ثمَّ ختَم
اللهُ عزَّ وجلَّ الآيةَ بقولِه تعالى:
{ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [
الحديد: 29 ]، والفضلُ هو الزِّيادةُ في الأجرِ والثَّوابِ، وكلُّ ذلك يكونُ بيدِ
اللهِ ومشيئتِه، يُؤتيه لِمَن شاء مِن عِبادِه.
قيل: إنَّ تلك الآياتِ- وهي قولُه تعالى:
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }،
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }- لا تَختَصُّ بأهلِ الكتابِ مِن النَّصارى فقط؛ بل إنَّها تشمَلُ الكفَّارَ مِن اليهودِ والنَّصارى الَّذين حَكَموا بغيرِ ما أنزَل
اللهُ، ويَدُلُّ لهذا ما أخرَجه مسلِمٌ مِن حديثِ البَراءِ: أنَّها نزَلَتْ في الكفَّارِ، وكذلك يَعُمُّ الحُكمُ ويَشمَلُ مَن فعَل هذا وسلَك سبيلَهم مِن هذه الأمَّةِ، وترَك الحُكمَ بما أنزَل
اللهُ تعالى، وقد يَكونُ الحُكمُ بغَيرِ ما أنزَلَ
اللهُ كُفرًا يَنقُلُ عن الملَّةِ، وقد يكونُ كفرًا أصغرَ، وذلك بحَسَبِ حالِ الحاكمِ؛ فكلٌّ يتَفاوَتُ بحسَبِ اعتِقادِه وعَملِه .
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم