حرَّمَ
اللهُ سُبحانَه سفْكَ الدِّماءِ المعصومةِ بغيرِ حَقٍّ، وتوعَّدَ مَن سفَكَها عمدًا بالعذابِ الأليمِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ
اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "يجيءُ المقتولُ بالقاتلِ يومَ القِيامةِ"،
أي: يُحضِرُه ويأتي به في يومِ الحِسابِ والجزاءِ، "ناصِيتُه"، وهي شَعَرُ مُقدَّمِ رأسِ القاتلِ، "ورأْسُه بيدِه"،
أي: يُمسِكُهما المقتولُ بيدِه، "وأوداجُه" جمْعُ ودَجٍ، وهي ما أحاط بالعُنقِ من العُروقِ الَّتي يقطَعُها الذَّابحُ، وهما: عِرْقانِ على جانبيِ العُنقِ، والضَّميرُ يعودُ على المقتولِ، "تشخُبُ دمًا"،
أي: تَسيلُ دمًا، "يقولُ: يا ربِّ، هذا قتَلني حتَّى يُدْنِيَه من العرشِ"،
أي: حتَّى يُقرِّبَ المقتولُ القاتلَ من العرشِ، وهو إشارةٌ إلى استقصاءِ المقتولِ في طلَبِ ثأْرِه، والمُبالغةِ في إرضاءِ
اللهِ تعالى إيَّاهُ بعدْلِه.
وفي روايةٍ للنَّسائيِّ: فيقولُ: "أيْ ربِّ، سَلْ هذا: فيمَ قتَلني؟" لأنَّ غايةَ ذلك وُقوعُ المُنازعةِ بين يديِ
اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
قال التَّابعيُّ عمرُو بنُ دِينارٍ: "فذكَروا لابنِ عبَّاسٍ التَّوبةَ"، يعني: قالوا له: هل للقاتلِ توبةٌ أمْ لا؟ "فتَلا هذه الآيةَ:
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [
النساء: 93 ]، "قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما: "ما نُسِخَت هذه الآيةُ ولا بُدِّلَت، وأنَّى له التَّوبةُ؟!" وظاهرُ كلامِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما: أنَّه لا توبةَ لقاتلِ النَّفسِ المُؤمنةِ عمْدًا.
قيل: إنَّ قولَ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما بعدَمِ النَّسخِ في تلك الآيةِ، هذا تغليظٌ منه؛ فالمُشرِك إذا تابَ قبل موتِه تُقبَلُ توبتُه؛ قال تعالى فيه:
{ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [
الزمر: 53 ]، وأمَّا قولُه تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [
النساء: 48 ] فإنَّه في حَقِّ مَن مات ولم يتُبْ.
وكان ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما يتمسَّكُ في قولِه بظاهرِ قولِه تعالى:
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } الآيةَ، ويُجيب عن قولِه:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } [
الفرقان: 68 ] تارةً بالنَّسخِ، وتارةً بأنَّ ذاك إذا قتَلَ وهو كافرٌ، ثمَّ أسلَمَ.
ورُوِيَ عنه: أنَّ له تَوبةً، وتَجوزُ المغفِرةُ له؛ لقولِه تعالى:
{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [
النساء 110 ]، كما هو مذهَبُ جميعِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ، ويقولون: إنَّ قولَه:
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } مُقيَّدٌ بالموتِ بلا توبةٍ، ويُؤوِّلون ذلك بأنَّ المُرادَ بالخُلودِ طولُ المُكْثِ، وبأنَّ هذا بيانُ ما يستحِقُّه بعملِه، كما يُشير إليه قولُه:
{ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }، ثمَّ أمْرُه إلى
اللهِ تعالى؛ إنْ شاء عذَّبَه، وإنْ شاء عفا عنه.
وما رُوِيَ عن بعضِ السَّلفِ ممَّا يُخالِف هذا فهو محمولٌ على التَّغليظِ والتَّحذيرِ من القتْلِ، والتَّوريةِ في المنْعِ منه، كأنْ يَعلمَ المسؤولُ أنَّ السائِلَ يُريدُ الترخُّصَ في القَتْلِ ويَزعُم أنَّه سيَتوبُ بعدُ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم