كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ التَّوسُّطَ في الأعمالِ بلا إفراطٍ ولا تَفريطٍ، وكان يُؤدِّي حقَّ
اللهِ وحقَّ النَّاسِ، مع اجتهادِهِ في ذلك كلِّه، وقد حثَّنا النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ على فِعلِ ذلك، وهذا الحديثُ له قِصَّةٌ؛ وذلك أنَّ سَعدَ بنَ هِشامِ بنِ عامرٍ الأنصاريَّ أراد أنْ يَغزوَ في سَبيلِ
الله، فقَدِمَ المدينةَ، فأراد أنْ يَبيعَ عَقارًا له-
أي: أرضًا- ويَشتريَ به السِّلاحَ والكُراعَ-
أي: الخيلَ- ويُجاهدَ الرُّومَ حتَّى يموتَ، فلمَّا قدِمَ المدينةَ لقِيَ أُناسًا مِن أهْلِ المدينةِ، فنَهَوْه عن ذلك، وأخبَروه: أنَّ رَهطًا سِتَّةً أرادوا ذلك في حَياةِ نَبيِّ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فنهاهم نبيُّ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: "أليس لكم فيَّ أُسوةٌ؟!" فلمَّا حدَّثوه بذلك راجَعَ امرأتَه، وقد كان طلَّقها؛ حيثُ عزَمَ على مُداوَمةِ الجِهادِ، وأشهَدَ على رَجعتِها، فأتى ابنَ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما، فسأَله عن وِتْرِ رَسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما: ألَا أدُلُّك على أَعلَمِ أهلِ الأرضِ بوِتْرِ رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: مَن؟ قال: عائشةُ، فَأْتِها فاسأَلْها، ثمَّ ائتِني فأخْبِرْني برَدِّها عليك،
أي: بجوابِها، فانطلَقَ سعْدٌ إليها، قال: فأتَيْتُ على حَكيمِ بنِ أفلحَ، فاسْتَلحقتُه إليها،
أي: يُرافِقني في الذَّهابِ إليها، فقال: ما أنا بقارِبِها،
أي: لنْ أذهَبَ إليها وأقترِبَ منها؛ لأنِّي نَهيتُها أنْ تقولَ فِي هاتينِ الشِّيعتينِ شيئًا،
أي: الطَّائفتينِ؛ وهما: طائفةُ عليٍّ رضِيَ
اللهُ عنه، وطائفةُ مَن خالَفَهُ، فأبَتْ فيهما إلَّا مُضِيًّا،
أي: ذَهابًا ونفاذًا، قولًا وعمَلًا، وكانت مع مَن خالَفَ عليًّا رضِيَ
اللهُ عنه في مَعركةِ الجمَلِ، قال: فأقسَمْتُ عليه، فجاء، فانطلَقْنا إلى عائشةَ رضِيَ
اللهُ عنها، فاستَأذَنَّا عليها، فأذِنَتْ لنا، فدخَلْنا عليها، فقالت: أحكيمٌ؟ فعرَفَتْه، فقال: نَعمْ، فقالت: مَن معك؟ قال: سَعدُ بنُ هِشامٍ، قالت: مَن هشامٌ؟ قال: ابنُ عامرٍ، فترحَّمَتْ عليه،
أي: دعَتْ لعامرٍ بالرَّحمةِ، وقالت خيرًا، وكان أُصيبَ عامرٌ يومَ أُحُدٍ، فسأَلَها سَعدٌ: يا أُمَّ المؤمنينَ، أَنبئِيني،
أي: أخبِريني، عن خُلُقِ رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، قالت: ألسْتَ تَقرأُ القُرْآنَ؟ فأجاب: بلى، قالت: فإنَّ خُلُقَ نَبِيِّ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كان
القُرآنَ،
أي: إنَّه تخلَّقَ بكلِّ ما في القُرْآنِ، والْتزَمَ به، فهَمَّ أنْ يقومَ ولا يَسأَلَ أحدًا عن شَيءٍ حتَّى يموتَ، ثمَّ بدَا له،
أي: ظهَرَ له، فقال: أَنبئِيني عن قِيامِ رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ،
أي: صَلاتِه في جَوفِ اللَّيلِ، فسأَلَتْه: ألسْتَ تَقرأُ:
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }؟ قال: بلى، قالت: فإنَّ
اللهَ عزَّ وجَلَّ افتَرَضَ قِيامَ اللَّيلِ في أوَّلِ هذه السُّورةِ، فقام نَبيُّ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه حولًا،
أي: عامًا، وأمسَكَ
اللهُ خاتِمَتَها- الَّتي فيها التَّخفيفُ والتَّيسيرُ بقِراءةِ ما تيسَّرَ مِن القُرْآنِ- اثنَيْ عشَرَ شَهرًا في السَّماءِ، حتَّى أنزَلَ
اللهُ في آخِرِ هذه السُّورةِ التَّخفيفَ، فصار قِيامُ اللَّيل تطوُّعًا بعدَ فَريضةٍ، فسأَلَها: أَنبئِيني عن وِتْرِ رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فأجابَتْه: كنَّا نُعِدُّ له،
أي: نُهيِّئُ له، "سِواكَه وطَهورَه"،
أي: ما يَتطهَّرُ به، وهو الماءُ، "فيَبعَثُه
اللهُ ما شاء أنْ يَبعَثَه مِن اللَّيلِ"،
أي: يُوقِظُه مِن نَومِه، "فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي تِسعَ رَكعاتٍ، لا يَجلِسُ فيها إلَّا في الثَّامنةِ، فيَذكُرُ
اللهَ ويَحمَدُه ويَدْعوه، ثمَّ يَنهَضُ ولا يُسلِّمُ، ثمَّ يقومُ فيُصلِّي التَّاسعةَ، ثمَّ يَقعُدُ فيَذكُرُ
اللهَ ويَحمَدُه ويَدْعوه، ثمَّ يُسلِّمُ تَسليمًا يُسمِعُنا، ثمَّ يُصلِّي رَكعتينِ بعدَما يُسلِّمُ وهو قاعدٌ، فتلك إحْدى عَشْرةَ رَكْعةً يا بُنَيَّ، فلمَّا أسنَّ،
أي: كَبِرَ، نَبِيُّ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخَذَهُ اللَّحمُ،
أي: كثُرَ عمَّا كان عليه في عامَّةِ عُمرِه، أوتَرَ بسبْعٍ، وصنَعَ في الرَّكعتينِ مِثلَ صُنعِه الأوَّلِ، فتلك تِسعٌ، وكان نَبِيُّ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إذا صلَّى صَلاةً أحبَّ أنْ يُداوِمَ عليها، وكان إذا غلَبَهُ نومٌ أو وجَعٌ عن قِيامِ اللَّيلِ صَلَّى مِن النَّهارِ ثِنتَيْ عَشْرةَ ركعةً، ولا أعلَمُ رسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قرَأَ القُرْآنَ كلَّه في لَيلةٍ، ولا قامَ ليلةً إلى الصَّباحِ، ولا صامَ شَهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ.
قال سَعْدٌ: فانطلقْتُ إلى ابنِ عبَّاسٍ، فحدَّثْتُه بحَديثِها، فقال: صدَقَتْ، لو كنتُ أقْرَبُها أو أدخُلُ عليها، لَأتَيتُها حتَّى تُشافِهَني به، قال سَعدٌ: لو علِمْتُ أنَّك لا تدخُلُ عليها ما حدَّثْتُك حَديثَها؛ وذلك عِتابًا على تَركِ الدُّخولِ عليها.
في الحديثِ: فَضيلةُ عائشةَ رضِيَ
اللهُ عنها، وعِلْمُها بأحوالِ النَّبيِّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: إنصافُ الصَّحابةِ رضِيَ
اللهُ عنهم وتواضعُهم، واعتِرافُهم بالفَضْلِ لِأهْلِه.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ المُحافظةَ على الأورادِ.
وفيه: تَكريمُ المُسلمِ بذِكْرِ فَضائلِ أبيه، والتَّرحُّمِ عليه.
وفيه: الرِّفقُ بالنَّفسِ، والاقتصادُ في العِبادةِ، وترْكُ التَّعمُّقِ فيها.
وفيه: اهتمامُه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بصَلاةِ الوِترِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم