كُنْتُ عندَ أبي بكرٍ حينَ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ ، فَتَمَثَّلْتُ بهِذا البيتِ : مَنْ لا يزالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا *** يُوشِكُ أنْ يَكُونَ مَدْفُوقًا ، فقال : يا بُنَيَّةُ ! لا تَقُولِي هكذا ، ولكنْ قُولِي : وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ .
ثُمَّ قال : في كَمْ كُفِّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ؟ فقُلْتُ : في ثلاثَةِ أَثْوَابٍ ، فقال : كَفِّنُونِي في ثَوْبَيَّ هاذَيْنِ ، واشْتَرُوا إليهِما ثَوْبًا جَدِيدًا ؛ فإنَّ الحَيَّ أَحْوَجُ إلى الجَدِيدِ مِنَ المَيِّتِ ، وإِنَّما هيَ لِلْمِهْنَةِ [ أوْ لِلْمُهْلَةِ ]
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني
| المصدر : صحيح الموارد
الصفحة أو الرقم: 1824 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كان أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضِيَ
اللهُ عنه يَتَحرَّى سُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، حتى عِندَ مَوتِه؛ فإنَّه تَحرَّى أنْ يُكفَّنَ كما كُفِّنَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وألَّا يُغالى في كَفَنِه، كما يُوضِّحُ هذا الحديثُ الذي تَرويهِ عائِشَةُ بِنتُ أبي بَكرٍ أُمُّ المُؤمِنينَ رضِيَ
اللهُ عنها،
وفيه تقولُ: "كُنتُ عندَ أبي بَكرٍ حين حَضَرَتْه الوَفاةُ"،
أي: في سَكَراتِ المَوتِ، "فَتَمثَّلتُ بهذا البَيتِ"، بمعنى استَشْهَدَتْ بهذا البَيتِ على المَوقِفِ والحالِ المَوجودةِ فيه، فقالت: "مَن لا يَزالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا *** يُوشِكُ أنْ يكونَ مَدْفوقًا"،
أي: مَن كان مُتَماسِكًا ودُموعُه لا تَذرِفُ يَومًا، فإنَّه لا بُدَّ وأنْ يأتيَه يَومٌ يَذرِفُ فيه الدُّموعَ حُزنًا وكَمَدًا، "فقال أبو بَكرٍ: يا بُنَيَّةُ، لا تَقولي هكذا! ولكن قُولي:
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [
ق: 19 ]"، أيْ: كَشَفَتْ لَكَ سَكْرةُ المَوتِ عن اليَقينِ الذي كُنتَ تَمتَري فيه، "
{ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [
ق: 19 ]"،
أي: هذا هو الذي كُنتَ تَفِرُّ منه، وهو المَوتُ قد جاءَك، فلا مَحيدَ ولا مَناصَ، ولا فِكاكَ ولا خَلاصَ.
"ثُمَّ قال: في كمْ كُفِّنَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؟" ولعلَّ أبا بَكرٍ ذَكَرَ لها ذلك بصيغةِ الاستِفْهامِ تَوطئةً لها للصَّبرِ على فَقْدِه، ومِثلُه رضِيَ
اللهُ عنه لا يَخفى عليه أمْرُ كَفَنِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وأقرَبُ ما يكونُ في سُؤالِه أنَّه استِنْكاريٌّ لأُمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ رضِيَ
اللهُ عنها التي رآها حَزينةً على مَرَضِه، وقُربِ أجَلِه، فأرادَ مُواساتَها بأنْ يُذكِّرَها بمُصيبةِ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وبيَومِ وَفاتِه؛ فسَأَلَها لكي يُعيدَها بالذاكرةِ إلى مُصيبةِ فِقدانِ رسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فيُهوِّنَ عليها مُصيبةَ فِقدانِ أبيها، فهذا مِن حِكْمةِ الصِّدِّيقِ وفِطنَتِه، "فقُلتُ: في ثلاثةِ أثوابٍ، فقال: كَفِّنوني في ثَوبَيَّ هَذَينِ"،
أي: في الثَّوبَينِ اللَّذين يَلبَسُهما في مَرَضِه، ولعلَّه اخْتارَهما؛ لأنَّه كان يُصلِّي فيهما، كما روى ابنُ سعدٍ، عن القاسمِ بنِ مُحمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ، أنَّه قال: "كَفِّنوني في ثَوبَيَّ اللَّذين كُنتُ أُصلِّي فيهما"، "واشْتَرُوا إليهما ثَوبًا جَديدًا"؛ ليَكونوا ثلاثةَ أثوابٍ يُكفَّنُ فيها مِثلَ كَفَنِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي رِوايةِ البُخاريِّ: "فنَظَرَ إلى ثَوبٍ عليه كان يُمرَّضُ فيه، به رَدْعٌ مِن زَعفَرانٍ، فقال: اغْسِلوا ثَوبِي هذا، وزِيدوا عليه ثَوبَينِ فكَفِّنوني فيها"، ثُمَّ علَّلَ طَلَبَه فقال: "فإنَّ الحَيَّ أحوَجُ إلى الجَديدِ من الميِّتِ؛ وإنَّما هي للمِهْنةِ -أو لِلمُهْلةِ-"،
أي: الحَيُّ مِن بَعدِه أكثَرُ حاجةً للثِّيابِ الجَديدةِ، أمَّا هو فسيَكونُ ميِّتًا، فكَفَنُه سيَبْلى ويُمرَّغُ في التُّرابِ وبقايا الجَسَدِ الميِّتِ مِن الصَّديدِ والدَّمِ.
وفي الحديثِ: مَشروعيَّةُ التَّكفينِ في الثِّيابِ، وتَثْليثِ الكَفَنِ.
وفيه: طَلَبُ المُوافَقةِ فيما وَقَعَ للأكابِرِ.
وفيه: إيثارُ الحَيِّ بالجَديدِ.
وفيه: بَيانُ ثَباتِ أبي بَكرٍ رضِيَ
اللهُ عنه عندَ المَوتِ ويَقينِه ب
اللهِ.
وفيه: أخْذُ المَرءِ العِلمَ عمَّن دُونَه .
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم