كان رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يدْعو إلى
اللهِ سُبحانَه، ويُقرِّبُ قُلوبَ النَّاسِ إلى الإسلامِ، وقدْ كان يُعطي بَعضَ السَّادةِ المالَ؛ لِيُرغِّبَهم في الدِّينِ، ولِيَأتيَ قَومُهم مِن بَعدِهم ويَدخُلوا في الإسلامِ، ويَترُكُ إعْطاءَ البعضِ الآخَرِ ثِقةً بإيمانِهم.
وفي هذا الحَديثِ يَروي أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ
اللهُ عنه أنَّ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضيَ
اللهُ عنه بَعَث مِن اليَمَنِ إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بذُهَيبةٍ؛ وهي القِطْعةُ مِن الذَّهَبِ، وكانتْ ممَّا أخَذَه علِيٌّ رَضيَ
اللهُ عنه مِن زَكَواتِ أهْلِ اليمَنِ، فقَسَمها صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بيْن أربعةِ نَفَرٍ: الأَقْرَعِ بنِ حَابِسٍ الحَنْظليِّ الْمُجاشِعيِّ، وعُيَيْنَةَ بنِ بَدْرٍ الفَزَاريِّ، وزيدٍ الطَّائِيِّ أحدِ بَني نَبْهَانَ، وعَلْقمةَ بنِ عُلَاثةَ العامِريِّ أحدِ بَني كِلابٍ، وهمْ رُؤساءٌ في أقوامِهِم، وقد كانوا حَديثي عهْدٍ بكُفْرٍ، فتَألَّفَهم النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا المالِ ليَثْبُتوا على الإسلامِ فيَثبُتَ قَومُهم معَهم، فلمَّا خَصَّهم النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا العطاءِ، غَضِبَت قُرَيْشٌ -وهمْ أهْلُ مكَّةَ، والمرادُ بهم المهاجِرون- والأنْصارُ، وهمْ أهْلُ المدينةِ، وقالوا: يُعطي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ صَنادِيدَ أهلِ نَجْدٍ -أيْ: رُؤساءَهُم، ونجْدٌ أرْضٌ بيْن الحِجازِ والعراقِ- ويَترُكنا ولا يُعطِينا! فكأنَّهم رَأَوا أنفُسَهم أحقَّ بهذا العطاءِ مِن هؤلاء الأربعةِ، فلمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بقَولِهم هذا، بَيَّن لهم مُوضِّحًا سَببَ ذلك؛ فإنَّه إنَّما يتَألَّفُهم بالإعطاءِ؛ لِيَثْبُتوا على الإسلامِ رَغْبةً فيما يَصِل إليهِم مِن المالِ.
وجاء رجلٌ مِن قَبيلةِ بَني تَمِيمٍ يُقال له: ذو الْخُويصِرةِ، واسمُه حُرْقُوص بنُ زُهَيْرٍ، وكان غائرَ العينَينِ،
أي: داخلتين في محجريهما، مُشْرِفَ الوَجْنَتينِ،
أي: ناتئَ الخَدَّينِ غَليظَهُما، نَاتِئَ الْجَبين،
أي: جَبينُه مُرتَفِعٌ، والجَبينُ: جانبُ الجبْهةِ، ولكلِّ إنسانٍ جَبِينانِ يَكتنفانِ الجبْهةَ مِن اليمينِ واليَسارِ، وكان كَثَّ اللِّحيةِ،
أي: شَعرُها كَثيرٌ، مَحلوقًا رَأسُه، فكان مُخالِفًا لِمَا كانوا عليه مِن تَربيةِ شَعْرِ الرَّأسِ وفَرْقِه، فأقْبَلَ هذا الرَّجلُ على النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وقال لهُ: «
اتَّقِ اللهِ يا محمَّدُ» وهذا كَلامٌ يدُلُّ على قِلَّةِ فِقهِ هذا الرَّجلِ، فغَضِبَ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وقال له: ((مَن يُطِعِ
اللهَ إذا عَصَيتُ؟!» وهذا تَعجُّبٌ مِن النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وإنكارٌ لقَولِ الرَّجلِ،
وفيه إثباتُ أنَّه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أتْقى النَّاسِ، وأنَّه إذا لم يكُنْ هو أكثَرَ النَّاسِ تَقْوى للهِ، فمَن ذا الَّذي يكونُ تَقيًّا؟!
ثمَّ قال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
أَيَأْمَنُني اللهُ على أهلِ الأرضِ فلا تَأمنُوني؟!» فقدِ استَأمَنَ
اللهُ سُبحانَه نَبيَّه على تَبليغِ الرِّسالةِ لأهلِ الأرضِ جَميعًا، وإبلاغِهِم الوحْيَ والأحكامَ، ولم يَأمَنْه هؤلاء الَّذين اعتَرَضوا عليه على بَعضِ الأموالِ! فهذا مِن الأُمورِ العَجيبةِ التي يَنْبغي عليهم عدَمُ فِعلِها وعدَمُ تَصوُّرِها.
وهنا طلَبَ رجُلٌ مِن الصَّحابةِ أنْ يَأذَنَ له النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في قتْلِ هذا الرَّجُلِ، وظنَّ راوي الحَديثِ أنَّ الصَّحابيَّ الَّذي طَلَبَ قتْلَ المخطِئِ هو خالدُ بنُ الوَليدِ، فمَنَعه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قَتْلِه تَأليفًا لغيرِه، فلمَّا انصَرَفَ الرَّجلُ، قال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
إنَّ مِن ضِئْضِئِ هذا»،
أي: مِن نَسْلِه، «
أو في عَقِب هذا قومًا يَقرَؤون القرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهم» جمْعُ حَنْجَرةٍ، وهي مُنتَهى الحُلْقُومِ مِن الأعلَى، وهو: مَجرى الطَّعامِ والشَّرابِ، وهو كِنايةٌ عن أنَّ حَظَّهمْ مِن القُرْآنِ ليس إلَّا مُرورَه على اللِّسانِ، فلا يُجاوِزُ حَناجِرَهمْ ليَصِلَ قُلوبَهمْ، وليس ذلك هو المطلوبَ، بلِ المطلوبُ تَعقُّلُه وتَدبُّرُه بوُقوعِه في القلْبِ، والمرادُ أنَّ الإيمانَ لمْ يَرْسَخْ في قُلوبِهمْ، «
يَمْرُقُونَ مِن الدِّينِ مُروقَ السَّهْمِ مِن الرَّمِيَّةِ»،
أي: يَخْرُجونَ مِن مِلَّةِ الإسلامِ سَريعًا، ولا يَتعَلَّقونَ مِنْه بشَيءٍ، مِثْلَ السَّهْمِ القويِّ السَّريعِ الَّذي يَنْفُذُ في الصَّيدِ، ومِن قُوَّتِه وسُرْعتِه لا يكونُ فيه أثَرٌ مِن دَمٍ أو لَحْمٍ، وهذا نَعْتُ الخَوارِج الَّذين لا يَدينون للأئمَّةِ ويَخرُجون عليهم، «
يَقْتُلون أهلَ الإِسلام ويَترُكون أهلَ الأَوْثانِ!»، وهذا مِن عجائبِ الأفعالِ؛ أنَّهم يدَّعونَ الإسلامَ ويَقتُلونَ أهلَه، ويدَّعونَ مًخالفةَ أهلِ الكُفرِ ولا يُقاتِلونَهم، والوثَنُ: كلُّ ما له جُثَّةٌ متَّخَذٌ مِن نحْوِ الحجارةِ والخشَبِ يُعبَدُ، «
لَئِن أنا أدرَكْتُهم لَأقتُلنَّهم قَتْلَ عادٍ»،
أي: لَأستَأصِلنَّهم بحيثُ لا أُبقِي منهم أحدًا كما استُؤصِلَت عادٌ، وعادٌ همْ قَومُ نَبيِّ
اللهِ هُودٍ عليه السَّلامُ، والذي جاء ذِكرُهم في قَولِ
اللهِ تعالَى:
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } [
فصلت: 15، 16 ]، وقال عنهم:
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [
الأعراف: 72 ]، و
{ فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } [
الأحقاف: 25 ].
وفي الحديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ الحُكمَ للنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فيما خوَّلَه
اللهُ، وليس لأحدٍ أنْ يُعارِضَه، وهذا في حياتِه وبعْدَ مَماتِه.
وفيه: بَيانُ أنَّ مِن صِفةِ وَعادةِ المنافقينَ التَّشكيكَ في أحوالِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وأفعالِه، ومُخالَفةَ هَدْيِه في كُلِّ عصرٍ، مع التَّلبيسِ على النَّاسِ في تَوجيهِ الأفعالِ والأحوالِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم