حرَّمَ
اللهُ سُبحانَه سفْكَ الدِّماءِ المعصومةِ بغيرِ حَقٍّ، وتَوعَّدَ مَن سفَكَها عمْدًا بالعذابِ الأليمِ، و
اللهُ عزَّ وجلَّ حَكَمٌ عدَلٌ لا تَضيعُ عِندَه الحقوقُ.
وفي هذا الحَديثِ يحكي عبدُ
اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنهما أنَّ رَجُلًا جاءه -قيل: هو حِبَّان صاحِبُ الدثنيَّةِ، أو العلاءُ بنُ عرارٍ، أو نافِعُ بنُ الأزرَقِ، وقيل غيرُ ذلك- فسَألَه: يا أبا عبْدِ الرَّحمنِ -وهي كُنيةُ عبدِ
اللهِ بنِ عُمَرَ- ألَا تَسمَعُ ما ذَكَر
اللهُ في كِتابِه:
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [
الحجرات: 9 ]، أيْ: وإن حدث قتالٌ بين طائِفَتينِ من المؤمِنين، فعليكم يا أُولي الأمرِ مِنَ المؤمِنين أن تتدَخَّلوا بينهما بالإصلاحِ؛ عن طريقِ بَذلِ النُّصحِ، وإزالةِ أسبابِ الخِلافِ.
فإن بغَت إحدى الطَّائِفَتينِ على الأُخرى، وتجاوزت حُدودَ العَدلِ والحَقِّ؛ فقاتِلوا -أيُّها المؤمنونَ- الفِئةَ الباغيةَ حتى ترجِعَ إلى حُكمِ
اللهِ تعالى وأمْرِه، وحتى تَقبَلَ الصُّلحَ الذي أمَرْناكم بأن تُقيموه بينهم.
فإن رجَعَت الفئةُ الباغيةُ عن بَغْيِها، وقَبِلَت الصُّلحَ، وأقلعت عن القِتالِ؛ فأصلِحوا بين الطَّائِفَتينِ إصلاحًا متَّسِمًا بالعَدلِ التَّامِّ وبالقِسطِ الكامِلِ.
إنَّ
اللهَ عزَّ وجَلَّ يُحِبُّ من يقومُ بالعَدْلِ وإعطاءِ كُلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه.
وبعد أن ذكر الرَّجُلَ لابنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنهما هذه الآيةَ سأله: ما يَمنعُك يا ابنَ عُمَرَ ألَّا تُقاتِلَ الفِئةَ الباغيةَ كما ذَكَر
اللهُ في كتابِه؟ حيث إنَّ ابنَ عُمرَ رضِي
اللهُ عنهما لم يُقاتِلْ في أيٍّ مِن حُروبِ الفِتَن بيْنَ الصَّحابةِ كصِفِّينَ والجَمَلِ، أو حرْبِ عبدِ
اللهِ بنِ الزُّبيرِ رضِيَ
اللهُ عنه.
وكان هذا الكلامُ مِنَ السَّائِلِ لابنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنهما في أيَّامِ فِتنةِ عبدِ
اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ
اللهُ عنهما، كما في روايةٍ عند البخاريِّ.
فأجابه ابنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنها: «
أغتَرُّ» من الاغترارِ -وهو الغَفلةُ والخِداعُ- في تأويلِ هذه الآيةِ:
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } ولا أُقاتِلُ، أَحَبُّ إليَّ مِن أن أَغترَّ بهذه الآيةِ التي يقولُ
اللهُ تعالى فيها:
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [
النساء: 93 ]، فاجتنب بها قَتْلَ المسلمِ؛ ففي الآيةِ تغليظٌ شديدٌ وتهديدٌ عظيمٌ لمن قتل مؤمِنًا متعَمِّدًا.
قال الرَّجلُ: فإنَّ
اللهَ تعالَى يقولُ:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [
البقرة: 193 ]، فأجابه ابنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنه أنهم قد فعلوا ذلك وقاتلوا القِتالَ الحَقَّ على عَهْدِ رسولِ
الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم حِين كان الإسلامُ قَليلًا،
أي: أتباعُه، فكان الرَّجلُ يُفتَنُ في دِينِه؛ إمَّا أنْ يَقتُلَه الكُفَّارُ، وإمَّا أن يُوثِقُوه، وهذا إشارةٌ إلى استمرارِ التعذيبِ حتى يرتَدَّ عن دينِه، فلمَّا كَثُر الإسلامُ لم تَكُنْ فِتنةٌ، وحاصلُ جَوابِه: أنَّ الضَّميرَ في قولِه تعالَى:
{ وَقَاتِلُوهُمْ } يَعودُ على الكفَّارِ؛ فأمَرَ المؤمنين بقِتالِ الكافرين حتَّى لا يَبقَى أحدٌ يُفتَنُ عن الإسلامِ ويَرتَدُّ إلى الكُفرِ.
فلمَّا رأى الرَّجلُ أنَّ ابنَ عُمرَ رضِيَ
اللهُ عنهما لا يُوافِقُه فيما يُريدُ مِن القتالِ، سَأَله: فما قولُك في علِيٍّ وعُثمانَ؟ فأجابه ابنُ عُمرَ رضِيَ
اللهُ عنهما: أمَّا عُثمانُ فكان
اللهُ قدْ عَفَا عنه لَمَّا فرَّ في غزوةِ أُحُدٍ في قولِه:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [
آل عمران: 155 ]، فكَرِهتُم أنْ يَعفُوَ
اللهُ عنه، وأمَّا علِيٌّ فابنُ عمِّ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم «
وخَتَنُه»،
أي: زَوجُ ابنَتِه، وأشار بيَدِه، وهذه ابْنتُه، والمرادُ بها فَاطمةُ رضِيَ
اللهُ عنها «
حيث تَرَون» منْزِلَها بيْن مَنازلِ أبيها، والمرادُ: بيانُ قُربِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ مِن رَسولِ
الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم مكانًا ومكانةً.
وفي الحَديثِ: عِلمُ ابنِ عُمرَ رضِيَ
اللهُ عنهما بتَأويلِ القرآنِ وفَضائلِ الصَّحابةِ، وسَلامةُ صَدْرِه لهم، وعَظيمُ فِقهِه وبَصرِه بحالِ المستفتِي.
وفيه: حُرمةُ دَمِ المُسلِمِ وخُطورةُ الوُقوعِ فيه بغيرِ حَقٍّ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم