القرآنُ الكريمُ هو كَلامُ
اللهِ سُبحانه، أَنْزَلَهُ على نَبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم لِهدايةِ الخَلْقِ في الدُّنيا، ولِنَجاتِهِم في الآخِرَةِ، وكان قَدَرُ
اللهِ أن يَختِمَ بالقرآنِ الكُتُبَ المُنَزَّلةَ من عندِه، وبالنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم الرُّسُلَ، وحتى تبقى حجَّةُ
اللهِ قائِمةً على البَشَرِ حتى قيامِ السَّاعةِ، تعهَّد
اللهُ بحِفْظِ
القُرآنِ، فقال:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [
الحجر: 9 ]، وقد مضى وَعْدُ
اللهِ في حِفظِ
القُرآنِ مِن خِلالِ رِجالِ صِدقٍ بذلوا للقُرآنِ حياتَهم.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي زَيْدُ بنُ ثابِتٍ رضِيَ
اللهُ عنه أنَّ أبا بَكْرٍ رضِيَ
اللهُ عنه أَرْسَلَ إليه أَيَّامَ مَقْتَلِ أَهْلِ اليَمامةِ، وهي الحَربُ التي كانت بيْنَ المُسلِمينَ وبيْنَ مُسيلِمةَ الكذَّابِ -لَعَنَه
اللهُ- الذي ادَّعى النبُوَّةَ، وقَوِيَ أمرُه بعد وفاةِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، وقتَلَه
اللهُ في موقِعةِ اليَمامةِ في خِلافةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ
اللهُ عنه، واليَمامةُ: إقليمٌ ضِمنَ منْطقةِ نَجْدٍ في وَسَطِ المَمْلكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ.
وَكان عِنْدَه عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ
اللهُ عنه، فَأَخْبَرَ أبو بكرٍ زيدًا رضِيَ
اللهُ عنهما أنَّ عُمَرَ رضِيَ
اللهُ عنه قالَ له: إنَّ القَتْلَ قَدِ اشْتَدَّ وكَثُرَ يومَ اليمامةِ بالمُسلِمين، فمات من الصَّحابةِ عَدَدٌ كثيرٌ، وإنِّي أَخْشى أَن يَستَحِرَّ القَتْلُ بحَفَظةِ
القُرآنِ الكريمِ في المَواطِنِ الَّتي يَقَعُ فيها القِتالُ مَعَ الكُفَّارِ، فيضيعَ كَثيرٌ مِن
القُرآنِ بمَوتِ حَمَلتِه، إلَّا أَنْ تقوموا بجَمْعِه، وَإنِّي لَأَرى أنْ تَجْمَعَ
القُرآنَ، ومرادُه أن يجمَعَه مكتوبًا في صُحُفٍ.
فَقالَ أَبو بَكْر رضِيَ
اللهُ عنه وهو يُخاطِبُ زيدَ بنَ ثابتٍ رَضِيَ
اللهُ عنه: قُلْتُ لِعُمَرَ رضِيَ
اللهُ عنه: كَيْفَ أَفعَلُ شَيْئًا لَم يَفعَلْه رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم؟
وفيه إشارةٌ إلى شِدَّةِ أبي بكرٍ في تمسُّكِه بمنهَجِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه، فَأَجابَه عُمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه أنَّ جَمْعَ
القُرآنِ -و
اللهِ- خَيْرٌ مِن تَركِه.
وظلَّ عُمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه يُراجِعُ أبا بكرٍ رضِيَ
اللهُ عنه في جَمْعِ
القُرآنِ حتَّى شَرَحَ
اللهُ لِذَلِكَ صَدْرَه، ورأى مِثْلَ ما رَأى عُمَرُ رضِيَ
اللهُ عنه.
وأخبر زيدٌ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّ كُلَّ ما قاله له أبو بكرٍ رَضِيَ
اللهُ عنه كان عُمَرُ يسمَعُه ولا يتكَلَّمُ بشَيءٍ، فَقالَ أَبو بَكْر رضِيَ
اللهُ عنه: وإنَّك يا زَيْدُ، رَجُلٌ شابٌّ -أَشارَ إلى نَشاطِه وَقُوَّتِه فيما يَطلُبُ مِنه، وبُعْدِه عن النِّسيانِ، وكان يومَها عُمُرُه دون الخامِسةِ والعِشرينَ- عاقِلٌ تَعِي المُرادَ، ولا نَتَّهِمُك بِكَذِبٍ وَلا نِسيانٍ، وكُنْتَ تَكتُبُ الوَحيَ لرَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم،
أي: فهو أَكْثَرُ مُمارَسةً له مِن غَيرِه، فَجَمْعُ هَذِه الخُصوصيَّاتِ الأَرْبَعِ فيه يَدُلُّ على أنَّه أَوْلى بذلك مِمَّن لَم تَجتَمِعْ فيه.
فأمره أبو بكرٍ رَضِيَ
اللهُ عنه بأن يتتبَّعَ القرآنَ مِن صُدورِ الرِّجالِ وما كُتِب مُفَرَّقًا؛ لِيَكتُبَه في مُصحَفٍ جامعٍ لكُلِّ السُّوَرِ والآياتِ التي أُنزِلَت.
فَيَحلِفُ زَيْدٌ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّ أَبا بَكْرٍ رَضِيَ
اللهُ عنه لو كَلَّفَه نَقْلَ جَبَلٍ مِن الجِبالِ، ما كانَ أَثْقَلَ عَلَيه ممَّا أَمَرَه بِه مِن جَمْعِ
القُرآنِ، وإنما قال ذلك لِما خَشِيَه من التقصيرِ في إحصاءِ ما أمر بجَمْعِه، لكِنَّ
اللهَ تعالى يسَّرَ له ذلك.
فَقال زيدٌ لأبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنه: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَم يَفعَلْه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم؟ فَقالَ أَبو بَكْرٍ رضِيَ
اللهُ عنه كما قال له عمر: هو و
اللهِ خَيْرٌ، فَلَم يَزَلْ زيدٌ يُراجِعُه حتَّى شَرَحَ
اللهُ صَدْرَه لِلَّذي شَرَحَ
اللهُ له صَدْرَ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ رضِيَ
اللهُ عنهما؛ لِمَا في ذلك مِن الحِفاظِ على
القُرآنِ الكريمِ مِنَ التَّبديلِ والتحريفِ.
فَتَتَبَّع زيدٌ رَضِيَ
اللهُ عنه
القُرآنَ الكريمَ يَجمَعُه مِمَّا عِنده وعِندَ غَيْره مِن «
الرِّقاعِ»، جَمْعُ رُقْعةٍ مِن جِلدٍ أو وَرَقٍ أو نَحوِهما، «
والأَكْتافِ» جَمْعُ كَتِفٍ: عَظْمٌ عَريضٌ في أَصْلِ كَتِفِ الحَيوانِ يُنَشَّفُ ويُكْتَبُ فيه، «
والعُسُبِ» جَمْعُ عَسيبٍ، وهو جَريدُ النَّخلِ يَكشِطونَ خُوصَه ويَكتُبونَ في طَرَفِه العَريضِ، وصُدورِ الرِّجالِ الَّذينَ جَمَعوا القُرْآنَ وحَفِظوه كامِلًا في حَياتِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، كَأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضِيَ
اللهُ عنهما، وغيرِهما،
أي: كان يأخُذُ من حِفْظِهم حيث لا يجِدُ ذلك مكتوبًا، أو الواو بمعنى «
مع»، والمعنى: اكتُبْه من المكتوبِ الموافِقِ للمَحفوظِ في الصُّدورِ.
فكان زيدٌ رَضِيَ
اللهُ عنه لا يكتفي بمجرَّدِ أنَّ البَعضَ مِن
القُرآنِ مكتوبٌ، بل لا يُثبِتُه حتى يشهَدَ على المكتوبِ مَن تلقَّاه سماعًا من رسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، مع كونِ زَيدٍ كان يحفَظُه، وكان يفعَلُ ذلك مبالغةً في الاحتياطِ.
قال زيدٌ رَضِيَ
اللهُ عنه: «
حتَّى وجَدتُ مِن سُورةِ التَّوْبةِ آيَتَيْنِ مع خُزَيْمةَ» بنِ ثابتٍ «
الأَنْصاريِّ» رضِيَ
اللهُ عنه -وهو الذي جعل النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم شهادَتَه شهادةَ رَجُلينِ- «
لَم أَجِدْهما»
أي: الآيَتَيْنِ «
مَعَ أَحَدٍ غَيرِه» مَكتوبتَيْنِ، وهما قَولُ
اللهِ تعالى:
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [
التوبة: 128، 129 ].
وكانَتِ الصُّحُفُ الَّتي جُمِعَ فيها
القُرآنُ عِندَ أَبي بَكْر رضِيَ
اللهُ عنه حتَّى تَوَفَّاه
اللهُ، ثُمَّ عِندَ عُمَرَ رضِيَ
اللهُ عنه حتَّى تَوَفَّاه
اللهُ، ثُمَّ عِندَ حَفْصةَ بِنتِ عُمَرَ رضِيَ
اللهُ تَعالى عنهما.
وفي الحَديثِ: أنَّ فِعلَ الخيرِ الذي وُجِد مُقتضِيه، ولم يكُنْ وُجِد على عهْدِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم ليس ببِدعةٍ.
وفيه: مُشاورةُ الصَّحابةِ بعضِهم بَعضًا في أُمورِ الدِّينِ.
وفيه: فَضيلةُ زيْدِ بنِ ثابتٍ، وفَضيلةُ خُزيمةَ بن ثابتٍ الأنصاريِّ، وأبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنهم.
وفيه: حِرصُ الصَّحابةِ على حِفْظِ
القُرآنِ وعنايتُهم به.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم