( يا أبا ذرٍّ أترى كثرةَ المالِ هو الغِنى ) ؟ قُلْتُ : نَعم يا رسولَ اللهِ قال : ( فترى قلَّةَ المالِ هو الفقرَ ) ؟ قُلْتُ : نَعم يا رسولَ اللهِ قال : ( إنَّما الغِنى غِنى القلبِ والفقرُ فقرُ القلبِ ) ثمَّ سأَلني عن رجُلٍ مِن قُرَيشٍ فقال : ( هل تعرِفُ فُلانًا ) ؟ قُلْتُ : نَعم يا رسولَ اللهِ قال : ( فكيف تراه وتراه ؟ ) قُلْتُ : إذا سأَل أُعطِيَ وإذا حضَر أُدخِل ثمَّ سأَلني عن رجُلٍ مِن أهلِ الصُّفَّةِ فقال : ( هل تعرِفُ فُلانًا ؟ ) قُلْتُ : لا واللهِ ما أعرِفُه يا رسولَ اللهِ قال : فما زال يُحلِّيه وينعَتُه حتَّى عرَفْتُه فقُلْتُ : قد عرَفْتُه يا رسولَ اللهِ قال : ( فكيف تراه أو تراه ؟ ) قُلْتُ : رجُلٌ مِسكينٌ مِن أهلِ الصُّفَّةِ فقال : ( هو خيرٌ مِن طِلاعِ الأرضِ مِن الآخَرِ ) قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ أفلا يُعطَى مِن بعضِ ما يُعطَى الآخَرُ ؟ فقال : ( إذا أُعطِيَ خيرًا فهو أهلُه وإنْ صُرِف عنه فقد أُعطِيَ حسَنةً )
الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج صحيح ابن حبان
الصفحة أو الرقم: 685 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم
كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُصوِّبُ مَفاهيمَ النَّاسِ في أُمورِ الحَياةِ، ويُعرِّفُهمُ المَعانيَ الصَّحيحةَ الَّتي يَنبَغي أنْ يَتَصَوَّروها عن هذه المَفاهيمِ، ومِن ذلك ما يَرْويه أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ رَضيَ
اللهُ عنه في هذا الحَديثِ؛ فقدْ سَألَه رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن رَأيِه في كَثرةِ المالِ وامْتِلاكِ المَرءِ له؛ هل هذا هو الغِنى الحَقيقيُّ؟ فأجابه أبو ذَرٍّ رَضيَ
اللهُ عنه: «
نعَم، يا رسولَ اللهِ»، وإنَّما كان جَوابُ أبي ذَرٍّ رَضيَ
اللهُ عنه بأنَّ الغِنى يُطلَقُ على وَفْرةِ المالِ وكَثرَتِه؛ لأنَّ هذه المَعانيَ هي المُتَعارَفةُ عندَ عُمومِ النَّاسِ، وهو نفْسُ الحالِ معَ الفَقرِ؛ فإنَّه يوصَفُ به مَن ليس معه مالٌ؛ ولذلك فقدْ سَألَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عنه أيضًا، وأقرَّه عليه أبو ذَرٍّ رَضيَ
اللهُ عنه.
ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أوضَحَ المَفهومَ الحَقيقيَّ للغِنى والفَقرِ؛ بأنَّ الغِنى الحَقيقيَّ هو غِنى القَلبِ، بامْتِلائِه بحُبِّ
اللهِ، ويَقينِه بأنَّ المُعْطيَ هو
اللهُ، وأنَّ الرِّزقَ لا يَفوتُه، فيَتوكَّلُ على
اللهِ في كلِّ أمْرِه، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرةَ رَضيَ
اللهُ عنه: «
ولكنَّ الغِنى غِنى النَّفْسِ»؛ وذلك لعدَمِ حِرْصِها على الازْديادِ والإلْحاحِ في الطَّلبِ؛ لأنَّها إذا استَغنَتْ كفَّتْ عنِ المَطامِعِ، فعَزَّتْ وعظُمَتْ، وحصَلَ لها منَ الحُظْوةِ، والنَّزاهةِ، والشَّرَفِ، والمَدحِ أكثَرُ مِن الغِنى الَّذي يَنالُهُ مَن يكونُ فَقيرَ النَّفْسِ بحِرْصِه؛ فإنَّه يُورِّطُه في رَذائلِ الأُمورِ وخَسائسِ الأفْعالِ، وهو معَ ذلك كأنَّه فَقيرٌ مِن المالِ؛ لكَونِه لم يَسْتغْنِ بما أُعطِيَ، فكأنَّه ليس بغَنيٍّ، ولو لمْ يكُنْ في ذلك إلَّا عدَمُ رِضاهُ بما قَضاهُ
اللهُ لكَفاهُ.
وعليه -كما بيَّن رسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ- فإنَّ الفَقرَ الحَقيقيَّ هو فَقرُ القَلبِ، ويكونُ ذلك باستِشْعارِ قَلبِ المَرءِ بأنَّه مُحتاجٌ إلى المالِ، وإلى عَطاءِ النَّاسِ.
ثمَّ سَأَلَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أبا ذَرٍّ عن رجُلٍ مِن قُريشٍ، فقال: «
هل تَعرِفُ فُلانًا؟» فأجابَ أبو ذَرٍّ: «
نعَم، يا رسولَ الله»، فقال له النَّبيُّ: «
فكيف تَراهُ وَتراهُ؟»
أي: ما رَأيُكَ فيه وفي مَكانتِه بيْنَ النَّاسِ؟ فقال أبو ذَرٍّ ما يُوضِّحُ أنَّ هذا الرَّجلَ مَشهورٌ ومَعروفٌ، وله مَكانةٌ بيْن النَّاسِ، حتَّى إنَّه إذا سَأَل النَّاسَ شَيئًا وطلَبَه، فإنَّهم يُعْطونَه ولا يَمْنَعونَه، وإذا حَضَر إلى مَجلِسٍ أو بَيتٍ، أُدخِلَ فيه دونَ تَردُّدٍ؛ لمَكانتِه، وشَرفِه، وغِناه بيْن النَّاسِ.
ثمَّ سَأَلَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن رجُلٍ مِن أهلِ الصُّفَّةِ -وهم فُقراءُ المُهاجِرينَ الَّذين لا يَملِكونَ شيئًا منَ الدُّنيا، وكان المَسجِدُ مَأْواهم، ويُنفِقُ عليهمُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا يَأْتيه، وهم لا يَأْبَهُ لهم كثيرٌ منَ النَّاسِ- فكان جَوابُ أبي ذَرٍّ رَضيَ
اللهُ عنه عنِ الرَّجلِ: «
لا واللهِ ما أعْرِفُه يا رسولَ اللهِ»، فما زال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ «
يُحَلِّيهِ ويَنْعَتُه»،
أي: يُزيلُ الغُموضَ عن شَخصِ الرَّجلِ، ويَصِفُه بما يُقرِّبُه إلى أبي ذَرٍّ حتَّى عَرَفه، فسَأَلَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن رَأيِه في ذلك الرَّجلِ المَغْمورِ الفَقيرِ مِن أهلِ الصُّفَّةِ: «
فكيف تَراهُ-أو تُراه-»،
أي: فكيف ترَى مَنزِلتَه أو تَظنُّها بيْنَ النَّاسِ، فأجاب أبو ذَرٍّ بأنَّه: رجُلٌ مِسكينٌ فَقيرٌ مِن أهلِ الصُّفَّةِ»، فهذا كلُّ ما رَآه أبو ذَرٍّ مِن ظاهِرِ الرَّجلِ وظَنَّه، ولكنَّه لم يَعلَمْ مَخبَرَه وقَلبَه، ولكنْ يَعرِفُه
اللهُ، ويَعرِفُه رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وهنا علَّمَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كَيفيَّةَ تَقْويمِ النَّاسِ؛ فأخبَرَه بأنَّ هذا الفَقيرَ: «
هو خيرٌ من طِلاعِ الأرضِ منَ الآخَرِ»،
أي: هذا الفَقيرُ مِن أهلِ الصُّفَّةِ خَيرٌ مِن مِلءِ الأرضِ مِن مِثلِ هذا القُرَشيِّ الَّذي أعجَبَكَ.
فقال أبو ذَرٍّ مُتعجِّبًا مِن ذلك: «
يا رَسولَ اللهِ، أفلا يُعْطى مِن بَعضِ ما يُعْطى الآخَرُ؟!»،
أي: إذا كان هذا الرَّجلُ الفَقيرُ له المَنزِلةُ الكَبيرةُ عندَ
اللهِ، فلماذا لا يُعْطيه
اللهُ قَليلًا ممَّا أعْطى الآخَرَ منَ المالِ الكَثيرِ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
إذا أُعْطيَ خَيرًا فهو أهلُه»، فلو أنَّ
اللهَ أعْطاهُ خَيرًا مِن مالٍ وغيرِه، فهو أهْلٌ له ويَستحِقُّ ذلك، «
وإنْ صُرِف عنه فقدْ أُعْطيَ حَسَنةً»، يَعْني: فإذا صَرَف
اللهُ عنه هذا المالَ، وصبَر على ذلك، فله بهذا فضَلٌ له عِندَ
اللهِ سُبحانَه وتعالَى، وقدْ أخَذ حَسَنةَ الصَّبرِ، وثَوابَ عدَمِ الجَزَعِ مِن الفَقرِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم