أَرسِلوا إليَّ طبيبًا ينظُرُ إلى جُرحِي هذا، قال: فأرسَلوا إلى طبيبٍ مِن العربِ، فسَقَى عُمَرَ نَبِيذًا، فشُبِّهَ النبيذُ بالدمِ حينَ خرَجَ مِن الطَّعنةِ التي تحتَ السُّرَّةِ، قال: فدعَوتُ طبيبًا آخرَ مِن الأنصارِ مِن بَني معاويةَ، فسقَاهُ لبنًا، فخرَجَ اللبنُ مِن الطعنةِ صلدًا أبيضَ، فقال له الطبيبُ: يا أميرَ المؤمنينَ، اعهَدْ، فقال عُمَرُ: صدَقَني أخو بني معاويةَ، ولو قلتَ غيرَ ذلك كذَّبتُك، قال: فبكَى عليه القومُ حينَ سَمِعوا ذلك، فقال: لا تبكُوا علينا، مَن كان باكيًا فلْيخرُجْ، ألمْ تَسمَعوا ما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: يُعذَّبُ الميِّتُ ببُكاءِ أهلِه عليه، فمِن أجْلِ ذلك كان عبدُ اللهِ لا يُقِرُّ أنْ يُبكَى عِندَه على هالكٍ مِن ولدِه ولا غيرِهم.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج المسند لشعيب
الصفحة أو الرقم: 294 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط الشيخين
التخريج : أخرجه البخاري معلقاً بعد حديث ( 1292 )، وأخرجه موصولاً مسلم ( 927 ) بنحوه، والترمذي ( 1002 )، والنسائي ( 1848 ) باختلاف يسير
المَوتُ قَدَرُ
اللهِ الذي سيُصيبُ جَميعَ خَلْقِه، فالمُحسِنُ سيَرَى عاقِبةَ إحسانِهِ خَيرًا، والمُسيءُ لا يَلومَنَّ إلَّا نَفْسَه، وعلى أهلِ الميِّتِ أنْ يَصبِروا ويَستَرجِعوا، ولا يَجزَعوا.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عَبدُ
اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ
اللهُ عنهما، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ
اللهُ عنه لَمَّا طُعِنَ الطَّعنةَ التي ماتَ بها، وكان ذلك في أربَعٍ بَقِينَ مِن ذِي الحِجَّةِ سَنةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ مِنَ الهِجرةِ، وقد طَعَنَه أبو لُؤلُؤةَ المَجوسيُّ غُلامُ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ في صَلاةِ الفَجرِ، فلَمَّا نُقِلَ إلى بَيتِه أرادَ أنْ يَستَوثِقَ مِن حالِ جُرحِه، فأمَرَ مَن عِندَه أنْ يُرسِلوا إلى الطَّبيبِ لِيأتيَ ويَنظُرَ في جُرحِه، فأخبَرَ عَبدُ
اللهِ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّهم أرسَلوا إلى طَبيبٍ مِنَ العَرَبِ، ولَعَلَّه يَقصِدُ أنَّه مِنَ المُهاجِرينَ؛ لأنَّه أخبَر أنَّه دعا بعدَ ذلك طبيبًا من الأنصارِ، فسَقى الطَّبيبُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنه شَرابًا لِيَعلَمَ أثَرَ الجُرحِ، وهل هو نافِذٌ إلى البَطنِ أم أنَّ الطَّعنةَ لم تَنفُذْ فيها؟ فسَقاهُ الطَّبيبُ نَبيذًا، وهو نَقيعُ التَّمرِ والزَّبيبِ قَبلَ أنْ يَشتَدَّ ويُصبِحُ مُسكِرًا، وإنَّما سَقاه الطَّبيبُ هذا الشَّرابَ؛ لِيَتَبيَّنَ به أثَرُ الطَّعنةِ ومَدى نُفوذِها عِندَ خُروجِ الشَّرابِ مِنَ الطَّعنةِ، ولكِنَّه -لِاختِلاطِه بلَونِ الدَّمِ- لم يَعرِفْه، وكانتِ الطَّعنةُ تَحتَ السُّرَّةِ، فدَعا عَبدُ
اللهِ رَضِيَ
اللهُ عنه طَبيبًا آخَرَ مِنَ الأنصارِ، مِن بَني مُعاويةَ، وهم بَيتٌ مِن بُيوتِ الأنصارِ، فسَقاه الطَّبيبُ الأنصاريُّ لَبَنًا، "فخَرَجَ اللَّبَنُ مِنَ الطَّعنةِ صَلْدًا أبيَضَ"، أيْ: فلَمَّا شَرِبَ اللَّبَنَ ظَهَرَ بَياضُهُ نَقيًّا، كما شَرِبَه عِندَ خُروجِه، مِن مَوضِعِ الجُرحِ، فلَمَّا رأى الطَّبيبُ أثَرَ اللَّبَنِ قال لِعُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنه: "يا أميرَ المُؤمِنينَ، اعهَدْ"، أيْ: أوْصِ بالأمْرِ مِن بَعدِكَ، ومَن يُوَلَّى الخِلافةَ وأمْرَ المُسلِمينَ؛ إشارةً منه إلى عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّ الجُرحَ نافِذٌ،
وفيه مَوتُه، فعَهِدَ عُمَرُ رَضِيَ
اللهُ عنه أنَّ الأمْرَ مِن بَعدِه يَكونُ بيْن سِتَّةٍ مِنَ الصَّحابةِ، يَختارونَ منهمُ الخَليفةَ، وهم: عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، وعلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وطَلحةُ بنُ عُبَيدِ
اللهِ، واستَقَرَّ الأمْرُ بيْنهم على اختيارِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، رَضِيَ
اللهُ عنهم جَميعًا.فأثْنى عُمَرُ رَضِيَ
اللهُ عنه على الطَّبيبِ في صِدقِه معه، وقال له: "ولو قُلتَ غَيرَ ذلك كَذَّبتُكَ"، أيْ: خَطَّأْتُكَ، والعَرَبُ تَقولُ لِمَن أخطَأَ: كَذَبتَ، وإنَّما قال له عُمَرُ رَضِيَ
اللهُ عنه ذلك لِاستِشعارِه أثَرَ الطَّعنةِ، فلَمَّا عَلِمَ القَومُ أنَّ مَوتَه مُحَقَّقٌ رَضِيَ
اللهُ عنه جَعَلوا يَبكونَه، فنَهاهُم عنِ البُكاءِ، وأمَرَ مَنِ استَمَرَّ في بُكائِه أنْ يَخرُجَ مِن عِندِه، ثم أخبَرَهم بحَديثِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "يُعَذَّبُ المَيِّتُ ببُكاءِ أهلِه عليه"، أيْ: إنَّ بُكاءَ الأهلِ على مَيِّتِهم يَزيدُه عَذابًا، ومع أنَّ عُمَرَ لم يَمُتْ بَعدُ عِندَ هذا الكَلامِ، ولكِنَّه خافَ أنْ يُفضيَ بُكاؤُهم قَبلَ مَوتِه إلى البُكاءِ عليه بَعدَ المَوتِ.ثم أخبَرَ سالِمُ بنُ عَبدِ
اللهِ أنَّه مِن أجْلِ ذلك كان عَبدُ
اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللهُ عنهما لا يَقبَلُ ولا يُوافِقُ على البُكاءِ عِندَه على مَيِّتٍ، سواءٌ أكانَ مِن وَلَدِه أم مِن غَيرِهمُ؛ امتِثالًا لِحَديثِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وقدِ استَدرَكتْ عائِشةُ رَضِيَ
اللهُ عنها على هذا الحَديثِ، ففي الصَّحيحِ أنَّها قالت: "رَحِمَ
اللهُ عُمَرَ، و
اللهِ ما حَدَّثَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ
اللهَ لَيُعَذِّبُ المُؤمِنَ ببُكاءِ أهلِه عليه"؛ وذلك لِأنَّ الكافِرينَ كانوا يُوصونَ بالنِّياحةِ، بخِلافِ المُؤمِنينَ، ولكِنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «
إنَّ اللهَ لَيَزيدُ الكافِرَ عَذابًا ببُكاءِ أهلِه عليه»، وقالت: حَسبُكمُ
القُرآنُ:
{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [
الأنعام: 164 ]"، فلا تُؤاخَذُ نَفْسٌ بذَنْبِ غَيرِها.
وقد قيلَ: إنَّما يُعَذَّبُ المَيِّتُ ببُكاءِ الحَيِّ إذا أوْصى المَيِّتُ بذلك، أو كان مِن عادَتِه ذلك.
وقيلَ: إنَّ هذه الأحاديثَ ليس فيها إشكالٌ، وليس في أحَدِها مُخالَفةٌ لِظاهِرِ
القُرآنِ، ولا لِقاعِدةٍ مِن قَواعِدِ الشَّرعِ، ولا تَتضَمَّنُ عُقوبةَ الإنسانِ بذَنْبِ غَيرِه؛ بلِ المَقصودُ أنَّ بُكاءَ أهلِه عليه يُؤلِمُه، والعَذابُ هو الألَمُ الذي يَحصُلُ له، وهو أعَمُّ مِنَ العِقابِ، والأعَمُّ لا يَستَلزِمُ الأخَصَّ، وهذا العَذابُ يَحصُلُ لِلمُؤمِنِ ولِلكافِرِ، ولكِنْ يَحصُلُ لِلمَيِّتِ الألَمُ في قَبرِه بالبُكاءِ المُحَرَّمِ؛ مِن لَطمِ الخُدودِ، وتَمزيقِ الثِّيابِ، وخَمْشِ الوُجوهِ، وتَسويدِها، وقَطعِ الشَّعرِ ونَتْفِه، والدُّعاءِ بدَعوى الجاهليَّةِ.
وقال بَعضُهم: إنَّ تَعذيبَه يَكونُ بتَوبيخِ المَلائِكةِ له لِمَا يَندُبُه به أهلُه.
وفي الحَديثِ: مَشروعيَّةُ التَّداوي والتَّطَبُّبِ، والأخذِ بالأسبابِ في العِلاجِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم