إنَّ أغبطَ أوليائي عندي لمؤمنٌ خفيفُ الحاذِ ذو حظٍّ من الصلاة أحسنَ عبادةَ ربه وأطاعه في السرِّ وكان غامضًا في الناسِ لا يشار إليه بالأصابعِ وكان رزقُه كفافًا فصبر على ذلك ثم نقر بإصبعَيه فقال عُجِّلت منيتُه قلَّتْ بواكيهِ قلَّ تراثُه .
الراوي : أبو أمامة الباهلي | المحدث : الترمذي
| المصدر : سنن الترمذي
الصفحة أو الرقم: 2347 | خلاصة حكم المحدث : حسن
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن صِفاتِ المؤمِنِ الحَقِّ الَّذي يُحِبُّه
اللهُ ورَسولُه، فيُخبِرُ أنَّ مِن أحقِّ أحِبَّائِه وأنْصارِه أنْ يُغبَطَ -وهو الَّذي يَتمَنَّى النَّاسُ مِثلَ حالِه- مُؤمِنًا، مِن صِفاتِه أنَّه «
خَفيفُ الحاذِ»؛
أي: خَفيفُ الحالِ، قَليلُ المالِ والعيالِ، فلا يَشغَلُه شَيءٌ عنِ العِبادةِ، وقلَّةُ المالِ هو ممَّا يُغبَطُ به صاحِبُه في الدُّنْيا إذا صبَرَ على ذلك أو رَضِيَ به، وأمَّا قلَّةُ العيالِ فهو ممَّا يُغبَطُ به المؤمِنُ أحْيانًا، لا سيَّما معَ فَقرِه وحاجَتِه، ولهذا يُقالُ: «
قلَّةُ العيالِ أحدُ اليَسارَينِ»؛ فإنَّ كَثرةَ العيالِ قدْتَحمِلُ المؤمِنَ على طلَبِ الرِّزقِ لهم مِن الوُجوهِ المَكْروهةِ.
ومِن صِفاتِ هذا المؤمِنِ أنَّه يُحافِظُ على الصَّلاةِ، وله حظٌّ كَبيرٌ منها، فهو مُؤمِنٌ خَفيٌّ تَقيٌّ له نَصيبٌ مِنَ التَّنفُّلِ بالصَّلاةِ سِرًّا يكونُ هو لذَّتَه وقوَّتَه وغِذاءَه، فهو يُحسِنُ عِبادةَ ربِّه، فيُطيعُه في السِّرِّ، ولا يُرائي بعِبادتِه أحدًا؛ ولأنَّ عِبادةَ السِّرِّ تكونُ أكثَرَ خُشوعًا، وأدَلَّ على حُسنِ تَعبُّدِه للهِ، وهذا مِن إحْسانِ العِبادةِ وإتْقانِها، وإكْمالِها، والإتْيان بها على أكمَلِ الوُجوهِ، والحاصِلُ مِن ذلك أنَّ المؤمِنَ يَعبُدُ ربَّه كأنَّه يَراه.
وقولُه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
أغْبَطُ أوْليائي عِنْدي» بإضافَتِه إلى نَفْسِه، يُشيرُ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أنَّ مَن كان كذلك، فهو من خاصَّةِ أوْليائِه، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يُسَرُّ بمَن كان مِن أُمَّتِه على هذه الصِّفةِ، ويَفرَحُ به، ويُهنِّئُه بما حصَل له مِن السَّعادةِ، وكذلك جعَلَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أوْليائِه، وأوْلياءُ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أوْلياءُ
اللهِ؛ كما قال تعالَى:
{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [
المائدة: 56 ]، فمَن كان أعظَمَ إيمانًا وتَقْوى؛ فهو أعظَمُ وَلايةً للهِ ورَسولِه.
ومِن صِفاتِ هذا المؤمِنِ أيضًا أنَّه خاملُ الذِّكرِ لا يَعرِفُه النَّاسُ، ولا يُشارُ إليه بالأصابِعِ؛ فإنَّ الصَّالِحَ إذا عرَفَه النَّاسُ يَفتِنونَه، بأنْ يَجتَمِعوا عليه ويَحمَدونَه، فرُبَّما يَظهَرُ في نَفْسِه غُرورٌ ورِياءٌ، وكان مُؤمِنًا فَقيرًا يَكتَفي منَ الرِّزقِ بالقَليلِ الَّذي يُقيمُ حَياتَه، ولكنَّه يَصبِرُ على كلِّ هذا، ويَرْضى بما قسَمَه
اللهُ له، ويَستَغْني به عنِ النَّاسِ.
«
ثمَّ نَقَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإصْبَعَيْه»، فأصدَرَ صَوتًا بضَربِ إحْدى أُنمُلَتَيْه على الأُخْرى، أو على الأرضِ، قيلَ: كأنَّه يُشيرُ بذلك إلى سُرعةِ ما يَحدُثُ لهذا المؤمِنِ؛ فإنَّه لا يَلبَثُ إلَّا قَليلًا حتَّى يَقبِضَه
اللهُ، كأنَّه يُقلِّلُ مدَّةَ عُمُرِه، وقيلَ: هذا الضَّربُ بالأصابِعِ كِنايةٌ عن تَعجُّبِه مِن حالِ هذا المؤمِنِ؛ لما رَأى مِن حُسنِ حالِه،
يَعني: مَن كانت هذه صِفتَه، بمَنزِلةِ أنْ يُتعَجَّبَ مِن حُسنِ حالِه، وقلَّةِ حُزنِه، وقلَّةِ مُبالاتِه بالدُّنْيا، وكَثرةِ طَرَبِه وفَرَحِه.
ثمَّ قال: «
عُجِّلَت مَنيَّتُه»، يَحتمِلُ أنْ
يَعنيَ بذلك أنَّه مات وهو صَغيرُ السِّنِّ، أو أنَّ قَبْضَ رُوحِه كان سَهلًا؛ لأنَّ بَعضَ النَّاسِ يكونُ قَبْضُ رُوحِه شَديدًا؛ لالْتِفاتِه إلى ما ترَكَ في الدُّنْيا مِنَ المالِ، والعيالِ، والأحْبابِ، وطِيبِ العَيشِ، والمَساكِنِ الرَّفيعةِ.
وقولُه: «
قلَّتْ بَواكيهِ»؛
أي: لم يكُنْ له مَن يَبْكي عليه مِن النِّساءِ؛ لأنَّه كان قَليلَ الأهْلِ والعيالِ، أو ليْس له مَن يَهتَمُّ به أو يَبْكيه؛ لفَقْرِه، وعَدمِ شُهرتِه عندَ النَّاسِ؛ فقدْ قلَّ ما يُوَرِّثُه لمَن بعْدَه، فلا يَهتَمُّ بمِثلِ هذا إلَّا أقلُّ القَليلِ.
وقد قيلَ: إنَّ هذا الكَلامَ يَحتَمِلُ أنْ يكونَ إخْبارًا عن حالِ هذا المؤمِنِ، ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ دُعاءً له مِن النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فاقْتَضى هذا الكَلامُ أنَّ المؤمِنَ إذا كان على حالةٍ حَسَنةٍ من حُسنِ عِبادةٍ، وخُمولٍ، وقَناعةٍ باليُسيرِ؛ فإنَّه يُغبَطُ بتَعْجيلِ مَوتِه على هذه الحالةِ؛ خَشْيةَ أنْ يُفتَنَ في دِينِه، ويَتغيَّرَ عمَّا عليه.
وفي «
المُسنَدِ» مَرْفوعًا بسنَدٍ صَحيحٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِي
اللهُ عنه: «
لا يَتمنَّيَنَّ أحدُكمُ الموتَ، إمَّا مُحسِنٌ، فلعلَّه يَزدادُ خَيرًا، وإمَّا مُسيءٌ لعلَّه يَستَعتِبُ»، فمَن كان على حالةٍ حَسَنةٍ في دِينِه؛ فإنَّه يُغبَطُ بمَوتِه قبْلَ تَغيُّرِ حالِه.
وهذا مِن التَّربيةِ للنَّاسِ أنْ يَتخَفَّفوا مِن حُبِّ الدُّنْيا، وما يَشغَلُهم عن طاعةِ
اللهِ وعِبادتِه؛ لأنَّ الفَوزَ بحُبِّ
اللهِ وحُسنِ جَزائِه في الآخِرةِ هو الهَدفُ والغايةُ، ولا يُنالُ ذلك إلَّا بالإقْبالِ على أمرِ الآخِرةِ منَ الصَّلاةِ، والذِّكْرِ، والعِباداتِ كلِّها، معَ إخْلاصِها للهِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم