كنَّا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فقال: إنَّكم إنْ لا تُدرِكوا الماءَ غَدًا تَعطَشوا، وانطلَقَ سَرَعانُ النَّاسِ يُريدونَ الماءَ، ولَزِمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمالتْ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ راحلتُه، فنَعَسَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فدَعَمتُه فادَّعَمَ، ثُمَّ مال حتى كاد أنْ يَنجفِلَ عن راحلتِه، فدَعَمتُه فانتَبَه، فقال: مَن الرُّجُلُ؟ قُلتُ: أبو قَتادةَ، قال: مُذ كم كان مَسيرُكَ؟ قُلتُ: منذ اللَّيلةِ، قال: حَفِظَكَ اللهُ كما حَفِظْتَ رسولَه، ثُمَّ قال: لو عَرَّسْنا، فمال إلى شَجرةٍ فنَزَلَ فقال: انظُرْ هل تَرى أحدًا؟ قُلتُ: هذا راكبٌ، هذان راكبانِ، حتى بَلَغَ سَبعةً، فقال: احفَظوا علينا صَلاتَنا، فنِمْنا فما أيقَظَنا إلَّا حَرُّ الشَّمسِ، فانتَبَهْنا، فرَكِبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فسار وسِرْنا هُنَيَّةً، ثُمَّ نَزَلَ فقال: أمعكم ماءٌ؟ قال: قُلتُ: نعمْ، معي مِيضَأةٌ فيها شيءٌ مِن ماءٍ، قال: ائْتِ بها، فأتَيتُه بها، فقال: مَسُّوا منها مَسُّوا منها، فتَوضَّأَ القَومُ وبَقيَتْ جُرعةٌ، فقال: ازدهِرْ بها يا أبا قَتادةَ؛ فإنَّه سيَكونُ لها نَبأٌ، ثُمَّ أذَّنَ بِلالٌ، وصَلَّوا الرَّكعتَينِ قبلَ الفَجرِ، ثُمَّ صَلَّوا الفَجرَ، ثُمَّ رَكِبَ ورَكِبْنا، فقال بعضُهم لبعضٍ: فَرَّطْنا في صَلاتِنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما تَقولونَ؟ إنْ كان أمْرُ دُنْياكم فشَأنَكم، وإنْ كان أمْرُ دِينِكم فإليَّ، قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، فَرَّطْنا في صَلاتِنا، فقال: لا تَفريطَ في النَّومِ، إنَّما التَّفريطُ في اليَقَظةِ، فإذا كان ذلك فصَلُّوها، ومِن الغَدِ وَقتَها، ثُمَّ قال: ظُنُّوا بالقَومِ، قالوا: إنَّكَ قُلتَ بالأمسِ: إنْ لا تُدرِكوا الماءَ غَدًا تَعطَشوا، فالنَّاسُ بالماءِ، فقال: أصبَحَ النَّاسُ، وقد فَقَدوا نَبيَّهم، فقال بعضُهم: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالماءِ، وفي القَومِ أبو بَكرٍ، وعُمَرُ فقالا: أيُّها النَّاسُ، إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَكُنْ ليَسبِقَكم إلى الماءِ ويُخلِّفَكم، وإنْ يُطِعِ النَّاسُ أبا بَكرٍ، وعُمَرَ يَرشُدوا، قالها ثَلاثًا، فلمَّا اشتدَّتِ الظَّهيرةُ رُفِعَ لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، هَلَكْنا عَطَشًا، تَقطَّعَتِ الأعناقُ، فقال: لا هُلْكَ عليكم، ثُمَّ قال: يا أبا قَتادةَ، ائْتِ بالمِيضَأةِ، فأتَيتُه بها، فقال: احلُلْ لي غُمَري -يَعني قَدَحَه-، فحَلَلتُه فأتَيتُه به، فجَعَلَ يَصُبُّ فيه، ويَسقي النَّاسَ، فازدحَمَ النَّاسُ عليه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النَّاسُ، أحسِنوا المَلَأَ؛ فكلُّكم سيَصدُرُ عن رِيٍّ، فشَرِبَ القَومُ حتى لم يَبقَ غيري وغيرُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فصَبَّ لي فقال: اشرَبْ يا أبا قَتادةَ، قال: قُلتُ: اشرَبْ أنت يا رسولَ اللهِ، قال: إنَّ ساقيَ القَومِ آخِرُهم، فشَرِبتُ وشَرِبَ بَعدي، وبَقيَ في المِيضَأةِ نحوٌ ممَّا كان فيها، وهم يومئذ ثَلاثُ مِئةٍ، قال عبدُ اللهِ: فسَمِعَني عِمرانُ بنُ حُصَينٍ وأنا أُحدِّثُ هذا الحديثَ في المسجدِ الجامعِ، فقال: مَن الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: أنا عبدُ اللهِ بنُ رَباحٍ الأنصاريُّ، قال: القَومُ أعلمُ بحديثِهم، انظُرْ كيف تُحدِّثُ؛ فإنِّي أحدُ السَّبعةِ تلك اللَّيلةَ، فلمَّا فَرَغتُ قال: ما كنتُ أحسَبُ أنَّ أحدًا يَحفَظُ هذا الحديثَ غيري.
الراوي : أبو قتادة الحارث بن ربعي | المحدث : شعيب الأرناؤوط
| المصدر : تخريج المسند لشعيب
الصفحة أو الرقم: 22546 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم
التخريج : أخرجه مسلم ( 681 ) باختلاف يسير
أيَّدَ
اللهُ سُبحانَه وتَعالى نَبيَّه بالمُعجِزاتِ الدَّالَّةِ على صِدقِ نُبوَّتِه؛ تأييدًا له حتى يَزدادَ الذين آمَنوا إيمانًا، كما يُبيِّنُ هذا الحَديثُ، حيث يقولُ أبو قَتادةَ الأنصاريُّ رَضيَ
اللهُ عنه: "كُنَّا مع رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فقالَ: إنَّكم إنْ لا تُدرِكوا الماءَ غَدًا تَعطَشوا" وهذا حَثٌّ لهم على السَّيرِ حتى يُدرِكوا مَنابِعَ الماءِ حتى لا يَعطَشوا، "وانطَلَقَ سَرَعانُ الناسِ يُريدونَ الماءَ" وهمُ الذين يُسرِعونَ في سَيرِهم ولا يَلتَفِتُ أحَدٌ منهم إلى غَيرِه ولا يَعطِفُ عليه، بل يَمشي كُلُّ واحِدٍ على حِدَةٍ مِن غَيرِ أنْ يُراعيَ الصُّحبةَ؛ لِاهتِمامِه بطَلَبِ الماءِ ووُصولِه إليه "ولَزِمتُ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" ظَلِلْتُ بجِوارِه، "فمالَتْ برَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ راحِلَتُه" حادَتْ عنِ الطَّريقِ "فنَعَسَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" نامَ فَوقَ ناقَتِه "فدَعَمتُه فادَّعَمَ" فصِرتُ له كالدِّعامةِ تَحتَه أسنِدُه "ثم مالَ حتى كادَ أن يَنجَفِلَ عن راحِلَتِه"
أي: مالَ وكادَ أنْ يَقَعَ مِن فَوقِها "فدَعَمتُه" فسَنَدتُه حتى لا يَقَعَ "فانتَبَه" استَيقَظَ مِن نَومِه "فقال: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلتُ: أبو قَتادةَ.
قال: مُذْ كم كان مَسيرُكَ؟" كمِ المُدَّةُ التي تَسيرُها معي وتُصاحِبُني فيها، "قُلتُ: مُنذُ اللَّيلةِ" مِن أوَّلِها "قال: حَفِظَكَ
اللهُ كما حَفِظتَ رَسولَه" فدَعا النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ له؛ جَزاءً لِاهتِمامِه به "ثم قال: لو عَرَّسْنا" فنَزَلْنا في جانِبٍ مِنَ الطَّريقِ لِلرَّاحةِ "فمالَ إلى شَجَرةٍ فنَزَلَ" في ظِلِّها؛ لِيَستَريحَ "فقال: انظُرْ هل تَرى أحَدًا؟" وقد سألَه لِأنَّه لم يَكُنْ معه أحَدٌ غَيرُ أبي قَتادةَ، ولِأنَّ باقي الصَّحابةِ سَبَقوه؛ لِيَجِدوا الماءَ، وكان مِن عادةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسيرَ خَلفَ الجَيشِ؛ لِيَرفُقَ بأصحابِه، ويَحمِلَ الضَّعيفَ، ويَحُثَّ المُتأخِّرَ، "قُلتُ: هذا راكِبٌ، هذانِ راكِبانِ، حتى بَلَغَ سَبعةً" انضَمَّ إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في راحَتِه سَبعةٌ آخرونَ، "فقال: احفَظوا علينا صَلاتَنا" احفَظوا وَقتَ الصَّلاةِ؛ حتى لا تَفوتَنا ونحن نيامٌ، وهي صَلاةُ الصُّبحِ، ولكِنْ كأنَّهم غَلَبَ عليهمُ النَّومُ فرَقَدوا، قال أبو قَتادةَ رَضيَ
اللهُ عنه: "فنِمْنا، فما أيقَظَنا إلَّا حَرُّ الشَّمسِ، فانتَبَهْنا" كِنايةً عن طُلوعِها وخُروجِ وَقتِ صَلاةِ الفَجرِ، "رَكِبَ رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" راحِلَتَه "فسارَ وسِرْنا هُنَيَّةً" بمَعنى أنَّهم لَمَّا استَيقَظوا ساروا في طَريقِهم قَليلًا مِنَ الوَقتِ ولم يُصَلُّوها أوَّلَ ما استَيقَظوا، "ثم نَزَلَ" النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن راحِلَتِه "فقال: أمعكم ماءٌ؟" لِلوُضوءِ "قُلتُ: نَعَمْ، معي ميضأةٌ" وهي إناءٌ مِن جِلدٍ "فيها شَيءٌ مِن ماءٍ" وهو قَليلٌ مِنَ الماءِ؛ إذْ إنَّهم كانوا قد ساروا في الصَّحَراءِ ونَفِدَ ماؤُهم، "قال: ائْتِ بها، فأتَيتُه بها، فقال: مُسُّوا منها مُسُّوا منها"
أي: خُذوا منها قَليلًا مِنَ الماءِ، ومُسُّوا به البَشَرةَ وأعضاءَ الوُضوءِ، ولا تَغسِلوها غَسلًا، كما هو الحالُ عِندَ وَفرةِ الماءِ، "فتَوضَّأ القَومُ وبَقيَتْ جَرعةٌ" شَربةٌ قَليلةٌ مِنَ الماءِ "فقال: ازدَهِرْ بها" احتَفِظْ بها "يا أبا قَتادةَ؛ فإنَّه سَيكونُ لها نَبَأٌ"
أي: خَبَرٌ عَظيمٌ، أو مُعجِزةٌ، وذلك مِن دَلائِلِ صِدقِ نُبوَّتِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث عَلِمَ ما سَيكونُ مع هذه الشَّربةِ القَليلةِ مِنَ الماءِ، "ثم أذَّنَ بِلالٌ" ورَفَعَ الأذانَ بالصَّلاةِ، "وصَلَّوُا الرَّكعتَيْنِ قَبلَ الفَجرِ، ثم صَلَّوُا الفَجرَ" فقَضَوْا سُنَّةَ الفَجرِ وفَريضَتَه، "ثم رَكِبَ" النبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ "ورَكِبْنا" ورَكِبوا جَميعًا دَوابَّهم بَعدَ أن صَلَّوْا "فقال بَعضُهم لِبَعضٍ: فَرَّطْنا في صَلاتِنا"؛ قالوا ذلك نادمينَ على خُروجِ وَقتِ الصَّلاةِ، عادِّينَ أنَّ ذلك وَقَعَ بتَقصيرٍ وتَفريطٍ منهم، "فقال رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: ما تَقولونَ؟ إنْ كانَ أمْرَ دُنياكم فشأنُكم"؛ لِأنَّكم أعلَمُ بأُمورِ دُنياكم "وإنْ كانَ أمْرَ دِينِكم فإلَيَّ"؛ لِأنَّه هو المُخَوَّلُ بأمْرِ الدِّينِ وأحكامِه "قُلنا: يا رَسولَ
اللهِ، فَرَّطْنا في صَلاتِنا.
فقال: لا تَفريطَ في النَّومِ، إنَّما التَّفريطُ في اليَقَظةِ"،
أي: ليس في النَّومِ تَقصيرٌ أو تَضييعٌ لِلفَرضِ، وإنَّما التَّقصيرُ والتَّضييعُ يَكونُ إذا تَرَكَ اليَقظانُ الصَّلاةَ؛ لِأنَّ القَلَمَ رُفِعَ عنِ النائِمِ، "فإذا كان ذلك فصَلُّوها" فمَن فَعَلَ ذلك بأنْ غَفَلَ عنِ الصَّلاةِ في أوَّلِ وَقتِها فليُصَلِّها حينَ يَنتَبِهُ لها ويَذكُرُها، "ومِنَ الغَدِ وَقتَها" فليُصَلِّها في أوَّلِ وَقتِها.
"ثم قال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: ظُنُّوا بالقَومِ" بمَعنى: خَمِّنوا ماذا يَقولُ فينا القَومُ الذين سَبَقونا؟ "قالوا: إنَّكَ قُلتَ بالأمسِ: إنْ لا تُدرِكوا الماءَ غَدًا تَعطَشوا؛ فالناسُ بالماءِ" وهذا تَخمينُ مَن كانوا مع النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فقالوا: إنَّ الذين سَبَقونا لَمَّا سَمِعوا قَولَكَ يا رَسولَ
اللهِ بالأمسِ أسرَعوا في السَّيرِ يَبحَثونَ عنِ الماءِ لِيَصِلُوا إليه أوَّلًا ونحن نَظُنُّ أنَّهمُ الآنَ على الماءِ، "فقال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ الذين سَبَقوهم: "أصبَحَ الناسُ، وقد فَقَدوا نَبيَّهم" يعني أنَّ الذين سَبَقوا النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَصِلوا إلى الماءِ، ولكِنَّهم أصبَحوا وقد فَقَدوا نَبيَّهم، ولم يَكُنْ معهم؛ لِأنَّه تأخَّرَ عنهم، "فقال بَعضُهم"
أي: قال السَّابِقونَ بَعضُهم لِبَعضٍ، ظَنًّا وتَخمينًا أيضًا: "إنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالماءِ"،
أي: وَصَلَ إلى الماءِ، ثم قال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "وفي القَومِ" الذين سَبَقوا "أبو بَكرٍ، وعُمَرُ، فقالَا: أيُّها الناسُ، إنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَكُنْ لِيَسبِقَكم إلى الماءِ ويُخَلِّفَكم" ويَترُكَكم خَلفَه، ثم قال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "وإنْ يُطِعِ الناسُ أبا بَكرٍ وعُمَرَ يَرشُدوا" فيَفهَموا الحَقَّ والصَّوابَ ويَهتدُوا إليه، "قالها ثَلاثًا! فلَمَّا اشتَدَّتِ الظَّهيرةُ" وارتَفَعتِ الشَّمسُ واشتَدَّتْ حَرارَتُها، "رَفَعَ لهم رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ"،
أي: ظَهَرَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قادِمًا على الذين سَبَقوه، "فقالوا: يا رَسولَ
اللهِ، هَلَكْنا عَطَشًا" مِن شِدَّةِ حَرارةِ الهَواءِ وغِيابِ الماءِ، "تَقطَّعتِ الأعناقُ" فجَفَّتْ مِن شِدَّةِ العَطَشِ حتى كادَتْ أن تَقَطَّعَ ونَموتَ عَطَشًا "فقال: لا هُلْكَ عليكم"،
أي: لا هَلاكَ عليكم، وهذا مِن حُسنِ خُلقِه وجميلِ بِشرِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، "ثم قال: يا أبا قَتادةَ، ائْتِ بالميضأةِ" وهي بَقيَّةُ الماءِ الذي أمَرَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحتَفِظَ به، "فأتَيتُه بها، فقال: احلِلْ لي غُمَري -
يَعني قَدَحَه-" وهو إناؤُه الذي يَشرَبُ فيه، "فحَلَلتُه فأتَيتُه به، فجَعَلَ يَصُبُّ فيه" مِن ماءِ الميضأةِ "ويَسقي الناسَ، فازدَحَمَ الناسُ عليه" لِيَشرَبوا "فقال رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أيُّها الناسُ، أحسِنوا المَلَأَ"،
أي: أحسِنوا الخُلُقَ والعِشرةَ، وأحسِنوا عَوْنَكم لبعضٍ؛ "فكُلُّكم سيَصدُرُ عن رِيٍّ"،
أي: فجَميعُكم ستُروَوْنَ مِن هذا الماءِ، فلا تَزدَحِموا، ولا تُسيئوا أخلاقَكم بالتَّدافُعِ، ففَعَلوا، فجَعَلَ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُبُّ في قَدَحِه وإنائِه، "فشَرِبَ القَومُ حتى لم يَبقَ غَيري وغَيرُ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ" يَقصِدُ أبو قَتادةَ نَفْسَه والنَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فقد بَقيا ولم يَشرَبا حتى شَرِبَ الناسُ جَميعًا، " فصَبَّ لي، فقال: اشرَبْ يا أبا قَتادةَ.
قال: قُلتُ: اشرَبْ أنتَ يا رَسولَ
اللهِ" وهذا مِن أدَبِ أبي قَتادةَ، فقال له النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مُعَلِّمًا له: "إنَّ ساقيَ القَومِ آخِرُهم"، وهذا مِن حُسنِ أدَبِ الساقي أنْ يَنتَظِرَ حتى يَشرَبَ جَميعُ مَن معه ثم يَشرَبَ هو آخِرَهم؛ ولذلك استَجابَ أبو قَتادةَ لِأمْرِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم قال أبو قَتادةَ رَضيَ
اللهُ عنه: "فشَربتُ وشَرِبَ بَعدي" النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذا مِن مَحاسِنِ خُلقِه وعَظيمِ تَواضُعِه، "وبَقيَ في الميضأةِ نَحوٌ مِمَّا كان فيها" لم يَنقُصْ مِن مائِها شَيءٌ، وهذا مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، "وهم يَومَئِذٍ ثَلاثُ مِئةٍ" وقد شَرِبوا جَميعًا مِن هذا الماءِ.
قال عَبدُ
اللهِ بنُ رَباحٍ الأنصاريُّ -مِن رُواةِ هذا الحَديثِ-: "فسَمِعَني عِمرانُ بنُ حُصَينٍ وأنا أُحدِّثُ هذا الحَديثَ في المَسجِدِ الجامِعِ" بالبَصرةِ؛ "فقال: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلتُ: أنا عَبدُ
اللهِ بنُ رَباحٍ الأنصاريُّ، قال: القَومُ أعلَمُ بحَديثِهم" يُشيرُ بالقَومِ إلى الأنصارِ؛ لِأنَّ الواقِعةَ حَدَثتْ مع الصَّحابةِ
وفيهم مِنَ الأنصارِ، فهم أعلَمُ بما حَدَثَ معهم، ثم قال عِمرانُ بنُ حُصَينٍ رَضيَ
اللهُ عنه: "انظُرْ كيف تُحدِّثُ؛ فإنِّي أحَدُ السَّبعةِ تلك اللَّيلةَ" فكُنتُ مِنَ السَّبَعةِ الذين بَقُوا مع النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في هذه اللَّيلةِ، وظاهِرُ ذلك أنَّه وَهمَ في بَيانِ بَعضِ التَّفاصيلِ، فأجابَه: أنتَ أعلَمُ بالحَديثِ ما دُمتَ كُنتَ مِنَ الرَّكبِ وحَضَرتَ الواقِعةَ، قال عَبدُ
اللهِ بنُ رَباحٍ الأنصاريُّ: "فلَمَّا فَرَغتُ" مِن رِوايةِ الحَديثِ "قال عِمرانُ بنُ حُصَينٍ: "ما كُنتُ أحسَبُ أنَّ أحَدًا يَحفَظُ هذا الحَديثَ غَيري" وقد كان عِمرانُ بنُ حُصَينٍ مِن آخِرِ الصَّحابةِ وَفاةً، وقد حَضَرَ هذه الحادِثةَ، فظَنَّ أنَّه لا يوجَدُ أحَدٌ يَعلَمُ بهذه المُعجِزةِ غَيرُه؛ لِعَدَمِ وُجودِ صَحابةٍ غَيرِه، ولكِنْ لِأنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم كانوا حَريصينَ على تَبليغِ كُلِّ وَقائِعِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فقد رَوَوْها لِأبنائِهم، ولِمَن بَعدَهم، ورَواها مَن بَعدَهم لِغَيرِهم، وهكذا تَصِلُ الرِّوايةُ إلى كُلِّ الأجيالِ، ولذلك رَضيَ عِمرانُ بنُ حُصَينٍ عن رِوايةِ عَبدِ
اللهِ بنِ رَباحٍ؛ لِأنَّه يَحفَظُها كحِفظِه.
وفي الحَديثِ: بَيانُ بَعضِ آدابِ الشُّربِ، وأنَّ ساقيَ القَومِ يَكونُ آخِرَهم شُربًا.
وفيه: أنَّه ليس في النَّومِ تَفريطٌ، وإنَّما عليه قَضاءُ الصَّلاةِ التي فاتَتْه.
وفيه: بيانُ مُعجِزةٍ من مُعجزاتِ النبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مَنقَبةٌ ظاهِرةٌ لِأبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضيَ
اللهُ عنهما، وحثٌ على الاهتداءِ بهَديهِما، والاسترشادِ برَأيهِما.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم