ما تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ قالَ: قُلْنا: الَّذي لا يُولَدُ له، قالَ: ليسَ ذاكَ بالرَّقُوبِ، ولَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذي لَمْ يُقَدِّمْ مِن ولَدِهِ شيئًا، قالَ: فَما تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قالَ قُلْنا: الَّذي لا يَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قالَ: ليْسَ بذلكَ، ولَكِنَّهُ الَّذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ.
الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : مسلم
| المصدر : صحيح مسلم
الصفحة أو الرقم: 2608 | خلاصة حكم المحدث : [ صحيح ]
التخريج : من أفراد مسلم على البخاري
كان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا؛ فكان يُعلِّمُ النَّاسَ ويُصوِّبُ لهم المفاهيمَ المنتشِرةَ بيْنهم، ويَربِطُ ذلك بمَفاهيمَ شَرعيَّةٍ تُقرِّبُهم مِن الطَّاعاتِ وحُسنِ الظَّنِّ ب
اللهِ، وتُبعِدُهم عن المعاصي والرَّذائلِ، وتَحُثُّهم على الخيرِ والتَّفاؤلِ بما لهم في الآخرةِ مِن الثَّوابِ إذا أحْسَنوا العملَ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عبدُ
اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ
اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ سألَ أَصحابَه رَضيَ
اللهُ عنهم: «
ما تَعدُّون الرَّقوبَ فيكُم؟» فأَجابوا بما يَعرِفونه بيْنهم بأنَّ الإنسانَ الَّذي لا يُولَدُ له، فليْس عِنده أبناءٌ يَعقُبونه، فأجابَهم النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
ولكنَّه الرَّجلُ الَّذي لَم يُقدِّمْ مِن وَلدِه شيئًا»،
أي: لَم يمُتْ لَه وَلدٌ في حَياتِه، فيَحتسِبَه، ويُكتَبَ له ثَوابُ مُصيبَتِه به وثَوابُ صَبرِه عليه، ويَكونَ له فَرَطًا وسَلَفًا، فيَدَّخرَه في الآخرَةِ؛ لأنَّ هذا الَّذي أُصِيبَ بفَقْدِ أولادِه في الدُّنيا يَنجَبِرُ في الآخرةِ بما يُعوَّضُ على ذلكَ مِن الثَّوابِ، وأمَّا مَن لم يَمُتْ له ولدٌ، فيَفقِدُ في الآخرةِ ثَوابَ فقْدِ الولدِ، فهو أحقُّ باسمِ الرَّقوبِ مِن الأوَّلِ.
ثُمَّ سَألَ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
فَما تَعدُّون الصُّرَعَةَ فيكُم؟» فأجابَ الصَّحابةُ رَضيَ
اللهُ عنهم أنَّه الَّذي يَصرَعُ ويَغْلِبُ مَن يُصارِعُه مِنَ النَّاسِ ولا يَصرَعونه إلَّا نادرًا، فَقال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
ليسَ بذلكَ»
أي: لا تظُنُّوا أنَّ الرَّجلَ القويَّ هو ذلك الرَّجلُ الَّذي يَتمتَّعُ بقوَّةٍ بَدنيَّةٍ يَستطيعُ بها أنْ يَصرَعَ الآخَرين، وإنَّما الرَّجلُ القويُّ حقًّا الكاملُ في قوَّتِه، هو الرَّجلُ القويُّ في إرادتِه، الَّذي يَستطيعُ أنْ يَتحكَّمَ في نفْسِه عندَ الغَضبِ، ويَكظِمَ غَيْظَه ويَتحلَّمَ، ويَمنَعَ نفْسَه عن تَنْفيذِ ما تَدْعوه إليه مِن إيذاءِ النَّاسِ بالشَّتْمِ والضَّرْبِ والعُدوانِ، وغيرِ ذلك مِن أنواعِ الإيذاءِ، والغَضَبُ غَريزةٌ رَكَّبَها
اللهُ في طَبيعةِ الإنسانِ، وهو: تَغيُّرٌ يَحصُلُ عِندَ فَوَرانِ دَمِ القَلبِ؛ لِيَحصُلَ عنه التَّشَفِّي في الصَّدرِ، والنَّاسُ مُتَفاوِتونَ في مَبدَئِه وأثَرِه؛ ومِن ثَمَّ كان منه ما هو مَحمودٌ، وما هو مَذمومٌ؛ فمَن كان غَضَبُه في الحَقِّ، ولا يَجُرُّه لِمَا يُفسِدُ عليه دِينَه ودُنياه، فهو غَضَبٌ مَحمودٌ، وهو القويُّ الَّذي مَدَحَه رَسولُ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الحديثِ، ومَن كان غَضوبًا في الباطِلِ، أو لا يَستَطيعُ التَّحكُّمَ في غَضَبِه إذا غَضِبَ، ويَجُرُّه الغَضَبُ لِتَجاوُزِ الحَدِّ، وإفسادِ دِينِه ودُنياهُ؛ فهذا غَضَبٌ مَذمومٌ، وأمَّا مُجرَّدُ الغضبِ الَّذي يَثورُ في قَلبِ الإنسانِ بدُونِ اختيارِه، فلا مُؤاخَذةَ عليه، ولكنَّه إنَّما يُؤاخَذُ بما يَصدُرُ منه في هذه الحالةِ، مِن أفعالٍ غيرِ مَشروعةٍ، فيَحتاجُ إلى رِياضةٍ ومُجاهَدةٍ.
وقد أجابَ الصَّحابةُ رَضيَ
اللهُ عنهم بمُقْتضى اللَّفظةِ
في اللُّغةِ والعُرفِ، فأخبَرَهم النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بمُقْتضاها في الآخرةِ، وليْس مَعنى ذلك نفْيَ المعنى الأوَّلِ للكلمةِ؛ بلْ هو ثابتٌ
في اللُّغةِ، ولكنَّه استخدامٌ جَديدٌ للشَّرعِ لهذه اللَّفظةِ وتَحويلٌ لِمَعناها، مثلُ كَلِمةِ
( الصَّلاةِ ) الَّتي كانت بمَعنى الدُّعاءِ عامَّةً، وكذلك الزَّكاةُ الَّتي كانت بمَعنى الطَّهارةِ فقطْ، فاكتَسَبَتا في الشَّرعِ مَعانيَ أُخرى غيرَ المعنى اللُّغويِّ.
وفي الحديثِ: فَضلُ مَوتِ الأَولادِ والصَّبرِ عَلى ذلكَ.
وفيهِ: فَضلُ مَن يَملِكُ نَفسَه ويُمسِكُها عندَ الغَضبِ عن الانتصارِ والمخاصَمةِ والمنازَعةِ.
وفيهِ: الحثُّ عَلى كَظمِ الغَيظِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم