أتَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أتَيْتُكَ حتَّى حلَفْتُ أكثَرَ مِن عددِ الأناملِ - وطبَّق بَيْنَ كفَّيْهِ إحداهما على الأخرى - ألَّا آتِيَكَ، ولا آتِيَ دِينَكَ؛ فقد أتَيْتُكَ امرأً لا أعقِلُ شيئًا إلَّا ما علَّمني اللهُ، وإنِّي أسأَلُكَ بوجهِ اللهِ العظيمِ: بِمَ بعَثكَ ربُّنا إلينا؟ قال: بدِينِ الإسلامِ، قال: وما دِينُ الإسلامِ؟ قال: أن تقولَ: أسلَمْتُ وجهيَ للهِ وتخلَّيْتُ، وتُقِيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتِيَ الزَّكاةَ، وكلُّ مُسلِمٍ على كلِّ مُسلِمٍ مُحرَّمٌ، أخوَانِ نَصيرانِ، لا يقبَلُ اللهُ ممَّن أشرَك بعدَما أسلَم عمَلًا حتَّى يُفارِقَ المُشرِكينَ، ما لي أُمسِكُ بحُجَزِكم عنِ النَّارِ، ألَا وإنَّ ربِّي داعيَّ، وإنَّه سائلي: هل بلَّغْتَ عبادي؟ فأقولُ: ربِّ، قد بلَّغْتُ، ألَا فلْيُبلِّغْ شاهدُكم غائبَكم، ألَا ثُمَّ إنَّكم تُدْعَوْنَ مُفدَّمةً أفواهُكم بالفِدَامِ، ثمَّ إنَّ أوَّلَ شيءٍ يُنبِئُ عن أحدِكم لَفخِذُه وكفُّه، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، هذا دِينُنا؟ قال: هذا دِينُكَ، وأينما تُحسِنْ يَكْفِكَ!
الراوي : معاوية بن حيدة القشيري | المحدث : ابن عبدالبر
| المصدر : الاستيعاب في معرفة الأصحاب
الصفحة أو الرقم: 1/420 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
التخريج : أخرجه ابن عبدالبر في ( (الاستيعاب )) ( 1/364 )
كان الصَّحابةُ رَضِي
اللهُ عَنهم يَأتون رَسولَ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيَتعلَّموا منه أُمورَ دِينِهم ودُنياهم.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ مُعاويَةُ بنُ حَيْدَةَ القُشيريُّ رَضِي
اللهُ عنه: "أتيْتُ رسولَ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، فقلْتُ: يا رسولَ
اللهِ، ما أتيْتُك حتَّى حلَفْتُ أكثَرَ مِن عدَدِ الأناملِ– وطبَّقَ بيْن كفَّيْه إحداهما على الأُخرى- ألَّا آتِيَك ولا آتِيَ دِينَك"، وهذا كِنايةٌ عن أنَّه كان يَرفُضُ ويَكرَهُ الدُّخولَ في الإسلامِ، ثمَّ هَداهُ
اللهُ عزَّ وجلَّ له، "فقدْ أتَيْتُك امرَأً لا أعقِلُ شيئًا"،
أي: ليس عِندَه مِن عِلْمٍ، "إلَّا ما علَّمَني
اللهُ"،
أي: يَذكُرُ مِن فَضْلِ
اللهِ عليه بما تَعلَّمَه مِن عِلمٍ في أُمورِ دِينِه، "وإنِّي أسألُكَ بوَجهِ
اللهِ العظيمِ: بِمَ بعَثَك ربُّنا إلَينا؟"
أي: ما الدِّينُ الَّذي أرسلَكَ
اللهُ به؟ فقال رسولُ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "بدِينِ الإسلامِ".
قال مُعاوِيةُ: "وما دِينُ الإسلامِ؟"
أي: ما حَقيقتُه؟ وكيف يتَحقَّقُ إسلامُ المرءِ؟ فقال رسولُ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "أنْ تقولَ: أسلَمْتُ وَجْهيَ للهِ"،
أي: جَعَلتُ جميعَ أجْزائي مُنقادةً لحُكْمِه تعالى، واستَسلَمْتُ له، "وتَخلَّيتُ"،
أي: وتَبرَّأْتُ مِن الشِّركِ، "وتُقيمَ الصَّلاةَ"،
أي: على وَقْتِها، مُراعيًا شُروطَها وأركَانَها وسُننَها، "وتُؤتِيَ الزَّكاةَ"،
أي: الزَّكاةَ المَفروضةَ بشُروطِها إذا وجَبَتْ عليك وملَكْتَ نِصابَها، على الوَجهِ الَّذي يُرْضي
اللهَ عزَّ وجَلَّ، "كلُّ مُسلمٍ على مُسلِمٍ مُحرَّمٌ"،
أي: دَمُه ومَالُه وعِرضُه، "أَخَوانِ نَصيرانِ"،
أي: هما أخَوانِ يَتَناصَرانِ ويَتعاضَدانِ، لا أنْ يَسلُبَ أحَدُهما حُقوقَ الآخَرِ، "لا يَقبَلُ
اللهُ ممَّن أشرَكَ بعدَما أسلَمَ عمَلًا حتَّى يُفارِقَ المُشرِكين"،
أي: تُعَلَّقُ أعْمالُه حتَّى يَرجِعَ عن رِدَّتِه، ويَهجُرَ أرضَ المُشرِكين إلى بِلادِ المُسلِمين، وإقامَةُ المُسلِمِ في بِلادِ الكُفرِ لا بُدَّ فيها مِن شَرطَينِ أساسَيْنِ: الأوَّلُ: الأمْنُ على دِينِه، وأنْ يكونَ عِندَه مِن العِلمِ والإيمانِ وقوَّةِ العزيمةِ ما يُطَمْئِنُه على الثَّباتِ على دِينِه والحذَرِ مِن الانحِرافِ والزَّيغِ، والشَّرطُ الثَّاني: أنْ يتمَكَّنَ مِن إظْهارِ دِينِه؛ بحيث يَقومُ بشعائِرِ الإسلامِ بدونِ مُمانِعٍ، فلا يُمنَعُ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ والجُمعةِ والجَماعاتِ، وإلَّا فَقدْ وجَبَ عليه الهِجرةُ إلى أرضِ الإسلامِ.
ثمَّ قال النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما لي أُمسِكُ بحُجُزِكم عن النَّارِ"،
أي: آخِذٌ بحُجُزِكم لِأُخلِّصَكم مِن النَّارِ، والحُجْزةُ: هي مَعقِدُ الإزارِ، فإنَّها تَمنَعُ سُقوطَ الإزارِ، "ألَا وإنَّ ربِّي داعي، وإنَّه سائِلي: هل بلَّغْتَ عِبادي؟"
أي: يأْتي المَولى عَزَّ وجَلَّ بالنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ويَسأَلُه عن تَبليغِ الرِّسالةِ لِأُمَّتِه، "فأقولُ: ربِّ قد بلَّغْتُ"،
أي: أدَّيْتُ ما أرسلْتَني به إلى الناسِ مِنَ الأوامرِ والنواهي كما أمرْتَني.
ثُمَّ قال صلَّى
الله عليه وسلَّم: "ألَا فلْيُبلِّغْ شاهِدُكم غائبَكم"،
أي: لِيُخبِرْ مَن حضَرَ منكم كَلامي وحَديثي مَن غاب عنْه، "ألَا ثُمَّ إنَّكم تُدْعَون"،
أي: تأْتون يومَ القِيامةِ، "مُفدَّمةً أفواهُكم بالفِدامِ"، والفِدامُ: ما يُشَدُّ على فَمِ الإبريقِ أو الكُوز مِن خِرقةٍ؛ لِتَصفيةِ الشَّرابِ،
أي: إنَّهم يُمنَعون الكلامَ بأفواهِهم حتَّى تَتكلَّمَ جَوارِحُهم، فشبَّهَ ذلك بالفِدامِ، "ثمَّ إنَّ أوَّلَ شَيءٍ يُنبِئُ عن أحدِكم لَفَخِذُه وكَفُّه"،
أي: أعضاؤُه تتكلَّمُ وتَشهَدُ عليه بما فعَلَ، كما قال
اللهُ تعالى:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [
النور: 24 ].
قال مُعاويةُ رضِيَ
اللهُ عنه: "قلْتُ: يا رسولَ
اللهِ، هذا دِينُنا؟ قال: هذا دِينُك"،
أي: هذا هو مُلخَّصُ دِينِ الإسلامِ، فآمِنْ به، "وأيْنما تُحسِنْ يَكْفِكَ"،
أي: في أيِّ وقْتٍ أو مكانٍ أو عمَلٍ تُحسِنُ فيه يكونُ كافيًا لك.
وفي الحديثِ: إثباتُ أنَّ للهِ عزَّ وجلَّ وَجْهًا يَلِيقُ بذاتِه وكَمالِه مِن غَيرِ تَكييفٍ أو تَمثيلٍ.
وفيه: وُجوبُ إسلامِ الوجْهِ للهِ تعالى، وهو الاستِسلامُ له، والانقيادُ لِأمْرِه.
وفيه: وُجوبُ التَّبرِّي عن جميعِ ما يُضادُّ الإسلامَ.
وفيه: تَحريمُ تعرُّضِ المُسلِمِ للمُسلِمِ بأيِّ وجْهٍ مِن الأذى، إلَّا بما أوجَبَ
اللهُ عليه مِن العُقوبةِ.
وفيه: الأمْرُ بتَبليغِ أحكامِ الدِّينِ لِمَن لا يَعرِفُها.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم