هذا الحديثُ يُوضِّحُ مَدى حُرمةِ الدَّمِ المعصومِ عِندَ
اللهِ تعالى وعِظَمِ النَّفْسِ المسلِمةِ المُوحِّدةِ التي قالتْ:
( لا إلهَ إلَّا اللهُ ).
وفيه يقولُ السُّميطُ بنُ السُّميرِ عن عِمرانَ بنِ الحُصينِ، قال: "أتى نافعُ بنُ الأزرقِ وأصحابُه" وكان نافعٌ هذا مِن رُؤوسِ الخوارجِ، وإليه تُنْسَبُ طَّائفةُ الأزارقةِ، وكان قد خرَجَ في أواخرِ دَولةِ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ، وكان قد صحِبَ ابنَ عبَّاسٍ رضِيَ
اللهُ عنهما في أوَّلِ أمْرِه، "فقالوا: هلَكْتَ يا عِمرانُ"،
أي: فعَلْتَ ما يستوجِبُ الهلاكَ والعُقوبةَ، فقال عِمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "ما هلكْتُ"،
أي: لم أقَعْ فيها ولم أفعَلْ ما يُؤدِّي لها، قالوا: "بلى"!
أي: أكَّدوا له هَلاكَه، فقال عِمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "ما الَّذي أهلَكَني؟"،
أي: ما هذا الفِعْلُ الَّذي فعَلْتُه يستوجِبُ الهلاكَ والعُقوبةَ؟ قالوا: "قال
اللهُ:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [
الأنفال: 39 ]"
أي: يُنكِرُ عليه بتلكَ الآيةِ تَرْكَ القِتالِ، فقال عِمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "قد قاتَلْناهم حتَّى نَفَيْناهم؛ فكان الدِّينُ كلُّه للهِ"،
أي: قاتَلْنا الكُفَّارَ والمُشركينَ حتَّى أبعَدْناهم عن الكُفرِ والشِّركِ، وأصبَحَ الدِّينُ والتَّوحيدُ خالِصًا للهِ، ومرادُه أنَّ المقصودَ من الآيةِ ليس قِتالَ المُسلمينَ بعضِهم بعضًا، بل المقصودُ هو قِتالُ المشرِكينَ.
ثمَّ قال عمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "إنْ شئْتُم حدَّثْتُكم حديثًا سمِعْتُه من رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ"،
أي: حديثًا يُؤكِّدُ ويُوضِّحُ المقصودَ والمُرادَ من أمْرِ القتالِ، قالوا: "وأنت سمِعْتَه من رسولِ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ؟" قال عِمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "نعمْ؛ شهِدْتُ رسولَ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد بعَثَ جيشًا من المُسلمينَ إلى المُشركينَ، فلمَّا لَقُوهم قاتَلوهم قِتالًا شديدًا، فمَنَحوهم أكْتافَهم"،
أي: انهَزَموا وفَرُّوا وأَعْطوا ظُهورَهم للمُسلمينَ، "فحمَلَ رجُلٌ"،
أي: هجَمَ رجُلٌ مُحارِبٌ، "مِن لُحْمَتي"،
أي: مِن قَومي، "على رجُلٍ من المُشركينَ بالرُّمحِ، فلمَّا غَشِيَه"،
أي: فلمَّا عَلاه بالرُّمحِ، قال الرَّجلُ: "أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا
اللهُ؛ إنِّي مُسلمٌ، فطعَنَه فقتَلَه"،
أي: بعدَ أنْ تلفَّظَ بها، فأتى الرَّجلُ "رسولَ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رسولَ
اللهِ، هَلكْتُ"، وهذا بَيانٌ وتأكيدٌ بأنَّ الَّذي يقَعُ في الهَلكةِ هو الَّذي يقصِدُ قتْلَ المُسلمينَ، فقال له النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "وما الَّذي صَنعْتَ؟ -مرَّةً أو مرَّتينِ"،
أي: كرَّرَ عليه النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ سُؤالَه، "فأخبَرَه بالَّذي صنَعَ"،
أي: بقَتلِه للرَّجلِ الَّذي قال: لا إلهَ إلَّا
اللهُ، فقال له رسولُ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "فهلَّا شَققْتَ عن بَطنِه فعلِمْتَ ما في قلبِه؟!"،
أي: وما أدراكَ ما في قلبِه؛ فإنَّه مَخْفيٌّ عنك ولا تعلَمُه؛ فكان عليك الأخذُ بظاهرِ ما قالَه بلسانِه وأنَّه مُسلمٌ، فقال الرَّجلُ: "يا رسولَ
اللهِ، لو شَققْتُ بطنَه لكنْتُ أعلَمُ ما في قلبِه"،
أي: وهل لو فَتحْتُ قلبَه سوف أعلَمُ ما فيه؟! وهذا استبعادٌ مِن الرَّجلِ أنْ يعلَمَ ما في قلبِ المقتولِ، وكأنَّه يُريدُ أنْ يقولَ: في كلِّ الأحوالِ لم أكُنْ لأعلَمَ ما في قلبِه.
فقال له النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "فلا أنت قبِلْتَ ما تكلَّمَ به، ولا أنت تعلَمُ ما في قلبِه"،
أي: يُنكِرُ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فِعْلَه بأنَّه لم يكُفَّ عن قتْلِ الرَّجلِ بعصمةِ دَمِه بكلمةِ التَّوحيدِ، ولا هو أيقَنَ أنَّ الرَّجلَ يقولُها خوفًا من السَّيفِ حتَّى يستحِلَّ بها دَمَه، قال عِمرانُ رضِيَ
اللهُ عنه: "فسكَتَ عنه رسولُ
اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ"، وفي روايةِ أحمدَ: "فلم يَستغفِرْ له"، وهذا فيه ذَمٌّ شديدٌ لهذا الرَّجُلِ، وبيان لسوء حاله، ويُوضِّحُه بَقيةُ كلامِ عِمرانِ رضِيَ
اللهُ عنه عن هذا الرجُلِ، حيثُ قال: "فلم يلبَثْ إلَّا يسيرًا حتَّى مات، فدفَنَّاه فأصبَحَ على ظهرِ الأرضِ"،
أي: لفَظَتْه الأرضُ وطَرَدَتْه مِن بَطنِها، فقال الصَّحابةُ رضِيَ
اللهُ عنهم: "لعلَّ عدُوًّا نبَشَه"،
أي: أخرَجَه مِن القَبرِ، "فدفَنَّاه"،
أي: مرَّةً ثانيةً، "ثمَّ أمَرْنا غِلمانَنا"،
أي: العبيدَ والخدَمَ، "يَحرُسُونَه، فأصبَحَ على ظَهرِ الأرضِ، فقُلْنا: لعلَّ الغِلمانَ نَعَسُوا"،
أي: ناموا ورجَعَ العدُوُّ فنبَشَه، "فدفَنَّاه"،
أي: للمرَّةِ الثَّالثةِ، "ثمَّ حرَسْناه بأنفُسِنا"،
أي: ليتأكَّدُوا أنَّه ليس هناك مَن يُخرِجُه من الأرضِ، "فأصبَحَ على ظَهرِ الأرضِ"،
أي: تأكَّدوا أنَّ ما يحدُثُ له عِقابٌ من
اللهِ؛ لقَتلِه ذلك الرَّجلَ المُسلمَ، قال: "فألْقَيناه في بَعضِ تلك الشِّعابِ" والشِّعبُ: الطَّريقُ بين الجَبلينِ.
وفي روايةٍ أُخرى عند ابنِ ماجَه: "فأُخْبِرَ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال: إنَّ الأرضَ لَتقبَلُ مَن هو شَرٌّ منه"،
أي: تَقبَلُ في بَطنِها مَن هو شَرٌّ من هذا الرَّجلِ؛ مِن الكُفَّارِ والمُشرِكينَ والمُنافقينَ وغيرِهم، "ولكنَّ
اللهَ أحَبَّ أنْ يُريَكم تَعظيمَ حُرمةِ لا إلهَ إلَّا
اللهُ"،
أي: إنَّ هذا آيةٌ وعَلامةٌ من
اللهِ على تَعظيمِ قولِ: لا إلهَ إلَّا
اللهُ، وعِصمةِ دَمِ مَن قالها، وأنَّ قتْلَ قائلِها خطأٌ عظيمٌ.
وفي الحديثِ: تَعظيمُ حُرمةِ الدَّمِ المُسلمِ عند
اللهِ.
وفيه: بيانُ الآياتِ من
اللهِ لعبادِه ليتَّعِظوا
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم