أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن يَومِ القِيامةِ وما فيه مِن أهوالٍ، وبيَّن حالَ أهْلِ الإيمانِ، وحالَ أهْلِ الكفْرِ؛ لِيتَّعِظَ الناسُ، ويَعمَلوا لهذا اليومِ الشديدِ.
وهذا المتْنُ جُزءٌ مِن حديثٍ عندَ الحاكمِ،
وفيه يقولُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "يُجمَعُ الناسُ يومَ القِيامةِ"،
أي: يَجمَعُهم
اللهُ، وذلك للحِسابِ، "قال: فيُنادي مُنادٍ" مِن قِبَلِ
اللهِ عزَّ وجلَّ، فيقولُ لهم: "يا أيُّها الناسُ، ألَمْ تَرْضَوا مِن ربِّكم الذي خلَقَكم ورزَقَكم وصوَّرَكم؟" وهذا تَذْكيرٌ بنِعَمِه عليهم، "أنْ يُولِّيَ كلَّ إنسانٍ مِنكم إلى مَن كان يَتولَّى في الدُّنيا؟"
أي: أنْ يَتبَعَه اليومَ في الآخِرةِ بمِثلِ ما كان يَتبَعُه في الدُّنيا، "ويُمثَّلُ لمَن كان يَعبُدُ عُزيرًا شَيطانُ عُزَيرٍ"،
أي: يُصوَّرُ لهم عُزَيرٌ في الآخِرَةِ؛ لِيَتبَعَه مَن كان يَعبُدُه؛ تَهكُّمًا بهم، وإكمالًا للحُجَّةِ عليهم، والمشهور في عُزَير هو أنَّه الذي قالَ
اللهُ في حقِّه:
{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } الآيةَ [
البقرة: 259 ]؛ وذلكَ لَمَّا مرَّ على بَيتِ المقدِسِ وقدْ خرَّبها بُخْتُ نَصَّرَ، فقال:
{ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا }! فبعَثَه
اللهُ مِن نَومِه الذي سلَّطهُ
اللهُ عليهِ مِئةَ عامٍ؛ لِيُعاينَ إحياءَ المَوتَى؛ لِيَزْدادَ بَصيرةً، "حتى يُمثِّلَ لهم الشَّجرةَ والعَودَ والحَجَرَ"،
أي: مَن كان يَعبُدُ هؤلاء تُمثَّلُ شياطينٌ على أشكالِهم؛ حتى يَتْبَعوهم في الآخِرةِ، "ويَبْقى أهلُ الإسلامِ جُثومًا"،
أي: يَبْقَونَ في أماكنِهم لم يَتْبَعوا شيئًا مِن هؤلاء، "فيُقال لهم: ما لكمْ لا تَنْطَلِقون كما يَنطلِقُ الناسُ؟"
أي: لماذا لم تتْبَعوا أحدًا مِن هؤلاء كما فعَلَ الناسُ؟ "فيَقولُون: إنَّ لنا ربًّا ما رأَيْناه بعْدُ"،
أي: إنَّنا لا نَعبُدُ عُزَيرًا، ولا حَجرًا، ولا شَجَرًا، ولكنْ ربُّنا الذي كنَّا نَعبُدُه في الدُّنيا لم يَظهَرْ لنا، فيُقال لهم: "فبِمَ تَعرِفون ربَّكم إنْ رأَيْتُموه؟"
أي: فكيف تَعرِفون ربَّكم وأنتم لم تَرَوهُ مِن قبْلُ؟ "قالوا: بيْننا وبيْنه عَلامةٌ، إنْ رأَيْناهُ عَرَفناهُ"،
أي: إنْ رأَيْنا هذه العلاماتِ عرَفْنا أنَّ هذا هو ربُّنا، "فيُقالُ لهم: وما هي هذه العَلاماتُ التي تَعرِفونَه بها؟ قالوا: يُكشَفُ عن ساقٍ، قال: فيُكشَفُ عندَ ذلك عن ساقٍ"، فعندَ ذلك يَكشِفُ
اللهُ عزَّ وجلَّ عن ساقِه سُبحانَه، وتَنكيرُ الساقِ للتعظيمِ والتَّفخيمِ، كأنَّه قال: يَكشِفُ عن ساقٍ عَظيمةٍ؛ جَلَّتْ عظمتُها، وتَعالَى شأنُها أنْ يكونَ لها نظيرٌ أو مَثيلٌ أو شبيهٌ، كما في الصَّحيحَينِ من حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ
اللهُ عنه،
وفيه قال: "فيَكشِفُ الرَّبُّ عن ساقِه"، والساقُ صِفةٌ مِن صِفاتِ الذَّاتِ، نُؤمِنُ بها ونُفوِّضُ كيفيتَها إلى
اللهِ سُبحانَه القائِلِ:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [
الشورى: 11 ]، "فيَخِرُّون مَن كان لِظَهْرِه طَبَقًا"، والطَّبَقُ فَقارةُ الظَّهرِ، "ساجدًا"، فيَسجُدون للهِ كما كانوا يَسجُدون له في الدُّنيا، وهذه السَّجدةُ سَجدةُ تَبجيلٍ وتلذُّذٍ؛ إذ لا تَكليفَ هناك، "ويَبْقى قومٌ" وهم أهلُ النِّفاقِ، "ظُهورُهم كصَياصِي البقَرِ"،
أي: مِثلُ أذنابِ البقَرِ الجافَّةِ، ليس فيها مَفْصِلٌ، فلا يَستطِيعون السُّجودَ في هذا اليومِ، كما كانوا في الدُّنيا مُعانِدين عن السُّجودِ للهِ عزَّ وجلَّ، "ثمَّ يُؤمَرُون، فيَرْفَعون رُؤوسَهم"،
أي: مَن كان ساجدًا يُؤمَرُ، فيَرفَعُ رأْسَه مِن السُّجودِ، "فيُعْطَون نُورَهم على قدْرِ أعمالِهم" التي كانوا يَعمَلونها في الدُّنيا؛ حتى يَستطِيعوا المُرورَ على الصِّراطِ، "فمِنهم مَن يُعْطى نُورَه مِثلَ الجبَلِ بيْن يدَيْه"،
أي: في سَعتِه وارتفاعِه، فيكونُ هذا النُّورُ أمامَهم مُضيئًا لهم على الصِّراطِ، "ومِنهم مَن يُعْطى نُورَه فوقَ ذلك"،
أي: يكونُ نُورُه أكبَرَ مِن الجَبلِ، "ومِنهم مَن يُعْطى نُورَه مِثلَ النَّخلةِ بيَمينِه"،
أي: عَمودًا مِن النُّورِ مِثلَ النَّخلةِ في يَدِه اليُمنى، "ومِنهم مَن يُعطَى دونَ ذلك بيَمينِه، حتى يكونَ آخِرُ ذلك مَن يُعْطى نُورَه على إبهامِ قدَمِه؛ يُضِيءُ مرَّةً، ويُطفِئُ مرَّةً، فإذا أضاء قدَّمَه، وإذا طفِئَ قام"،
أي: ليس نورًا ثابتًا في الإضاءةِ، فإذا أضاء هذا النُّورُ الذي هو على إبهامِه مَشى على الصِّراطِ، وإذا طُفِئَ وقَفَ، ولم يمُرَّ حتى يُضِيءَ مرَّةً أُخرى، فيَمُرَّ على الصِّراطِ، وهذا النُّورُ إنما هو على قدْرِ ما كانوا عليه في الدُّنيا مِن الأعمالِ الصالحةِ والخيرِ، "قال: فيَمُرُّ ويَمُرُّون على الصِّراطِ"،
أي: يَجتازُ الصِّراطَ مَن كان نُورُه على قدْرِ إبهامِه ومَن كانوا أكثَرَ منه نُورًا، وصِفةُ هذا الصِّراطِ: أنَّه "كحَدِّ السَّيفِ" في رِقَّتِه وحِدَّتِه، "دَحْضٌ مَزَلَّةٌ" والدَّحضُ والمَزلَّةُ بمعنًى واحدٍ؛ وهو الموضعُ الذي تَزِلُّ فيه الأقدامُ ولا تَستقِرُّ، ثم يُقال لمَن يَمُرُّ مِن فوقِه: "امْضُوا على قدْرِ نُورِكم"،
أي: انْجُوا ومُرُّوا عليه على قدْرِ هذا النُّورِ الذي أخَذْتُموه؛ فمِن الناسِ مَن يمُرُّ عليه "كانقِضاضِ الكوكبِ"،
أي: كسُقوطِه، وفي هذا إشارةٌ إلى سُرعتِه، "ومِنهم مَن يمُرُّ كالرِّيحِ"،
أي: كسُرعةِ الرِّيحِ، "ومِنهم مَن يمُرُّ كالطَّرْفِ،"،
أي: كسُرعةِ طَرْفِ العَينِ، "ومِنهم مَن يمُرُّ كشَدِّ الرَّحْلِ، ويَرمُلُ رمَلًا"،
أي: يَسيرُ في خُطواتٍ مُتقارِبةٍ، "فيمُرُّون على قدْرِ أعمالِهم، حتى يمُرَّ الذي نُورُه على إبهامِ قَدَمِه: تَخِرُّ يَدٌ، وتَعلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجلٌ، وتَعلَقُ رِجلٌ"،
أي: فيمُرُّ مِن على الصِّراطِ، فيَسيرُ على قدْرِ هذا النُّورِ؛ فتَضرِبُه النارُ مرَّةً، ويَسِيرُ مرَّةً، وتَسقُطُ إحدى يَدَيْه ويُمسِكُ بالأُخرى، "وتُصِيبُ جَوانِبَه النارُ"،
أي: تَلسَعُ النارُ جانِبَيْه، "فيَخلُصُوا، فإذا خَلَصوا قالوا: الحمْدُ للهِ الذي نجَّانا منكِ بعدَ الذي أراناكِ، لقد أعْطَانا
اللهُ ما لم يُعطِ أحدًا"،
أي: فإذا تَحقَّقوا أنَّهم قد نَجَوا منها يَحمَدون
اللهَ عزَّ وجلَّ على هذه النِّعمةِ العظيمةِ، ويَتصوَّرون أنَّ أحدًا مِن الناسِ لم يفُزْ بمِثلِها؛ وهذا مِن شِدَّةِ الأهوالِ التي وُصِفَت، وشِدَّةِ الخوفِ مِن السُّقوطِ والخُلودِ في النارِ.
وفي الحديثِ: دَعوةٌ إلى الإكثارِ مِن العمَلِ الصالحِ؛ للفوزِ والنَّجاةِ مِن النارِ.
وفيه: التَّحذيرُ مِن الأعمالِ السَّيِّئةِ التي تُهلِكُ أصحابَها
( ).
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم