فصم يوما واستغفر الله

اليُسرُ والسَّماحةُ مِن مَعالِمِ هذا الدِّينِ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يَأْمُرْ أحدًا بما لا يَستطيعُ أنْ يأتِيَ به، وحَيثُما وُجِدَتْ مَشقَّةٌ إلَّا يَسَّرَ عليه ورخَّصَ له ما يَرفَعُ عنه تِلك المشقَّةَ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رجلًا مِن الصَّحابةِ جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحدَّثَه أنَّه قد وقَعَ بأهْلِه في رَمضانَ"، أي: جامَعَ زَوجتَه في نَهارِ رمضانَ، "-فذكَرَ الحديثَ-" وقد جاء في رِوايةِ الدَّارقطنيِّ تتِمَّةُ هذا الحديثِ، وفيه: فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أعتِقْ رَقَبةً" أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكفَّارةِ الجِماعِ، وتدرَّجَ له فيها، والمُرادُ بعِتقِ الرَّقَبةِ: تَحريرُ مَملوكٍ، ذكَرًا كان أو أُنْثى، فقال الرَّجلُ: "لا أجِدُها يا رسولَ اللهِ"، أي: إنَّه لا يَقدِرُ عليها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فصُمْ شَهرينِ مُتتابعَينِ"، أي: صُمْ شَهرينِ مُتواصلينِ دونَ انقطاعٍ، بدَلًا مِن العِتقِ، فقال الرَّجلُ: "ما أستَطِيعُ"، أي: يَعتذِرُ بعَدمِ الاستِطاعةِ وعَدمِ القدْرةِ على الصِّيامِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فأطْعِمْ سِتِّينَ مِسكينًا"، أي: بدَلًا مِن كفَّارةِ صِيامِ الشَّهرينِ، فقال الرَّجلُ: "ما أجِدُ ذلك"، أي: إنَّه فقيرٌ لا يَستطيعُ الإطعامَ، قال أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فأُتِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِكْتَلٍ فيه تمْرٌ قدْرَ خمسَةَ عشَرَ صاعًا"، والمِكْتلُ: وِعاءٌ يُنسَجُ مِن خُوصِ النَّخلِ، والصاعُ: أربعةُ أمدادٍ، والمُدُّ مِقدارُ ما يَملَأُ الكفَّينِ بيدِ الإنسانِ المعتدلِ، ويُقدَّرُ الصاعُ ما بيْن 2 كيلو إلى 3.25 كيلوجرام تقريبًا بالموازينِ الحديثةِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "خُذْ هذا فتَصدَّقْ به"، أي: أطْعِمْ به السِّتِّينَ مِسكينًا، وهذا مِن عطْفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكرَمِه ورحمتِه، فقال الرَّجلُ: "على أحوَجَ منِّي وأهْلِ بَيتي؟ فما أجِدُ أحوَجَ منِّي وأهْلِ بَيتي" بيَّنَ الرَّجلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أحوَجُ لمِثلِ هذا الطَّعامِ مِن غيرِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "كُلْه أنت وأهْلُ بَيتِك"، أي: رخَّصَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُطعِمَ نفْسَه وأهْلَه مِن طعامِ الكفَّارةِ، ثمَّ قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فصُمْ يومًا واستغْفِرِ اللهَ"، أي: استَعِنْ على كفَّارةِ فِعلَتِك بصِيامِ يومٍ مكانَ اليومِ الذي جامَعْتَ فيه، وفي أمْرِه بالاستغفارِ إشارةٌ إلى عَدمِ العَودِ لهذا الفِعلِ والتَّوبةِ مِن الذَّنْبِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ ما كان عندَ رسولِ اللهِ مِن تَيسيرٍ ورِفقٍ بأُمَّتِه.
وفيه: أنَّ الكفَّاراتِ يُؤتَى بها على التَّرتيبِ، فإنْ لم يَستطِعْ فيأْتي التي بعدَها.( ).