في هذا الحديثِ بَيانٌ لسَعةِ فَضلِ
اللهِ تعالى على عِبادِه عِندَ الوفاءِ بالطاعاتِ على الوجهِ الأكملِ لها، وأنَّه يُعطي الثَّوابَ العَظيمَ على العِباداتِ والطاعاتِ.
وهذه الرِّوايةُ جزءٌ مِن حديثٍ جاء كاملًا عِندَ ابنِ حِبَّانَ،
وفيه يُخبِرُ عبدُ
اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ
اللهُ عنهما: "جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ
اللهِ، كَلِمَاتٌ"،
أي: عِدَّةُ أسئِلَةٍ، "أسأَلُ عنهُنَّ، قال: اجْلِسْ"،
أي: اقْعُدْ وانتَظِرْ حتى تَحصُلَ على الإجابةِ، "وَجَاء آخَرُ مِن ثَقيفٍ" وهي قَبيلَةٌ من قَبائِلِ الطائِفِ، "فَقَالَ: يَا رسولَ
اللهِ، كَلِمَاتٌ أسأَلُ عنهُنَّ، فقال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: "سَبَقَكَ الأَنْصَارِيُّ"،
أي: جاءَ قَبلَكَ وله حَقُّ الجَوابِ أَوَّلًا، "فقال الأنصاريُّ: إنَّه رَجُلٌ غَريبٌ"، يعني: أنَّه ليس مِن أهْلِ المدينَةِ، "وإنَّ للغَريبِ حَقًّا، فابْدَأْ بِهِ" وهذا من أَدَبِ الأنصاريِّ، ومَعرِفَتِه بحَقِّ الغَريبِ؛ لأنَّه ربَّما يكونُ مُسافِرًا، ويَحتاجُ الجَوابَ؛ ليَكسَبَ وقتًا، "فَأقبَلَ على الثَّقَفيِّ"،
أي: توجَّه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الرَّجُلِ الثَّقَفيِّ بوَجْهِه، "فقال: إنْ شِئتَ أَنْبَأتُكَ عَمَّا كُنتَ تسأَلُني" وهذا بما أوحى
اللهُ إليه وألْهَمَه مَعرِفَةَ ما يَدورُ في نفْسِ الثَّقَفيِّ، "وإنْ شِئْتَ تَسْأَلُنِي وأُخبِرُك"،
أي: تَسأَلُ عمَّا تُريدُ وأُجيبُكَ، "فَقَالَ: يَا رسولَ
اللهِ، أَجِبْني عمَّا كُنتُ أسأَلُكَ، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجودِ، وَالصَّلاةِ، وَالصَّوْمِ"،
أي: عن كيفيَّةِ هذه الأمُورِ، وأحكامِها، وما يَتعلَّقُ بها، "فقال الثَّقَفيُّ: لا، والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما أخطَأْتَ ممَّا كان في نَفْسي شيئًا" وهذا تَصديقٌ من الثَّقَفيِّ للنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، "قال: فإذا رَكَعتَ فضَعْ راحَتَيْكَ"،
أي: كَفَّيْكَ، "عَلَى رُكبَتَيْكَ ثم فَرِّجْ بين أصابِعِكَ"،
أي: فَرِّقْ بين أصابِعِ يديْكَ، "ثمَّ اسْكُنْ" بمعنى اطْمَئِنَّ في رُكوعِكَ واثْبُتْ، "حتى يأخُذَ كُلُّ عُضوٍ مأخَذَهُ" بأنْ يستقِرَّ كُلُّ عُضوٍ في مكانِه، وهذا حثٌّ على أداءِ حَركاتِ الصَّلاةِ في تُؤدَةٍ وطُمأنينةٍ، "وإذا سَجَدتَ فَمَكِّنْ جَبهَتَكَ" والمُرادُ أنْ يُثبِّتَ مُقدَّمَ رأسِه على الأرضِ عندَ السُّجودِ، "ولا تَنقُرُ نَقرًا" وهذا نهيٌ عن الإسراعِ، وعَدَمِ الاطمِئْنانِ في السُّجودِ، "وَصَلِّ أوَّلَ النَّهارِ وَآخِرَه"،
أي: صَلِّ الصَّلواتِ المَفْروضاتِ في النَّهارِ، ويُحتمَلُ أنْ يكونَ أمْرًا بالتطوُّعِ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، "فقال: يا نَبيَّ
اللهِ، فإنْ أنا صَلَّيتُ بينهما" تطوُّعًا؟ "قال: فأنتَ إِذًا مُصَلٍّ.
وصُمْ مِنْ كُلِّ شَهرٍ ثَلاثَ عَشْرةَ وَأَربعَ عَشْرةَ وَخَمسَ عَشْرةَ" وهي الأيامُ البِيضُ من وَسَطِ كُلِّ شَهرٍ قَمَريٍّ، وصيامُ ثَلاثةٍ تَعدِلُ صيامَ الشَّهرِ؛ وذلك لأنَّ الحَسَنةَ بعَشرِ أمثالِها، "فقام الثَّقَفيُّ"،
أي: انصَرَفَ.
قال ابنُ عُمرَ رضِيَ
اللهُ عنهما: "ثم أقبَلَ" النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ "على الأنصاريِّ، فقال: إنْ شِئتَ أخبَرْتُكَ عمَّا جِئْتَ تسْأَلُ، وإنْ شِئْتَ تَسْأَلُني وأُخبِرُك، فقال: لا يا نبيَّ
اللهِ، أخبِرْني بما جِئتُ أسأَلُكَ، قال: جِئتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الحَاجِّ؛ ما له حين يخرُجُ مِن بيتِه؟"،
أي: ماذا يكونُ له مِنَ الأجْرِ عندَ خُروجِه من بيتِه مُتوجِّهًا إلى مكَّةَ ناويًا الحَجَّ؟ "وما له حين يقومُ بِعَرَفاتٍ؟ وما له حين يرمي الجِمارَ؟ وما له حين يَحلِقُ رَأسَه؟ وما له حين يقضي آخِرَ طَوافِ البيتِ؟" والمعنى: ما يكونُ له من الأجْرِ والثَّوابِ عندَ إتمامِ هذه الأفعالِ؟ "فقال" الأنصاريُّ: "يا نبيَّ
اللهِ، والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ" وهذا قَسَمٌ ب
اللهِ الذي بَعَثَ نبيَّه مُحمَّدًا بالحَقِّ، "ما أخطَأْتَ ممَّا كان في نفسي شيئًا"، وهذا تَصديقٌ آخَرُ مِنَ الأنصاريِّ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ بما كان يدورُ في نفْسِ الأنصاريِّ، "قال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: فإنَّ له حين يخرُجُ من بيتِه أنَّ راحِلَتَه" وهي رَكوبتُه مِنَ الحَيَواناتِ، وتُطلَقُ على الناقَةِ والجَمَلِ، "لا تَخطو خُطوَةً"،
أي: لا تتحرَّكُ حَرَكةً واحدةً بقَدَمَيْها، "إلَّا كُتِبَ له بها حَسَنَةٌ" فرُفِعتْ دَرَجَتُه فَضلًا مِنَ
اللهِ ونِعمَةً، "أو حُطَّ عنه بها خَطيئَةٌ" يَغفِرُها
اللهُ له ويَمْحوها من سِجِلَّاتِه؛ رَحمةً منه سُبحانَه وتكرُّمًا على عبدِه، "فإذا وَقَفَ بِعَرَفةَ" وذلك يكونُ يومَ التاسِعِ من ذي الحِجَّةِ، والوُقوفُ بعَرَفةَ هو الرُّكنُ الأعظَمُ من الحَجِّ، "فإنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا" نُزولًا يَليقُ بجَلالِه وكَمالِه لا يُشبِهُ نُزولَ البَشَرِ، "فيقولُ: انظُروا إلى عِبادي شُعْثًا"
أي: انتَشَرَ شَعرُ رُؤُوسِهم، "غُبْرًا" قد غَطَّتْهم الأترِبَةُ والغُبارُ، وذلك مِن آثارِ السَّفرِ، "اشهَدوا أَنِّي قد غَفَرتُ لَهُم ذُنوبَهم، وإنْ كانت عَدَدَ قَطرِ السَّماءِ وَرَمْلِ عَالِجٍ"،
أي: وإنْ كانت الذُّنوبُ كَثيرةً جِدًّا، ولا تُحصى مِثلَ ما لا يُحصى من قَطَراتِ ماءِ المَطَرِ، وعَدَدِ حَبَّاتِ ما تراكَمَ من الرَّمْلِ، ودَخَلَ بعضُه في بعضٍ فلا يُحصَى، "وإذا رَمَى" الحاجُّ "الجِمارَ" وهي الحَصى الصَّغيرُ الذي يُلقيهِ في مَواضِعِه من العَقَباتِ الثلاثِ في مِنًى، فيكونُ له من الأجْرِ والثَّوابِ العظيمِ، حتَّى "لا يَدري أحَدٌ ما له"،
أي: لا يَعرِفُ أحَدٌ كُنهَ هذا الثَّوابِ وقَدْرَه، "حتى يتوفَّاهُ
اللهُ يومَ القيامَةِ" والمعنى: حتى يُوفِّيَه
اللهُ أجْرَه يومَ القيامَةِ، فهو أجْرٌ مُخبَّأٌ ومُدَّخَرٌ للحاجِّ لذلك اليومِ، وهذا من تَعظيمِ الأجْرِ وتَفخيمِه، كما قال
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ
{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [
السجدة: 17 ]، وفي حَديثِ ابنِ عباسٍ عندَ البزَّارِ: "إذا رَميتَ الجِمارَ كان لك نورًا يومَ القيامَةِ"، وعندَ سعيدِ بنِ منصورٍ: "إنَّه يُغفَرُ له بكُلِّ حصاةٍ رماها كبيرةٌ من الكبائِرِ الموبقاتِ".
"وإذا حَلَقَ" الحاجُّ "رأسَه" عندَ التحلُّلِ من نُسُكِ الحَجِّ، "فله بكُلِّ شَعْرةٍ سَقَطَتْ مِن رأسِه نورٌ يومَ القيامةِ" وهذا من فضْلِ
اللهِ وكَرَمِه على عبدِه المحلِّقِ الذي استجابَ لأمْرِه، فأزالَ كُلَّ شَعرِ رأسِه، فرَزَقَه
اللهُ نورًا يومَ القيامَةِ.
وفي رِوايَةِ البزَّارِ والطَّبَرانيِّ: "وأما حِلاقُك رأسَك: فإنَّ لك بكُلِّ شَعرَةٍ حَلَقتَها حَسَنةً" تَزيدُ في أجْرِك وثَوابِك، "وتُمْحى عَنكَ بها خَطيئَةٌ" فتُمْحى من صَحيفَتِك، وهذا مِن تَحْبيبِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ للناسِ في الحَلْقِ دُون التَّقصيرِ.
"وَإِذا قَضى آخِرَ طوافٍ بالبيتِ"،
أي: أدَّى آخِرَ مرَّةٍ من مَرَّاتِ طوافِ الرُّكنِ حَولَ الكَعْبةِ المُشرَّفةِ، ولم يرفُثْ، ولم يفسُقْ في حَجِّه، "خَرَجَ من ذُنوبِه كيومِ وَلَدَتْه أُمُّه"؛ لأنَّه يكونُ قد أتمَّ الحَجَّ بكُلِّ أركانِه، وحَصَلَ على الأجْرِ الكامِلِ مِنَ
اللهِ، وكان لا ذَنبَ عليه كَبيرٌ ولا صَغيرٌ، إلَّا حُقوقَ العِبادِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ مُعجِزَةٍ من مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بمَعرِفَتِه ما يَدورُ في نُفوسِ الناسِ.
وفيه: إرشادٌ إلى فِعلِ الطاعاتِ والعباداتِ؛ للحُصولِ على الأجْرِ والثَّوابِ .
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم