حَذَّر النَّبيُّ صلَّى
اللهُ علَيه وسلَّم مِنَ الخِيانةِ والسَّرِقةِ عُمومًا، وخَصَّ بالتَّحذيرِ الخِيانةَ في مَغانِمِ الحروبِ؛ لأنَّ فيها حُقوقًا للمقاتِلينَ، وأَنْصِبةً للهِ ورَسولِه، وأُخْرى للفُقَراءِ والمَساكينِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ المِقْدامُ بنُ مَعْدي كرِبَ الكِنْديُّ رضِيَ
اللهُ عنه أنَّه جلَسَ معَ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ وأبي الدَّرْداءِ رضِيَ
اللهُ عنهما، والحارثِ بنِ مُعاويةَ الكِنْديِّ، فتَذاكَروا حَديثًا لِرَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، فطلَبَ أبو الدَّرْداءِ مِن عُبادةَ رضِيَ
اللهُ عنه أنْ يُحدِّثَهم بحَديثِ رَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي كان في غَزْوةٍ مِن غَزَواتِه، يَتكلَّمُ فيه عنِ الأخماسِ؛ والمرادُ بها: القِسْمةُ الَّتي تكونُ في الغَنيمةِ الَّتي يَتحصَّلُ عليها جَيشُ المُسلِمينَ في غَزْوِهم للكُفَّارِ، ويُخرَجُ مِن تلكَ الغَنيمةِ الخُمُسُ، ويُرَدُّ الباقي على الجَيشِ، وتُقسَّمُ عليهم؛ للفارسِ سهْمٌ، وللفرَسِ سَهْمانِ.
فأخبَرَهم عُبادةُ رضِيَ
اللهُ عنه بالحَديثِ؛
وفيه: أنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ «
صلَّى بهم في غَزْوِهم إلى بَعيرٍ مِنَ المَقْسَمِ»؛
أي: مِنَ الغَنيمةِ، فاتَّخذَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ البَعيرَ
( الجَمَلَ ) سُتْرةً له في صَلاتِه بيْنَه وبيْنَ القِبْلةِ، وكانتْ صَلاتُه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في رُجوعِهم مِن غَزْوِهم، فلمَّا قَضَى النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه، «
فتَناوَلَ وَبَرةً بيْنَ أَنْمُلَتَيْه»؛
أي: أخَذَ شَعَرةً مِن صُوفِ الإبِلِ وشَعَرِه، وأمسَكَها بأَنامِلِإصبَعَيْه، فقال: «
إنَّ هذه مِن غَنائمِكُم»؛ والإشارةُ إلى تلكَ الوَبَرةِ؛ للتَّقليلِ والتَّشديدِ في شأْنِ مالِ الغَنيمةِ؛ مَهْما بلَغَ مِن صِغَرِه، أو دَناءةِ قِيمتِه، وأنَّ هذا القَدْرَ القليلَ مِن شَعَرِ الإبلِ يُعتَبرُ مِنَ الغنائمَ الَّتي يَنبَغي أنْ تُؤدَّى، ولا يَتهاوَنَ بها أحَدٌ في أخْذِها قبْلَ القِسْمةِ.
ويُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ليْسَ له الحقُّ فيما يَتصرَّفُ في هذا الجُزءِ مِنَ الغَنيمةِ قبْلَ قِسْمتِها حتَّى يُستخرَجَ منها الخُمُسُ، الذي هو حَقُّ
اللهِ ورَسولِه، «
والخُمُسُ مَرْدودٌ عليكم»؛
أي: يَأخُذُ منه نفَقتَه وحاجتَه، والباقي يَصرِفُه في مَصالِحِ المُسلِمينَ ومَصالِحِ الدِّينِ؛ مِنَ السِّلاحِ، والخَيلِ، والعُدَّةِ، كما في قَولِه تَعالَى:
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [
الأنفال: 41 ].
ثُمَّ قال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
فأَدُّوا الخَيْطَ»؛
أي: اجْمَعوا مِثلَ هذا القَدْرِ، ورُدُّوه في الغَنيمةِ، ولا يَغُرَّنَّكم قِلَّةُ قَدْرِها.
«
والمِخْيَطَ»: الإبرةَ والآلةَ الَّتي تُستعمَلُ في الخِياطةِ.
«
وأكبَرَ مِن ذلكَ وأصغَرَ» وهذا كِنايةٌ عَن أنَّ قَليلَ ما يُغنَمُ وكَثيرَه مَقسومٌ بيْنَ مَن شَهِدَ الوَقْعةَ، ولِمَن حدَّدَهم
اللهُ، ليسَ لأحَدٍ أنْ يَستبِدَّ مِنه بشَيءٍ وإنْ قَلَّ، ثُمَّ نَهَى النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ الغُلولِ، وهو ما سُرِقَ وأُخِذَ مِنَ الغَنيمةَ قبْلَ أنْ تُقسَمَ.
«
نارٌ وعارٌ على أَصْحابِهِ في الدُّنْيا والآخِرةِ»؛ والمعْنى: أنَّ الخِيانةَ والغُلولَ عَيبٌ في الدُّنيا، وفَضيحةٌ وتَشويهٌ على رُؤوسِ الأشْهادِ في العُقْبى يَومَ القِيامةِ، وجَزاؤُه العذابُ في النَّارِ.
ثُمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالجِهادِ والغَزْوِ لرفْعِ كَلِمةِ
اللهِ عزَّ وجَلَّ، ونشْرِ دَعْوةِ الإسلام ِ في القَريبِ والبَعيدِ.
ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بهما: القُرْبُ والبُعْدُ في النَّسَبِ، أو القوَّةِ والضَّعفِ.
وأمَرَهم ألَّا يَخافوا في ذاتِ
اللهِ أحدًا، ولا يَصُدَّهم ويَمنَعْهم أحَدٌ عن العمَلِ بما أمَرَ
اللهُ به مِن قِتالِ عَدُوِّهم، أو أنْ يكونَ عندَهُمُ اعتبارٌ لِلَومِ أحَدٍ.
وقدْ كرَّرَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الأمْرَ بالجهادِ في نِهايةِ الحَديثِ؛ تَأكيدًا على فضْلِه، وأهَمِّيَّتِه للإسلامِ والمُسلِمينَ، وهو طَريقٌ مُوصِلٌ للجَنَّةِ لِمَن بلَغَتْه الشَّهادةُ، أوِ اشتَغلَ به خالِصًا لِوَجْهِ
اللهِ.
«
يُذهِبُ اللهُ بِهِ الهَمَّ والغَمَّ»؛
أي: يُزيلُ
اللهُ به الحُزنَ والكَمَدَ عمَّن جاهَدَ في سَبيلِه لإعلاءِ كَلمتِه وعن صُدورِ المُؤمِنينَ؛ لأنَّ إعلاءَ كَلِمةِ
اللهِ تُزيلُ عنِ القَلْبِ هُمومَه، وغُمومَه، وأحزانَه؛ فالجهادُ مِن أَدْويةِ الغَمِّ والهَمِّ، وإنَّ الشَّقِيَّ حقًّا مَن ترَكَ الجِهادَ بأنْواعِه كلِّها معَ قُدرتِه عليها، ومالَ إلى الدُّنْيا، فتُصِيبُه بآلامِها وأحْزانِها، ويَشقَى بها.
ثُمَّ أمَرَالنَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بإقامةِ الحُدودِ في الحضَرِ والسَّفَرِ.
والحدُّ هو العُقوبةُ الَّتي حدَّدَها الشَّرعُ على فِعلِ مَعصيةٍ مُعيَّنةٍ؛ مِثلُ حدِّ القتْلِ، وحدِّ الزِّنا، وحدِّ السَّرِقةِ؛ والمعنى: أَقيموا حُدودَ
اللهِ في كلِّ النَّاسِ دونَ تَمييزٍ بيْنَ غَنِيٍّ وفَقيرٍ، وقَوِيٍّ وضَعيفٍ؛ فلا يُعطَّلُ تَنفيذُ حَدٍّ مِن حُدودِ
اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ أيًّا كان مُرتكِبُه، وأيًّا كان مَوضِعُه، في حضَرٍ كان، أو سفَرٍ؛ وذلك لأنَّ في إقامتِها زَجْرًا للخلْقِ عنِ المعاصي والذُّنوبِ، وعمَّا يَتضرَّرُ به العِبادُ، وصِيانةً لدارِ الإسلامِ عنِ الفَسادِ، وسَببًا لفتْحِ أبْوابِ السَّماءِ، وإرخاءِ خَيرِها؛ ولأنَّ في التَّهاوُنِ بها انْهِماكَ النَّاسِ في المعاصي.
وقدِ احتَجَّ بحَديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِيَ
اللهُ عنه أغلَبُ أهْلِ العِلمِعلى إقامةِ الحدِّ في السَّفَرِ والحضَرِ.
وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِنَ الغُلولِ، وبَيانُ أثَرِه على صاحِبِه في الدُّنْيا والآخِرةِ.
وفيه: الأمْرُ بالجهادِ في سَبيلِ
اللهِ تعالَى، وبَيانٌ لفضْلِه الكبيرِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ الإسلامَ دِينُ العدلِ، والقِسطِ، وعَدمِ المُحاباةِ لأحَدٍ على حِسابِ أحَدٍ.
وفيه: الأمْرُ بإقامةِ حُدودِ
اللهِ عزَّ وجَلَّ في الأرْضِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم