1. التفسير الميسر
  2. تفسير الجلالين
  3. تفسير السعدي
  4. تفسير البغوي
  5. التفسير الوسيط
تفسير القرآن | باقة من أهم تفاسير القرآن الكريم المختصرة و الموجزة التي تعطي الوصف الشامل لمعنى الآيات الكريمات : سبعة تفاسير معتبرة لكل آية من كتاب الله تعالى , [ البقرة: 61] .

  
   

﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾
[ سورة البقرة: 61]

القول في تفسير قوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج ..


تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

التفسير الميسر : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد


واذكروا حين أنزلنا عليكم الطعام الحلو، والطير الشهي، فبطِرتم النعمة كعادتكم، وأصابكم الضيق والملل، فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام ثابت لا يتغير مع الأيام، فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول والخُضَر، والقثاء والحبوب التي تؤكل، والعدس، والبصل. قال موسى -مستنكرًا عليهم-: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الرزق النافع الذي اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أي مدينة، تجدوا ما اشتهيتم كثيرًا في الحقول والأسواق. ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم يُقَدِّمون اختيارهم -في كل موطن- على اختيار الله، ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم؛ لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس، وانصرفوا ورجعوا بغضب من الله؛ لإعراضهم عن دين الله، ولأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين ظلمًا وعدوانًا؛ وذلك بسبب عصيانهم وتجاوزهم حدود ربهم.

المختصر في التفسير : شرح المعنى باختصار


واذكروا حين كفرتم نعمة ربكم فمَلِلْتُم من أكل ما أنزل الله عليكم من المَنِّ والسَّلْوى، وقلتم: لن نصبر على طعام واحد لا يتغير، فطلبتم من موسى عليه السلام أن يدعو الله أن يخرج لكم من نبات الأرض من بقولها وخُضَرها وقِثَّائها (يشبه الخيار لكنه أكبر) وحبوبها وعدسها وبصلها؛ طعامًا؛ فقال موسى عليه السلام - مستنكرًا طلبكم: أتستبدلون الذي هو أقل وأدنى بالمن والسلوى، وهو خير وأكرم، وقد كان يأتيكم دون عناء وتعب-: انزلوا من هذه الأرض إلى أي قرية، فستجدون ما سألتم في حقولها وأسواقها.
وباتباعهم لأهوائهم وإعراضهم المتكرر عما اختاره الله لهم؛ لازمهم الهوان والفقر والبؤس، ورجعوا بغضب من الله؛ لإعراضهم عن دينه، وكفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ظلمًا وعدوانًا؛ كل ذلك بسبب أنهم عصوا الله وكانوا يتجاوزون حدوده.

تفسير الجلالين : معنى و تأويل الآية 61


«وإذا قلتم يا موسى لن نصبر على طعام» أي نوع منه «واحد» وهو المن والسلوى «فادع لنا ربَّك يُخرج لنا» شيئاً «مما تنبت الأرض من» للبيان «بقلها وقثائها وفومها» حنطتها «وعدسها وبصلها قال» لهم موسى «أتستبدلون الذي هو أدنى» أخس «بالذي هو خير» أشرف أي أتأخذونه بدله، والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا الله تعالى فقال تعالى «اهبطوا» انزلوا «مصراً» من الأمصار «فإن لكم» فيه «ما سألتم» من النبات «وضُربت» جعلت «عليهم الذلة» الذل والهوان «والمسكنة» أي أثر الفقر من السكون والخزي فهي لازمة لهم، وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته «وباءُوا» رجعوا «بغضب من الله ذلك» أي الضرب والغضب «بأنهم» أي بسبب أنهم «كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين» كزكريا ويحيى «بغير الحق» أي ظلماً «ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» يتجاوزون الحد في المعاصي وكرره للتأكيد.

تفسير السعدي : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد


أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ }- أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا }- أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا }- أي: ثومها، والعدس والبصل معروف، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم, أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم فقال: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ }- أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة حالتهم.
{ ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم, فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وقوله: { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.
{ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء.
واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن, وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت لهم لفوائد عديدة، منها: أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟".
ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها, لأنها نعم تشملهم وتعمهم.
ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.
لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع.
ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها, والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.

تفسير البغوي : مضمون الآية 61 من سورة البقرة


قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد وذلك أنهم أجمعوا وسئموا من أكل المن والسلوى، وإنما قال: على طعام واحد وهما اثنان لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [22-الرحمن] وإنما يخرج من المالح دون العذب.
وقيل: كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "كانوا يعجنون المن بالسلوى فيصيران واحداً".
فادع لنا فاسأل لأجلنا.
ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها قال ابن عباس: "والفوم الخبز".
وقال عطاء: "الحنطة"، وقال القتيبي رحمه الله تعالى: "الحبوب التي تؤكل كلها".
وقال الكلبي: "وعدسها وبصلها".
قال لهم موسى عليه السلام.
أتستبدلون الذي هو أدنى أخس وأردى.
بالذي هو خير أشرف وأفضل,وجعل الحنطة أدنى في القيمة وإن كان هو خيراً من المن والسلوى، أو أراد أنها أسهل وجوداً على العادة، ويجوز أن يكون الخير راجعاً إلى اختيار الله لهم واختيارهم لأنفسهم.
اهبطوا مصراً يعنى: فإن أبيتم إلا ذلك فانزلوا مصراً من الأمصار، وقال الضحاك: "هو مصر موسى وفرعون".
والأول أصح، لأنه لو أراده لم يصرفه.
فإن لكم ما سألتم من نبات الأرض.
وضربت عليهم جعلت عليهم وألزموا.
الذلة الذل والهوان؛ قيل: بالجزية، وقال عطاء بن السائب: "هو الكستيج والزنار وزي اليهودية".
والمسكنة الفقر، سمي الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة؛ فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء.
وقيل: الذلة هي فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود.
وباءوا بغضب من الله رجعوا ولا يقال: ( باؤوا إلا بشر )وقال أبو عبيدة:" احتملوا وأقروا به"، ومنه الدعاء: أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، أُقِرذلك أي الغضب.
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن.
ويقتلون النبيين تفرد نافع بهمز النبي وبابه، فيكون معناه المخبر من أنبأ ينبىء ونبأ ينبئ، والقراءة المعروفة ترك الهمزة، وله وجهان: أحدهما هو أيضاً من الإنباء، تركت الهمزة فيه تخفيفاً لكثرة الاستعمال، والثاني: هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع، فعلى هذا يكون النبيين على الأصل.
بغير الحق أي بلا جُرْم، فإن قيل: فلِمَ قال: بغير الحق وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ قيل: ذكره وصفاً للقتل، والقتل تارة يوصف بغير الحق وهو مثل قوله تعالى: قال رب احكم بالحق [112-الأنبياء] ذكر الحق وصفاً للحكم لا أن حكمه ينقسم إلى الجور والحق.
ويروى أن اليهود قتلت سبعين نبياً في أول النهار وقامت سوق بقتلهم في آخر النهار.
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.

التفسير الوسيط : ويستفاد من هذه الآية


ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير ، فقال تعالى :{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ... }الصبر : حبس النفس على الشيء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها .
ومنه الصبر عن المعاصي .
والطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسلوى : والبقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما .
والقوم : قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة .
والقثاء : نوع من المأكولات أكبر حجماً من { الخيار } .
قال ابن جرير : { وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك} فيما بلغنا عن قتادة أنه قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى : فملوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أنبأنا .
ابن زيد قال :" كان طعام بني إسرائيل في التيه واحداً ، وشرابهم واحداً .
كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : " لما سئموا من الإِقامة في التيه .
والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " .
وقال صاحب الكشاف : " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أي ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم عدم البقاء { على طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى " .
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً : وذاكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعانتكم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها .
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله .
ثم بين الله - تعالى - السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله :{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } إلخ أي : إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم .
لا يقدر النعمة قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودي منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفي فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ } .. إلخ فكأنهم يقولن له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً : إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه : فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها .
قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " .
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعاً لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد .
وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقي من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولي عليها السيئات .
وقولهم : { فادع لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان في قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة .
وقولهم : { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو في معنى مقول قول محذوف والتقدير : أي قل لربك يخرج لنا .
وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم .
والجملة الكريمة : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم .
لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هو خير منه وهو المن والسلوى .
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة : " أي قال لهم موسى : أتاخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذي هو خير منه خطراًٍ وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله : { أدنى } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم : هذا رجل دني بين الدناءة ، وإنه ليدني في الأمور - بغير همز - إذ كان يتتبع خسيسها .
ثم قال : ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى : البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وأنزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكي تجدوا ما سألتموني إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به ، وإنما يوجد في الأمصار والقرى .
وقوله تعالى : { مِصْراً } .
قال ابن كثير : " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " .
وقال ابن جرير : " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { اهبطوا مِصْراً } وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك .. " اه .
وقال أبو حيان في البحر : " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب { مصر } بغير تنوين ، وقد وردت كذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضي الله عنه " اه .
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش .
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي أنتم فيه ، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحوا للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائماً - أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى في سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ .
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ
} وقوله تعالى في سورة الدخان :{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ .
وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ .
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ
} قالوا : فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها .
قال ابن جرير : " ومن حجة من قال إن الله - إنما عني بقوله : { اهبطوا مِصْراً } أي : مصراً من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه .
فامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة .
ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران .
فرأينا أن الله - تعالى - قد اخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { اهبطوا مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها .
قالوا : فإن احتج محتج بقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ .
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ .
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ
} قيل لهم : فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها .
ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اه .
قال أبو حيان في البحر : { ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر } اه .
ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون : استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال : { والذي نقول به في ذلك ، أنه لا دلالة في كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهلا لتأويل متنازعون تأويله )، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام ... "ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها .
وقد عارض الإِمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال :وهذا الذي قاله - أي ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين .
بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه .
هذا ، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتي :أولا : أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجاوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص في أن المراد من مصر ، أي بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون .
ثانياً : لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام .
وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون .
ثالثاً : ليس في الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة؟رابعاً : دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم .
فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة .
وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل .
ثم بين - سبحانه - العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى :{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } :ضرب الذلة والمسكنة عليهم كنية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله .
قال صاحب الكشاف : { جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليهم ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة } .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال : ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة : على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة .
والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها في الآية : الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذي يستولي على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة .
أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل .
ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلوا الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال في أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير .
وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم ، فهم في الدنيا أذلاء حقراء ، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة .
قال ابن جرير - رحمه الله - يعني بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى :{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعني تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام إذا .
ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط .
وقال صاحب الكشاف : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته؛ ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أي ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ الحق } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم ، أو تأول في الحكم ، أو شبهة في الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟قلت : معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يتقلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " .
وقال الإِمام الرازي : " فإن قيل : قال هنا { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وقال في آل عمران { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق؟ قلت .
إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك أي حق يستندون إليه ، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله .
والاعتداء : تجاوز الحد الذي حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه .
وللمفسرين في مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان :أحدهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى :إن هؤلاء اليهود قد مروا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأي تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدي إلى الانتقال من مصير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمروا المعاصي وداوموا على تعدي الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
والثاني : يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة في تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما في قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا .
وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا .
وعلى هذا الرأي يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان .

وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد: تفسير ابن كثير


يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنية من البقول ونحوها مما سألتم . وقال الحسن البصري رحمه الله : فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : { يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها } [ وهم يأكلون المن والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد ] . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة . وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم ، عنه ، بالثوم . وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { وفومها } قال : قال ابن عباس : الثوم .
قالوا : وفي اللغة القديمة : فوموا لنا بمعنى : اختبزوا . وقال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير . وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم .
وقال آخرون : الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ، حدثني نافع بن أبي نعيم : أن ابن عباس سئل عن قول الله : { وفومها } ما فومها ؟ قال : الحنطة . قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : { وفومها } قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم .
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم : الحنطة .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وعطاء : { وفومها } قالا وخبزها .
وقال هشيم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك : { وفومها } قال : الحنطة .
وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، والله أعلم .
[ وقال الجوهري : الفوم : الحنطة . وقال ابن دريد : الفوم : السنبلة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز . قال : وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ، ومنه يقال لبائعه : فامي مغير عن فومي ] .
وقال البخاري : وقال بعضهم : الحبوب التي تؤكل كلها فوم .
وقوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
وقوله : { اهبطوا مصرا } هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف .
قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك .
وقال ابن عباس : { اهبطوا مصرا } قال : مصرا من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه .
قال : وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك .
وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : اهبطوا مصر من غير إجراء يعني من غير صرف . ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضا .
وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضا . ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى : { قواريرا قواريرا } [ الإنسان : 15 ، 16 ] . ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ، والمعنى على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ؛ ولهذا قال : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم } أي: ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله أعلم
يقول تعالى : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا ، أي: لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون .
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } قال : هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى : { وضربت عليهم } قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال الضحاك : { وضربت عليهم الذلة } قال : الذل . وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين . ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة : الفاقة . وقال عطية العوفي : الخراج . وقال الضحاك : الجزية .
وقوله تعالى : { وباءوا بغضب من الله } قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدث عليهم غضب من الله . وقال سعيد بن جبير : { وباءوا بغضب من الله } يقول : استوجبوا سخطا ، وقال ابن جرير : يعني بقوله : { وباءوا بغضب من الله } انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء . ومنه قوله تعالى : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } [ المائدة : 29 ] يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني . فمعنى الكلام إذا : فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط .
وقوله تعالى : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } يقول تعالى :
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبر أعظم من هذا ، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الكبر بطر الحق ، وغمط الناس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النجوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته من آخر حديثه ، وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال : لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : سفه الحق - وغمط الناس . يعني : رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيا ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين .
وقوله تعالى : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به . والله أعلم .

تفسير القرطبي : معنى الآية 61 من سورة البقرة


قوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدونقوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم ، فقالوا : لن نصبر على طعام واحد ، وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان ؛ لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، فلذلك قالوا : طعام واحد ، وقيل : لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة هو على أمر واحد لملازمته لذلك ، وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه ، وكذلك كانوا ، فهم أول من اتخذ العبيد والخدم .
قوله تعالى : على طعام الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب ، قال الله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني وقال : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا أي : ما شربوه من الخمر على - ما يأتي بيانه - وإن كان السلوى العسل كما حكى المؤرج فهو مشروب أيضا وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير الحديث .
والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام ، فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب ، والطعم ( بالفتح ) هو ما يؤديه الذوق ، يقال : طعمه مر والطعم أيضا ما يشتهى منه ، يقال : ليس له طعم ، وما فلان بذي طعم إذا كان غثا والطعم ( بالضم ) الطعام ، قال أبو خراش :أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهيإذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعمأراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ، ومنه قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني أي : من لم يذقه ، وقال : فإذا طعمتم فانتشروا أي : أكلتم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : إنها طعام طعم وشفاء سقم واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه ، وفي الحديث : إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يقول إذا استفتح فافتحوا عليه ، وفلان ما يطعم النوم إلا قائما ، وقال الشاعر :نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياماقوله تعالى : واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض لغة بني عامر " فادع " بكسر العين لالتقاء الساكنين يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف ، و " يخرج " مجزوم على معنى : سله وقل له أخرج يخرج ، وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج و " من " في قوله : " مما " زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه ؛ لأن الكلام موجب ، قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولا ، والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا ، ف " من " الأولى على هذا للتبعيض ، والثانية للتخصيص .
" من بقلها " بدل من " ما " بإعادة الحرف .
و " قثائها " عطف عليه ، وكذا ما بعده فاعلمه ، والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف ، لغتان ، والكسر أكثر ، وقيل في جمع قثاء : قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو ، تقول : أقثأت القوم أي : أطعمتهم ذلك .
وفثأت القدر سكنت غليانها بالماء ، قال الجعدي :تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلاوفثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه ، وعدا حتى أفثأ أي : أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي : سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم إن الرثيئة تفثأ في الغضب ، وأصله أن رجلا كان غضب على قوم ، وكان مع غضبه جائعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم .
الرثيئة اللبن المحلوب على الحامض ليخثر ، رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر ، والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر .
وروى ابن ماجه ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيحقوله تعالى : " وفومها " اختلف في الفوم ، فقيل : هو الثوم ؛ لأنه المشاكل للبصل ، رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا : مغافير ومغاثير ، وجدث وجدف للقبر ، وقرأ ابن مسعود " ثومها " بالثاء المثلثة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت :كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصلالفراديس واحدها فرديس وكرم مفردس أي : معرش .
وقال حسان :وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقليعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل وقيل : الفوم الحنطة روي عن ابن عباس - أيضا - وأكثر المفسرين ، واختاره النحاس قال : وهو أولى ، ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح ، وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء ، والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب ، وأنشد ابن عباس - لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة - قول أحيحة بن الجلاح :قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوموقال أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء ، وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة وأنشد الأخفش :قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوموقال ابن دريد الفومة السنبلة وأنشد :وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتانوالهاء في " كفه " غير مشبعة ، وقال بعضهم : الفوم الحمص - لغة شامية - وبائعه فامي مغير عن فومي ؛ لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري .
ويقال : فوموا لنا أي : اختبزوا .
قال الفراء : هي لغة قديمة .
وقال عطاء وقتادة : الفوم كل حب يختبز .
مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول ، فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به .
واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز وجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث .
ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال ( قربوها ) إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها ، قال : كل فإني أناجي من لا تناجي .
أخرجه مسلم وأبو داود .
فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره .
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل ففزع وصعد إليه فقال : أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ولكني أكرهه ) .
قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ( يعني يأتيه الوحي ) فهذا نص على عدم التحريم .
وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : أيها الناس ، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها فهذه الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك .
لكن قد علمنا هذا الحكم في حديثجابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال : من أكل من هذه البقلة الثوم ، وقال مرة من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول : إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم .
ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا .
خرجه مسلم .
قوله تعالى : وعدسها وبصلها العدس معروف .
والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت وعدس : زجر للبغال ، قال [ يزيد بن مفرغ ] :عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليقوالعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسه .
وعدس في الأرض : ذهب فيها .
وعدست إليه المنية أي : سارت ، قال الكميت :أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوسا إلي وعادساأي : يسار إلي بالليل .
وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري .
ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال : عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة ، فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم ، ذكره الثعلبي وغيره .
وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت ، ويوما بلحم ، ويوما بعدس .
قال الحليمي : والعدس والزيت طعام الصالحين ، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية .
وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم .
والحنطة من جملة الحبوب ، وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجلقوله تعالى : قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم .
وأدنى مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي : القرب في القيمة ، من قولهم : ثوب مقارب ، أي : قليل الثمن .
وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته .
وقيل : هو مأخوذ من الدون أي : الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفا لتطرفها .
وقرئ في الشواذ أدنى .
ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير .
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة :الأول : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج .
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل - كان أدنى في هذا الوجه .
الثالث : لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة .
الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب - كان أدنى .
الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في " المائدة " و " النحل " إن شاء الله مستوفى .
قوله تعالى : اهبطوا مصرا تقدم معنى الهبوط ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : قل كونوا حجارة أو حديدا لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم .
وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه .
و " مصرا " - بالتنوين منكرا - قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف ، قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين .
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : اهبطوا مصرا قال : مصرا من هذه الأمصار .
وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها .
استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه .
واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها .
قال الأخفش والكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد :لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلبفجمع بين اللغتين .
وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا ؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف .
وقال غير الأخفش : أراد المكان فصرف .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة : " مصر " بترك الصرف .
وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب وقراءة ابن مسعود .
وقالوا : هي مصر فرعون .
قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ، ذكره ابن عطية والمصر أصله في اللغة الحد .
ومصر الدار : حدودها .
قال ابن فارس ويقال : إن أهل هجر يكتبون في شروطهم " اشترى فلان الدار بمصورها " أي : حدودها ، قال عدي :وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلاقوله تعالى : فإن لكم ما سألتم " ما " نصب بإن ، وقرأ ابن وثاب والنخعي سألتم بكسر السين ، يقال : سألت وسلت بغير همز .
وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان .
ومعنى وضربت عليهم الذلة والمسكنة أي : ألزموهما وقضي عليهم بهما ، مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جرير :ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزلوضرب الحاكم على اليد ، أي : حمل وألزم .
والذلة : الذل والصغار .
والمسكنة : الفقر .
فلا يوجد يهودي ، وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته .
وقيل : الذلة فرض الجزية عن الحسن وقتادة .
والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون ، أي : قلل الفقر حركته ، قاله الزجاج .
وقال أبو عبيدة : الذلة الصغار .
والمسكنة مصدر المسكين .
وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس : وضربت عليهم الذلة والمسكنة قال : هم أصحاب القبالات .
قوله تعالى : وباءوا أي : انقلبوا ورجعوا ، أي : لزمهم ذلك .
ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : ( أبوء بنعمتك علي ) أي : أقر بها وألزمها نفسي .
وأصله في اللغة : الرجوع ، يقال : باء بكذا ، أي : رجع به ، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي : رجع .
والبواء : الرجوع بالقود .
وهم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء ، يرجعون فيه إلى معنى واحد .
وقال الشاعر :ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدمأي : لا يرجع الدم بالدم في القود .
وقال :فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفديناأي : رجعوا ورجعنا .
وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة .
قوله تعالى : ذلك ( ذلك ) تعليل .
بأنهم كانوا يكفرون أي : يكذبون بآيات الله أي : بكتابه ومعجزات أنبيائه ، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام .
ويقتلون النبيين معطوف على يكفرون .
وروي عن الحسن " يقتلون " وعنه أيضا كالجماعة .
وقرأ نافع " النبيئين " بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : إن وهبت نفسها للنبي إن أراد .
و لا تدخلوا بيوت النبي إلا فإنه قرأ بلا مد ولا همز .
وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين .
وترك الهمز في جميع ذلك الباقون .
فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر ، واسم فاعله منبئ .
ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبي نبآء ، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :يا خاتم النبآء إنك مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكاهذا معنى قراءة الهمز .
واختلف القائلون بترك الهمز ، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز ، ثم سهل الهمز .
ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر .
فالنبي من النبوة وهو الارتفاع ، فمنزلة النبي رفيعة .
والنبي بترك الهمز أيضا الطريق ، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق ، قال الشاعر [ أوس بن حجر ] :لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثبرتمت الشيء : كسرته ، يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعا .
والرتم أيضا المرتوم أي : المكسور .
والكاثب اسم جبل .
فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض .
ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله ولم يهمز .
قال أبو علي : ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح : يا خاتم النبآء ... ولم يؤثر في ذلك إنكار .
قوله تعالى : بغير الحق تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه .
فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به .
قيل له : ليس كذلك ، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق ، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن يقتل على الحق ، فصرح قوله : بغير الحق عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلي بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم .
قال ابن عباس والحسن : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
قوله تعالى : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ذلك رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه .
والباء في " بما " باء السبب .
قال الأخفش : أي : بعصيانهم .
والعصيان : خلاف الطاعة .
واعتصت النواة إذا اشتدت .
والاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء ، وعرف في الظلم والمعاصي .

﴿ وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ [ البقرة: 61]

سورة : البقرة - الأية : ( 61 )  - الجزء : ( 1 )  -  الصفحة: ( 9 )

English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

تفسير آيات من القرآن الكريم

  1. تفسير: قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى
  2. تفسير: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في
  3. تفسير: وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا
  4. تفسير: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
  5. تفسير: ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم
  6. تفسير: أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون
  7. تفسير: رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار
  8. تفسير: قل رب إما تريني ما يوعدون
  9. تفسير: من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا
  10. تفسير: من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل

تحميل سورة البقرة mp3 :

سورة البقرة mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة البقرة

سورة البقرة بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة البقرة بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة البقرة بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة البقرة بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة البقرة بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة البقرة بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة البقرة بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة البقرة بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة البقرة بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة البقرة بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري

موسى , طعام , واحد , الأرض , بقل , عدس , بصل , مصر , الذلة , المسكنة , غضب , آيات , الله , النبيين , الحق , تنبت+الأرض , بقلها+وقثائها+وفومها+وعدسها+وبصلها , أتستبدلون+الذي+هو+أدنى+بالذي+هو+خير , اهبطوا+مصرا+فإن+لكم+ما+سألتم , ضربت+عليهم+الذلة+والمسكنة , ضربت+عليهم+الذلة , يقتلون+النبيين+بغير+الحق ,

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب