تفسير الطبري تفسير الصفحة 9 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 9
010
008
 الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }
والقرية التـي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخـلوها, فـيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فـيـما ذكر لنا: بـيت الـمقدس. ذكر الرواية بذلك:
714ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة فـي قوله: ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال: بـيت الـمقدس.
715ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنـي عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدِي: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِذِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بـيت الـمقدس.
716ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعنـي بـيت الـمقدس.
717ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألته يعنـي ابن زيد عن قوله: ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال: هي أريحا, وهي قريبة من بـيت الـمقدس.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُـمْ رَغَدا.
يعنـي بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتـم عيشا هنـيا واسعا بغير حساب. وقد بـينا معنى الرغد فـيـما مضى من كتابنا, وذكرنا أقوال أهل التأويـل فـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا.
أما البـاب الذي أمروا أن يدخـلوه, فإنه قـيـل: هو بـاب الـحطة من بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك:
718ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: بـاب الـحطة من بـاب إيـلـياء من بـيت الـمقدس.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
719ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا أما البـاب فبـاب من أبواب بـيت الـمقدس.
720ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال حدثنـي أبـي عن أبـيه, عن ابن عبـاس قوله: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بـيت الـمقدس, وهو يدعى بـاب حطة.
وأما قوله: سُجّدا فإن ابن عبـاس كان يتأوّله بـمعنى الركع.
721ـ حدثنـي مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: ركعا من بـاب صغير.
حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي, قال: حدثنا أبو أسامة, عن سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن سعيد, عن ابن عبـاس فـي قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: أمروا أن يدخـلوا ركعا. وأصل السجود: الانـحناء لـمن سجد له معظما بذلك, فكل منـحن لشيء تعظيـما له فهو ساجد, ومنه قول الشاعر:
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِـي حَجَرَاتِهِتَرَى أُلاكْمَ فِـيهِ سُجّدا للْـحَوَافِرِ )
يعنـي بقوله: سجدا: خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بنـي قـيس بن ثعلبة:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الـمَلِـيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُءَوارَا
فذلك تأويـل ابن عبـاس قوله: سُجّدا ركعا, لأن الراكع منـحن, وإن كان الساجد أشدّ انـحناء منه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقُولُوا حِطّةٌ.
وتأويـل قوله: حِطّةٌ: فعلة, من قول القائل: حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة, بـمنزلة الردة والـحدّة والـمدة من حددت ومددت.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـله, فقال بعضهم بنـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك منهم:
722ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أنبأنا معمر: وَقُولُوا حِطّةٌ قال الـحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا.
723ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَقُولُوا حِطّةٌ: يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم.
724ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: قُولُوا حِطّةٌ قال: يحطّ عنكم خطاياكم.
725ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس قوله: حِطّةٌ: مغفرة.
726ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع قوله: حِطّةٌ قال: يحطّ عنكم خطاياكم.
727ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: أخبرنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال لـي عطاء فـي قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا لا إلَه إلا الله. كأنهم وجهوا تأويـله: قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم, وهو قول لا إلَه إلا الله. ذكر من قال ذلك:
728ـ حدثنـي الـمثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الـحكم الـمصري, قالا: أخبرنا حفص بن عمر, حدثنا الـحكم بن أبـان, عن عكرمة: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: قولوا لا إلَه إلا الله.
وقال آخرون بـمثل معنى قول عكرمة, إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقـيـله الاستغفـار. ذكر من قال ذلك:
729ـ حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي, حدثنا أبو أسامة, عن سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: أمروا أن يستغفروا.
وقال آخرون نظير قول عكرمة, إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولون هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قـيـل لكم. ذكر من قال ذلك:
730ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: قولوا هذا الأمر حقّ كما قـيـل لكم.
واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي من أجله رفعت الـحطة, فقال بعض نـحويـي البصرة: رفعت الـحطة بـمعنى «قولوا» لـيكن منكم حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلـمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة, وفرض علـيهم قـيـلها كذلك.
وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: رفعت الـحطة بضمير «هذه», كأنه قال: وقولوا هذه حطة.
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الـخبر, كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل«ما».
والذي هو أقرب عندي فـي ذلك إلـى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب, أن يكون رفع حطة بنـية خبر مـحذوف قد دل علـيه ظاهر التلاوة, وهو دخولنا البـاب سجدا حطة, فكفـى من تكريره بهذا اللفظ ما دل علـيه الظاهر من التنزيـل, وهو قوله: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلـى رَبّكُمْ يعنـي موعظتنا إياهم معذرة إلـى ربكم. فكذلك عندي تأويـل قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ يعنـي بذلك: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ... وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا, وهذا القول علـى نـحو تأويـل الربـيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفـا.
وأما علـى تأويـل قول عكرمة, فإن الواجب أن تكون القراءة بـالنصب فـي «حطة», لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: لا إلَه إلا الله, أو أن يقولوا: نستغفر الله, فقد قـيـل لهم: قولوا هذا القول, ف«قولوا» واقع حينئذٍ علـى الـحطة, لأن الـحطة علـى قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا الله, وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا الله, فـالقول علـيها واقع, كما لو أمر رجل رجلاً بقول الـخير, فقال له: «قل خيرا» نصبـا, ولـم يكون صوابـا أن يقول له «قل خير» إلا علـى استكراه شديد.
وفـي إجماع القراء علـى رفع «الـحطة» بـيان واضح علـى خلاف الذي قاله عكرمة من التأويـل فـي قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ. وكذلك الواجب علـى التأويـل الذي رويناه عن الـحسن وقتادة فـي قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة فـي «حطة» نصبـا, لأن من شأن العرب إذا وضعوا الـمصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا الـمصادر, كما قال الشاعر:
أُبِـيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْعلـى أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبـا شآمِيَا
وكقول القائل للرجل: سمعا وطاعة, بـمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة, وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذ الله بـمعنى: نعوذ بـالله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: نَغْفِرْ لَكُمْ.
يعنـي بقوله: نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بـالرحمة خطاياكم ونسترها علـيكم, فلا نفضحكم بـالعقوبة علـيه. وأصل الغفر: التغطية والستر, فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قـيـل للبـيضة من الـحديد التـي تتـخذ جنة للرأس «مِغْفر», لأنها تغطي الرأس وتُـجِنّه, ومثله غمد السيف, وهو ما يغمده فـيواريه ولذلك قـيـل لزئبر الثوب «عَفْرة», لتغطيته الثوب, وحَوْلِه بـين الناظر والنظر إلـيها. ومنه قول أوس بن حجر:
فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاًوأغْفِرُ عَنْهُ الـجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ
يعنـي بقوله: وأغفر عنه الـجهل: أستر علـيه جهله بحلـمي عنه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: خَطاياكُمْ والـخطايا جمع خطية بغير همز كما الـمطايا جمع مطية, والـحشايا جمع حشية. وإنـما ترك جمع الـخطايا بـالهمز, لأن ترك الهمز فـي خطيئة أكثر من الهمز, فجمع علـى خطايا, علـى أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت الـخطايا مـجموعة علـى خطيئة بـالهمز لقـيـل خطائي علـى مثل قبـيـلة وقبـائل, وصحيفة وصحائف. وقد تـجمع خطيئة بـالتاء فـيهمز فـيقال خطيئات, والـخطيئة فعلـية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً, وذلك إذا عدل عن سبـيـل الـحق. ومنه قول الشاعر:
وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفـاهُلَعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابَـا
يعنـي أضلا الـحقّ وأثما.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَسَنَزِيدُ الـمُـحْسِنِـينَ.
وتأويـل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عبـاس, وهو ما:
731ـ حدثنا به القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: وَسَنَزِيدُ الـمُـحْسِنِـينَ: من كان منكم مـحسنا زيد فـي إحسانه, ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويـل الآية: وإذْ قلنا ادخـلوا هذه القرية مبـاحا لكم كل ما فـيها من الطيبـات, موسعا علـيكم بغير حساب, وادخـلوا البـاب سجدا, وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا, نتغمد لكم ذنوب الـمذنب منكم, فنسترها علـيه, ونـحطّ أوزاره عنه, وسنزيد الـمـحسنـين منكم إلـى إحساننا السالف عنده إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيـم جهالتهم, وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبـيائهم واستهزائهم برسله, مع عظيـم آلاء الله عز وجل عندهم, وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره, موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات, ومعلـمهم أنهم إن تعدّوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيـم إحسان الله بـمبعثه فـيهم إلـيهم, وعجائب ما أظهر علـى يديه من الـحجج بـين أظهرهم, أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم. وقصّ علـينا أنبـاءهم فـي هذه الاَيات, فقال جل ثناؤه: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية.
الآية : 59
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
وتأويـل قوله: فَبَدّلَ فغير. ويعنـي بقوله: الّذِينَ ظَلَـمُوا الذين فعلوا ما لـم يكن لهم فعله. ويعنـي بقوله: قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ بدلوا قولاً غير الذي أمروا أن يقولوه فقالوا خلافه, وذلك هو التبديـل والتغيـير الذي كان منهم. وكان تبديـلهم بـالقول الذي أمروا أن يقولوه قولاً غيره, ما:
732ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبـا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال اللّهُ لِبَنِـي إسْرَائِيـلَ: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ نَغْفِرُ لَكُمْ خَطاياكُمْ, فَبدلُوا وَدَخَـلُوا البـابَ يَزْحَفُونَ علـى أسْتاهِهِمْ وقالُوا: حَبّةٌ فـي شَعِيرَةٍ».
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة وعلـيّ بن مـجاهد, قالا: حدثنا مـحمد بن إسحاق, عن صالـح بن كيسان, عن صالـح مولـى التوأمة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم. قال:
733ـ حدثت عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبـير, أو عن عكرمة, عن ابن عبـاس عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَخَـلُوا البـابَ الّذِي أُمِرُوا أنْ يَدْخُـلُوا مِنْهُ سُجّدا يَزْحُفُونَ علـى أسْتاهِهِمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِـي شَعِيرةٍ».
734ـ وحدثنـي مـحمد بن عبد الله الـمـحاربـي, قال: حدثنا عبد الله بن الـمبـارك, عن معمر, عن همام, عن أبـي هريرة, عن النبـي صلى الله عليه وسلم فـي قوله: حِطّةٌ قال: «بدّلوا فقالوا: حبة».
735ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفـيان, عن السدي, عن أبـي سعيد عن أبـي الكنود, عن عبد الله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّة قالوا: حنطة حمراء فـيها شعيرة, فأنزل الله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
736ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس فـي قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: ركوعا من بـاب صغير. فجعلوا يدخـلون من قِبَلِ أستاههم. ويقولون حنطة فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي, قال: حدثنا أبو أسامة, عن سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن سعيد, عن ابن عبـاس, قال: أمروا أن يدخـلوا ركعا, ويقولوا حطة قال: أمروا أن يستغفروا قال: فجعلوا يدخـلون من قبل أستاههم من بـاب صغير ويقولون حنطة يستهزئون, فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
737ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة والـحسن: ادْخُـلُوا البـابَ سُجدا قالا: دخـلوها علـى غير الـجهة التـي أمروا بها, فدخـلوها متزحفـين علـى أوراكهم, وبدلوا قولاً غير الذي قـيـل لهم, فقالوا: حبة فـي شعيرة.
738ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا البـاب سجدا ويقولوا حطة, وطُؤْطِىءَ لهم البـاب لـيسجدوا فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أدبـارهم وقالوا حنطة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا الـمسجد ويقولوا حطة, وطؤطىء لهم البـاب لـيخفضوا رءوسهم, فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أستاههم إلـى الـجبل, وهو الـجبل الذي تـجلـى له ربه وقالوا: حنطة. فذلك التبديـل الذي قال الله عز وجل: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
739ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: «هطى سمقا يا ازبة هزبـا», وهو بـالعربـية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فـيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
740ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفـيان, عن الأعمش, عن الـمنهال, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس: وَادْخُـلُوا البـاب سُجّدا قال: فدخـلوا علـى أستاههم مُقْنِعي رءوسهم.
741ـ حدثنا سفـيان بن وكيع, قال: حدثنا أبـي النضر بن عديّ, عن عكرمة: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا فدخـلوا مقنعى رءوسهم, وَقُولُوا حِطّة فقالوا: حنطة حمراء فـيها شعيرة, فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
742ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع بن أنس: وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ قال: فكان سجود أحدهم علـى خده, وقُولُوا حِطّة نـحطّ عنكم خطاياكم, فقالوا: حنطة, وقال بعضهم: حبة فـي شعيرة. فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ.
743ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم. قال: فـاستهزءوا به يعنـي بـموسى وقالوا: ما يشاء موسى أن يـلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أيّ شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة.
744ـ حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنـي الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, وقال ابن عبـاس: لـما دخـلوا قالوا: حبة فـي شعيرة.
حدثنـي مـحمد بن سعيد, قال: حدثنـي أبـي سعيد بن مـحمد بن الـحسن, قال: أخبرنـي عمي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـما دخـلوا البـاب قالوا حبة فـي شعيرة, فبدلوا قولاً غير الذي قـيـل لهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأنْزلْنا عَلـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ.
يعنـي بقوله: فأنْزَلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا علـى الذين فعلوا ما لـم يكن لهم فعله من تبديـلهم القول الذي أمرهم الله جل وعزّ أن يقولوه قولاً غيره, ومعصيتهم إياه فـيـما أمرهم به وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه رِجْزا مِنَ السمّاءِ بِـما كانُوا يَفْسُقُونَ. والرّجز فـي لغة العرب: العذاب, وهو غير الرّجْز, وذلك أن الرّجز: البَثْر, ومنه الـخبر الذي رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم فـي الطاعون أنه قال: «إنّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ أُلامَـمِ الّذِينَ قَبْلَكُمْ».
745ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس, عن ابن شهاب, قال: أخبرنـي عامر بن سعد بن أبـي وقاص, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنّ هَذا الوَجَعَ أوِ السّقْمَ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ أُلامَـمِ قَبْلَكُمْ».
746ـ وحدثنـي أبو شيبة بن أبـي بكر بن أبـي شيبة, قال: حدثنا عمر بن حفص, قال: حدثنا أبـي عن الشيبـانـي عن ربـاح بن عبـيدة, عند عامر بن سعد, قال: شهدت أسامة بن زيد عن سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ الطّاعُونَ رِجْز أُنْزِلَ علـى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أوْ علـى بَنِـي إسْرائيـلَ».
وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
747ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر, عن قتادة فـي قوله: رِجْزا قال: عذابـا.
748ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم العسقلانـي, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: فأنْزلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ قال: الرجز: الغضب.
749ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لـما قـيـل لبنـي إسرائيـل: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيرَ الّذِي قِـيـلَ لَهُمْ بعث الله جل وعز علـيهم الطاعون, فلـم يبق منهم أحدا. وقرأ: فأنْزَلْنَا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ بِـما كانُوا يَفْسُقُونَ. قال: وبقـي الأبناء, ففـيهم الفضل والعبـادة التـي توصف فـي بنـي إسرائيـل والـخير, وهلك الاَبـاء كلهم, أهلكهم الطاعون.
750ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الرجز: العذاب, وكل شيء فـي القرآن رجز فهو عذاب.
751ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: رِجْزا قال: كل شيء فـي كتاب الله من الرجز, يعنـي به العذاب.
وقد دللنا علـى أن تأويـل الرجز: العذاب. وعذابُ الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل علـى الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء, وجائز أن يكون ذلك طاعونا, وجائز أن يكون غيره, ولا دلالة فـي ظاهر القرآن ولا فـي أثر عن الرسول ثابت أيّ أصناف ذلك كان.
فـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجل: فأنْزَلْنا عَلَـيْهِمْ رِجْزا مِنَ السّماءِ بفسقهم. غير أنه يغلب علـى النفس صحة ما قاله ابن زيد للـخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي إخبـاره عن الطاعون أنه رجز, وأنه عذّب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقـينا لأن الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بـيان فـيه أيّ أمة عذّبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذّبوا به كانوا غير الذين وصف الله صفتهم فـي قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الذي قِـيـلَ لَهُمْ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن معنى الفسق: الـخروج من الشيء. فتأويـل قوله: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ إذا بـما كانوا يتركون طاعة الله عزّ وجلّ, فـيخرجون عنها إلـى معصيته وخلاف أمره.
الآية : 60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ }
عنـي بقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ: وإذ استسقانا موسى لقومه: أي سألنا أن نسقـي قومه ماء. فترك ذكر الـمسؤول ذلك, والـمعنى الذي سأل موسى, إذ كان فـيـما ذكر من الكلام الظاهر دلالة علـى معنى ما ترك. وكذلك قوله: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فَـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا مـما استغنـي بدلالة الظاهر علـى الـمتروك منه. وذلك أن معنى الكلام, فقلنا: اضرب بعصاك الـحجر, فضربه فـانفجرت. فترك ذكر الـخبر عن ضرب موسى الـحجر, إذ كان فـيـما ذكر دلالة علـى الـمراد منه. وكذلك قوله: قَدْ عَلِـمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إنـما معناه: قد علـم كل أناس منهم مشربهم, فترك ذكر منهم لدلالة الكلام علـيه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الناس جمع لا واحد له من لفظه, وأن الإنسان لو جمع علـى لفظه لقـيـل: أناسيّ وأناسية. وقوم موسى هم بنو إسرائيـل الذين قصّ الله عز وجل قصصهم فـي هذه الاَيات, وإنـما استسقـى لهم ربه الـماء فـي الـحال التـي تاهوا فـيها فـي التـيه, كما:
752ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد بن أبـي عروبة, عن قتادة قوله: وَإِذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ الآية قال: كان هذا إذ هم فـي البرية اشتكوا إلـى نبـيهم الظمأ, فأمروا بحجر طوريّ أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه, فكانوا يحملونه معهم, فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه, فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا, لكل سبط عين معلومة مستفـيض ماؤها لهم.
753ـ حدثنـي تـميـم بن الـمنتصر, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: حدثنا أصبغ بن زيد, عن القاسم بن أبـي أيوب, عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: ذلك فـي التـيه ظلل علـيهم الغمام, وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى, وجعل لهم ثـيابـا لا تبلـى ولا تتسخ, وجعل بـين ظهرانـيهم حجر مربّع, وأمر موسى فضرب بعصاه الـحجر, فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فـي كل ناحية منه ثلاث عيون, لكل سبط عين, ولا يرتـحلون مَنْقلة إلا وجدوا ذلك الـحجر معهم بـالـمكان الذي كان به معهم فـي الـمنزل الأول.
754ـ حدثنـي عبد الكريـم, قال: أخبرنا إبراهيـم بن بشار, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي سعيد, عن عكرمة عن ابن عبـاس, قال: ذلك فـي التـيه, ضرب لهم موسى الـحجر, فصار فـيه اثنتا عشرة عينا من ماء, لكل سبط منهم عين يشربون منها.
755ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا لكل سبط منهم عين, كل ذلك كان فـي تـيههم حين تاهوا.
حدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: وَإذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ قال: خافوا الظمأ فـي تـيههم حين تاهوا, فـانفجر لهم الـحجر اثنتـي عشرة عينا ضربه موسى. قال ابن جريج, قال ابن عبـاس: الأسبـاط: بنو يعقوب كانوا اثنـي عشر رجلاً كل واحد منهم ولد سبطا أمّة من الناس.
756ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: استسقـى لهم موسى فـي التـيه, فسقوا فـي حجر مثل رأس الشاة. قال: يـلقونه فـي جوانب الـجوالق إذا ارتـحلوا, ويقرعه موسى بـالعصا إذا نزل, فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا, لكل سبط منهم عين. فكان بنو إسرائيـل يشربون منه, حتـى إذا كان الرحيـل استـمسكت العيون, وقـيـل به فألقـي فـي جانب الـجوالق, فإذا نزل رُمي به. فقرعه بـالعصا, فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
757ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنـي أسبـاط, عن السدي, قال: كان ذلك فـي التـيه.
وأما قوله: قَدْ عَلِـمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فإنـما أخبر الله عنهم بذلك, لأن معناهم فـي الذي أخرج الله جل وعز لهم من الـحجر الذي وصف جل ذكره فـي هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفـا معانـي سائر الـخـلق عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويـل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الـحَجَرَ فضربه فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا, قد علـم كل أناس مشربهم, فقـيـل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم فـي التـيه من الـمنّ والسلوى, وبشرب ما فجر لهم فـيه من الـماء من الـحجر الـمتعاور الذي لا قرار له فـي الأرض ولا سبـيـل إلـيه لـمالكيه يتدفق بعيون الـماء ويزخر بـينابـيع العذب الفرات بقدرة ذي الـجلال والإِكرام ثم تقدم جل ذكره إلـيهم مع إبـاحتهم ما أبـاح وإنعامه علـيهم بـما أنعم به علـيهم من العيش الهنـيء بـالنهي عن السعي فـي الأرض فسادا والعثا فـيها استكبـارا فقال جل ثناؤه: لهم ولا تعثوا فـي الأرض مفسدين القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ولا تعثوا فـي الأرض مفسدين} يعنـي بقوله لا تعثوا لا تطغوا ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين كما:
758ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
759ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا, ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما:
760ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
761ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا, ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما:
762ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
763ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا, ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما:
764ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
765ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا, ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما:
766ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
767ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا, ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما:
768ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا.
769ـ حد لن نطيق حبس أنفسنا علـى طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه فـي تـيههم وهو السلوى فـي قول بعض أهل التأويـل, وفـي قول وهب بن منبه هو الـخبز النّقـيّ مع اللـحم فـاسأل لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من البقل والقثاء. وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فـيـما بلغنا, ما:
770ـ حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِر علـى طَعامٍ وَاحِدٍ قال: كان القوم فـي البرية قد ظلل علـيهم الغمام, وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى, فملوا ذلك, وذكروا عيشا كان لهم بـمصر, فسألوه موسى, فقال الله تعالـى: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ قال: ملوا طعامهم, وذكروا عيشهم الذي كانوا فـيه قبل ذلك, قالُوا ادْعُ لَنّا ربّكَ يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائِها وَفُومِها... الآية.
771ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ علـى طعَامٍ وَاحِدٍ قال: كان طعامهم السلوى, وشرابهم الـمنّ, فسألوا ما ذكر, فقـيـل لهم: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
قال أبو جعفر, وقال قتادة: إنهم لـما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التـي كانوا يأكلونها, فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِها وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا وكانوا قد ظلل علـيهم الغمام وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى, فملوا ذلك, وذكروا عيشا كانوا فـيه بـمصر.
772ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, قال: سمعت ابن أبـي نـجيح فـي قوله عزّ وجل: لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ الـمنّ والسلوى, فـاستبدلوا به البقل وما ذكر معه.
773ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد بـمثله سواء.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد بـمثله.
774ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: أعطوا فـي التـيه ما أعطوا, فملوا ذلك.
الآية : 61
تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
775ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أنبأنا ابن زيد, قال: كان طعام بنـي إسرائيـل فـي التـيه واحدا, وشرابهم واحدا, كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له الـمنّ, وطعامهم طير يقال له السلوى, يأكلون الطير ويشربون العسل, لـم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى إنا لن نصبر علـى طعام واحد, فـادع لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتـى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
وإنـما قال جل ذكره: يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ولـم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه لـيخرج لهم من الأرض, فـيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مـما تنبته الأرض من بقلها وقثائها, لأن «من» تأتـي بـمعنى التبعيض لـما بعدها, فـاكْتُفـي بها عن ذكر التبعيض, إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بـالكلام الذي هي فـيه كقول القائل: أصبح الـيوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه.
وقد قال بعضهم: «من» ههنا بـمعنى الإلغاء والإسقاط, كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد علـى ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد, بـمعنى: ما رأيت أحدا, وبقول الله: وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئَاتِكُمْ وبقولهم: قد كان من حديث, فخـلّ عنـي حتـى أذهب, يريدون: قد كان حديث.
وقد أنكر من أهل العربـية جماعة أن تكون «من» بـمعنى الإلغاء فـي شيء من الكلام, وادّعُوا أنّ دخولها فـي كل موضع دخـلت فـيه مؤذن أن الـمتكلـم مريد لبعض ما أدخـلت فـيه لا جميعه, وأنها لا تدخـل فـي موضع إلا لـمعنى مفهوم.
فتأويـل الكلام إذا علـى ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فـادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل, هو ما قد عرفه الناس بـينهم من نبـات الأرض وحبها. وأما الفوم, فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيه. فقال بعضهم: هو الـحنطة والـخبز. ذكر من قال ذلك.
776ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد ومؤمل, قالا: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء, قال: الفوم: الـخبز.
حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, حدثنا سفـيان, عن ابن جريج, عن عطاء ومـجاهد قوله: وَفُومِها قالا: خبزها.
حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة ومـحمد بن عمرو, قالا: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميـمون, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَفُومِها قال: الـخبز.
777ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة والـحسن: الفوم: هو الـحبّ الذي تـختبزه الناس.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة والـحسن بـمثله.
778ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن أبـي مالك فـي قوله: وَفُومِها قال: الـحنطة.
779ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي: وَفُومِهَا الـحنطة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيـم, عن يونس, عن الـحسن وحصين, عن أبـي مالك فـي قوله: وَفُومِها: الـحنطة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن قتادة قال: الفوم: الـحبّ الذي يختبز الناس منه.
حدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال لـي عطاء بن أبـي ربـاح قوله: وَفُومِها قال: خبزها. قالها مـجاهد.
780ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال لـي ابن زيد: الفوم: الـخبز.
781ـ حدثنـي يحيى بن عثمان السهمي, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَفُومِها يقول: الـحنطة والـخبز.
حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَفُومِها قال: هو البرّ بعينه الـحنطة.
حدثنا علـيّ بن الـحسن, قال: حدثنا مسلـم الـجرمي, قال: حدثنا عيسى بن يونس, عن رشدين بن كريب, عن أبـيه, عن ابن عبـاس فـي قول الله عزّ وجل: وَفُومِها قال: الفوم: الـحنطة بلسان بنـي هاشم.
782ـ حدثنـي عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا عبد العزيز بن منصور, عن نافع بن أبـي نعيـم أن عبد الله بن عبـاس سئل عن قول الله: وَفُومِها قال: الـحنطة, أما سمعت قول أحيحة بن الـجلاح وهو يقول:
قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصا وَاحداوَرَدَ الـمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك:
783ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: هو هذا الثوم.
784ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, قال: الفوم: الثوم.
وهو فـي بعض القراءات «وثومها». وقد ذكر أن تسمية الـحنطة والـخبز جميعا فوما من اللغة القديـمة, حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا, بـمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها» بـالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الـحروف الـمبدلة, كقولهم: وقعوا فـي عاثور شرّ وعافور شرّ, وكقولهم للأثافـي أثاثـي, وللـمغافـير مغاثـير, وما أشبه ذلك مـما تقلب الثاء فـاء والفـاء ثاء لتقارب مخرج الفـاء من مخرج الثاء. والـمغافـير شبـيه بـالشيء الـحلو يشبه بـالعسل ينزل من السماء حلوا يقع علـى الشجر ونـحوها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ.
يعنـي بقوله: قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقـيـمة وقدرا من العيش, بدلاً بـالذي هو خير منه خطرا وقـيـمة وقدرا وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لاَخر غيره مكان الـمتروك. ومعنى قوله: أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا, وأصله من قولهم: هذا رجل دنـيّ بـيّن الدناءة, وإنه لـيدنـي فـي الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب فـي ذلك سماعا منهم, يقولون: ما كنت دنـيا ولقد دنأت. وأنشدنـي بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بنـي كلاب ينشد بـيت الأعشى:
بـاسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِـيـلُهابِـيضٌ إلـى دانِئها الظّاهرِ
بهمز الدانىء, وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانىء خبـيث, بـالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحا, فـالهمز فـيه لغة وتركه أخرى.
ولا شكّ أن من استبدل بـالـمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم, فقد استبدل الوضيع من العيش بـالرفـيع منه.
وقد تأول بعضهم قوله: الّذي هُوَ أدْنَى بـمعنى الذي هو أقرب, ووجه قوله: أدنى إلـى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بـمعنى القرب. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قاله عدد من أهل التأويـل فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك:
785ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قال: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ يقول: أتستبدلون الذي هو شرّ بـالذي هو خير منه؟.
786ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج, عن مـجاهد قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قال: أردأ.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
وتأويـل ذلك: فدعا موسى فـاستـجبنا له, فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من الـمـحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره علـى ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الهبوط إلـى الـمكان إنـما هو النزول إلـيه والـحلول به.
فتأويـل الآية إذا: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ فـادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بـالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه, فـاستـجاب الله له دعاءه, فأعطاهم ما طلبوا, وقال الله لهم: اهْبُطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
ثم اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: مِصْرا فقرأه عامة القرّاء: «مصرا» بتنوين الـمصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه, فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه, فتأويـله علـى قراءتهم: اهبطوا مصرا من الأمصار, لأنكم فـي البدو, والذي طلبتـم لا يكون فـي البوادي والفـيافـي, وإنـما يكون فـي القرى والأمصار, فإن لكم إذا هبطتـموه ما سألتـم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بـالإجراء والتنوين, كان تأويـل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التـي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر» التـي خرجوا عنها, غير أنه أجراها ونوّنها اتبـاعا منه خط الـمصحف, لأن فـي الـمصحف ألفـا ثابتة فـي مصر, فـيكون سبـيـل قراءته ذلك بـالإجراء والتنوين سبـيـل من قرأ: قَوَارِيرا قَوَارِيرا مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتبـاعا منه خط الـمصحف. وأما الذي لـم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التـي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك نظير اختلاف القرّاء فـي قراءته.
787ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: اهْبِطُوا مِصْرا أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.
788ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: اهْبُطُوا مِصْرا من الأمصار, فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ فلـما خرجوا من التـيه رفع الـمنّ والسلوى وأكلوا البقول.
وحدثنـي الـمثنى, قال: حدثنـي آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة فـي قوله: اهْبُطُوا مِصْرا قال: يعنـي مصرا من الأمصار.
789ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار, زعموا أنهم لـم يرجعوا إلـى مصر.
790ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار. ومصر لا تـجري فـي الكلام, فقـيـل: أيّ مصر؟ فقال: الأرض الـمقدسة التـي كتب الله لهم. وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ.
وقال آخرون: هي مصر التـي كان فـيها فرعون. ذكر من قال ذلك:
791ـ حدثنـي الـمثنى, حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: اهْبِطُوا مِصْرا قال: يعنـي به مصر فرعون.
792ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, عن ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع, مثله.
ومن حجة من قال: إن الله جل ثناؤه إنـما عنى بقوله: اهْبُطُوا مِصْرا مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها, أن الله جعل أرض الشام لبنـي إسرائيـل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر, وإنـما ابتلاهم بـالتـيه بـامتناعهم علـى موسى فـي حرب الـجبـابرة إذ قال لهم: يا قَوْمُ ادْخُـلُوا الأرْضُ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّهُ لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا علـى أدْبـارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِـيهَا قَوْما جَبّـارِينَ إلـى قوله: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا ما دَامُوا فِـيها فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ. فحرّم الله جل وعز علـى قائل ذلك فـيـما ذكر لنا دخولها حتـى هلكوا فـي التـيه وابتلاهم بـالتـيهان فـي الأرض أربعين سنة, ثم أهبط ذرّيتهم الشام, فأسكنهم الأرض الـمقدسة, وجعل هلاك الـجبـابرة علـى أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفـاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض الـمقدسة, ولـم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلـى مصر بعد إخراجه إياهم منها, فـيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر, ونتأوّله أنه ردّهم إلـيها.
قالوا: فإن احتـجّ مـحتـجّ بقول الله جل ثناؤه: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِـي إسْرَائِيـلَ. قـيـل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنـما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولـم يردّهم إلـيها, وجعل مساكنهم الشأم.
وأما الذين قالوا: إن الله إنـما عنى بقوله جل وعز: اهْبِطُوا مِصْرا مِصْرَ, فإن من حجتهم التـي احتـجوا بها الآية التـي قال فـيها: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِـي إسْرَائِيـلَ وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِـيها فـاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ. قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم, فلـم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بـمصير بعضهم إلـيها, وإلا فلا وجه للانتفـاع بها إن لـم يصيروا أو يصر بعضهم إلـيها. قالوا: وأخرى أنها فـي قراءة أبـيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: «اهْبِطُوا مِصْرَ» بغير ألف, قالوا: ففـي ذلك الدلالة البـينة أنها مصر بعينها.
والذي نقول به فـي ذلك أنه لا دلالة فـي كتاب الله علـى الصواب من هذين التأويـلـين, ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مـجيئه العذر, وأهل التأويـل متنازعون تأويـله.
فأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبـات الأرض علـى ما بـينه الله جل وعز فـي كتابه وهم فـي الأرض تائهون, فـاستـجاب الله لـموسى دعاءه, وأمره أن يهبط بـمن معه من قومه قرارا من الأرض التـي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك, إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إلـيه, وجائز أن يكون ذلك القرار مصر, وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بـالألف والتنوين: اهْبِطُوا مِصْرا وهي القرائة التـي لا يجوز عندي غيرها لاجتـماع خطوط مصاحف الـمسلـمين, واتفـاق قراءة القراء علـى ذلك. ولـم يقرأ بترك التنوين فـيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به علـى الـحجة فـيـما جاءت به من القراءة مستفـيضا بـينها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَضُرِبَتْ أي فُرضت, ووضعت علـيهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الـجزية علـى أهل الذمة, وضرب الرجل علـى عبده الـخراج يعنـي بذلك وضعه فألزمه إياه, ومن قولهم: ضرب الأمير علـى الـجيش البعث, يراد به ألزمهموه.
وأما الذلة, فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة, كالصغرة من صغر الأمر, والقعدة من قعد, والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عبـاده الـمؤمنـين أن لا يعطوهم أمانا علـى القرار علـى ماهم علـيه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الـجزية علـيه لهم, فقال جل وعز: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّهِ وَلاَ بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. كما:
793ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن وقتادة فـي قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ قالا: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون.
وأما الـمسكنة, فإنها مصدر الـمسكين, يقال: ما فـيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تـمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تـمسكن تـمسكنا. والـمسكنة فـي هذا الـموضع مسكنة الفـاقة والـحاجة, وهي خشوعها وذلها, كما:
794ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفـاقة.
795ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفقر.
796ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال هؤلاء يهود بنـي إسرائيـل. قلت له: هم قبط مصر, قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم, ولكنهم الـيهود يهود بنـي إسرائيـل. فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بـالعزّ ذلاّ, وبـالنعمة بؤسا, وبـالرضا عنهم غضبـا, جزاءً منه لهم علـى كفرهم بآياته وقتلهم أنبـياءه ورسله اعتداءً وظلـما منهم بغير حقّ, وعصيانهم له, وخلافـا علـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبَـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ انصرفوا ورجعوا, ولا يقال بـاءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ, يقال منه: بـاء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً. ومنه قول الله عزّ وجلّ إنـي أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يعنـي: تنصرف متـحملهما وترجع بهما قد صارا علـيك دونـي.
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفـين متـحملـين غضب الله, قد صار علـيهم من الله غضب, ووجب علـيهم منه سخط. كما:
797ـ حدثت عن عمار بن الـحسن, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع فـي قوله: وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِن اللّهِ فحدث علـيهم غضب من الله.
798ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك فـي قوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ قال: استـحقوا الغضب من الله.
وقدمنا معنى غضب الله علـى عبده فـيـما مضى من كتابنا هذا, فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ.
قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: «ذلك» ضرب الذلة والـمسكنة علـيهم, وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: «ذلك» وهي يعنـي به ما وصفنا علـى أن قول القائل ذلك يشمل الـمعانـي الكثـيرة إذا أشير به إلـيها.
ويعنـي بقوله: بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ: من أجل أنهم كانوا يكفرون, يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والـمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله, ويقتلون النبـيـين بغير الـحقّ, كما قال أعشى بنـي ثعلبة:
مَلِـيكِيّةٌ جَاوَرتْ بـالـحِجَازِ قَوما عُداةً وأرْضا شَطِيرا
بِـمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطاوَرَوْضَ التّناضِبِ حتّـى تَصِيرَا
يعنـي بذلك: جاورتْ بهذا الـمكان هذه الـمرأةُ قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله لـمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ والـمَسْكَنَةُ وبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلكَ بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا, وجزاء لهم بقتلهم أنبـياءنا. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره, وأن آيات الله: حججه وأعلامه وأدلته علـى توحيده وصدق رسله.
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله علـى توحيده, وتصديق رسله ويدفعون حقـيتها, ويكذبون بها.
ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنبـاء ما أرسلهم به عنه لـمن أرسلوا إلـيه. وهم جماع واحدهم نبـيّ غير مهموز, وأصله الهمز, لأنه من أنبأ عن الله, فهو يُنْبِىء عنه إنبـاء, وإنـما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو «مُفعِل» إلـى «فَعِيـل», كما صرف سميع إلـى فعيـل من مفعل, وبصير من مبصر, وأشبـاه ذلك, وأبدل مكان الهمزة من النبىء الـياء, فقـيـل نبـي هذا. ويجمع النبـيّ أيضا علـى أنبـياء, وإنـما جمعوه كذلك لإلـحاقهم النبـيء بإبدال الهمزة منه ياء بـالنعوت التـي تأتـي علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو, وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو جمعوه علـى أفعلاء, كقولهم ولـي وأولـياء, ووصي وأوصياء, ودعيّ وأدعياء, ولو جمعوه علـى أصله الذي هو أصله, وعلـى أن الواحد «نبـيء» مهموز لـجمعوه علـى فعلاء, فقـيـل لهم النبآء, علـى مثال النبغاء, لأن ذلك جمع ما كان علـى فعيـل من غير ذوات الـياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء, والعلـيـم علـماء, والـحكيـم حكماء, وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب فـي جمع النبـي النبآء, وذلك من لغة الذين يهمزون النبـيء, ثم يجمعونه علـى النبآء علـى ما قد بـينت, ومن ذلك قول عبـاس بن مرداس فـي مدح النبـيّ صلى الله عليه وسلم:
يا خاتـمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَلبـالـخَير كُلّ هُدى السّبِـيـلِ هُدَاكَا
فقال: يا خاتـم النبآء, علـى أن واحدهم نبـيء مهموز. وقد قال بعضهم: النبـي والنبوّة غير مهموز, لأنهما مأخوذان من النّبْوَة, وهي مثل النـجوة, وهو الـمكان الـمرتفع. وكان يقول: إن أصل النبـي الطريق, ويستشهد علـى ذلك ببـيت القطامي:
لـمّا وَرَدْنَ نَبِـيّا واسْتَتَبّ بهامُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السّيْحِ مُنْسَحِلُ
يقول: إنـما سمي الطريق نبـيا, لأنه ظاهر مستبـين من النّبوّة. ويقول: لـم أسمع أحدا يهمز النبـي. قال: وقد ذكرنا ما فـي ذلك وبـينا ما فـيه الكفـاية إن شاء الله.
ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذلكَ بـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ.
وقوله: ذلكَ ردّ علـى «ذلك» الأولـى. ومعنى الكلام: وضربت علـيهم الذلة والـمسكنة, وبـاءوا بغضب من الله, من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبـيـين بغير الـحقّ, من أجل عصيانهم ربهم, واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: ذلك بِـمَا عَصَوْا والـمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تـجاوز الـحدّ الذي حدّه الله لعبـاده إلـى غيره, وكل متـجاوز حدّ شيء إلـى غيره فقد تعدّاه إلـى ما جاوز إلـيه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بـما عصوا أمري, وتـجاوزوا حدّي إلـى ما نهيتهم عنه