تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 177 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 177  {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ}.
اختلف العلماء في المراد بالأنفال هنا على خمسة أقوال:
الأول: أن المراد بها خصوص ما شذ عن الكافرين إلى المؤمنين، وأخذ بغير حرب كالفرس والبعير يذهب من الكافرين إلى المسلمين، وعلى هذا التفسير فالمراد بالأنفال هو المسمى عند الفقهاء فيئا، وهو الآتي بيانه في قوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ) وممن قال بهذا القول عطاء بن أبي رباح.
الثاني: أن المراد بها الخمس وهو قول مالك.
الثالث: أن المراد بها خمس الخمس.
الرابع: أنها الغنيمة كلها وهو قول الجمهور وممن قال به ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء، والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد قاله ابن كثير.
الخامس: أن المراد بها أنفال السرايا خاصة وممن قال به الشعبي، ونقله ابن جرير عن علي بن صالح بن حي، والمراد بهذا القول: ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، واختار ابن جرير أن المراد بها الزيادة على القسم. قال ابن كثير: ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية. وهو ما رواه أحمد حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص. وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيراً حتى تزلت سورة الأنفال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فخذ سلبك»، وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه»، قال: فوضعته، ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي، قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله في شيئاً، قال: كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك. قال: وأنزل الله هذه الآية: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صيح، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت فيَّ أربع آيات من القرآن أصبت سيفاً يوم بدر فأتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلنيه فقال: «ضعه من حيث أخذته مرتين»، ثم عاودته فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ} الآية، وتمام الحديث في نزول {وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْن} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ} . وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة به. وقال محمد بن إسحاق:
حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، ورواه ابن جرير من وجه آخر اهـ. كلام ابن كثير.
قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ جمهور العلماء على أن الآية نزلت في غنائم بدر لما اختلف الصحابة فيها، فقال بعضهم: نحن هم الذين حزنا الغنائم، وحويناها فليس لغيرنا فيها نصيب: وقالت المشيخة: إنا كنا لكم ردءاً، ولو هزمتم للجأتم إلينا فاختصموا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت: أنها نزلت في ذلك. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال، صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. وروي نحو ذلك أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، وابن جرير، وابن مروديه من طرق عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس. وعلى هذا القول الذي هو قول الجمهور، فالآية مشكلة مع قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} .
وأظهر الأقوال التي يزول بها الإشكال في الآية: هو ما ذكره أبو عبيد ونسبه القرطبي في تفسيره لجمهور العلماء أن قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم}. ناسخ لقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ}. إلا أن قول أبي عبيد: إن غنائم بدر لم تخمس، لأن آية الخمس لم تنزل إلا بعد قسم غنائم بدر غير صحيح، ويدل على بطلانه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه «كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ» الحديث. فهذا نص صحيح في تخميس غنائم بدر، لأن قول علي في هذا الحديث الصحيح يومئذ صريح في أنه يعني يوم بدر كما ترى.
فالحاصل أن آية {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم} . بينت أنه ليس المراد قصر الغنائم على الرسول المذكور في أول السورة، وأنها تعطى أربعة أخماس منها للغانمين، وقد ذكرنا آنفا أن أبا عبيد قال: إنها ناسخة لها، ونسبه القرطبي للجمهور، وسيأتي لهذا المبحث زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في الكلام على قوله: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم}.
{إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ * يُجَـٰدِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰن}. في هذه الآية الكريمة التصريح بزيادة الإيمان، وقد صرح تعالى بذلك في مواضع أخر كقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقوله: {هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ} ، وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَـٰن} وقوله: {وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} .
وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضاً. لأن كل ما يزيد ينقص، وجاء مصرحاً به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من إيمان» ونحو ذلك.