تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 545 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 545


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ * ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَأَنسَـٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـٰنِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـٰنِ هُمُ الخَـٰسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلاٌّذَلِّينَ * كَتَبَ ٱللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ * لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالى: {لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ـ إلى قوله ـ {خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَب}. قوله تعالى: {ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَأَنسَـٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إسناد إنساء ذكر الله إلى الشيطان، ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ}، وقوله تعالى {فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ ذِكْرَ رَبِّهِ}، وفي معناه قول فتى موسى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ}. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلاٌّذَلِّينَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين يحادون الله ورسوله داخلون في جملة الأذلين، لا يوجد أحد أذل منهم وقوله: {يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعادون ويحالفون ويشاقون، وأصله مخالفة حدود الله التي حدها.
وقوله: {فِى ٱلاٌّذَلِّينَ} أي الذين هم أعظم الناس ذلاً. والذل: الصغار والهوان والحقارة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله، بينه جل وعلا في غير هذا الموضع، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْىُ ٱلْعَظِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، وقوله تعالى {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} وقوله تعالى {فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ} إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {كَتَبَ ٱللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِىۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ}. قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر به.
وقد دلت هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُون َوَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ} أنه لن يقتل نبي في جهاد قط، لأن المقتول ليس بغالب، لأن القتل قسم مقابل للغلبة، كما بينه تعالى في قوله: {وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ}. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَ}. وقد نفى عن المنصور كونه مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ}.
وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنفُسُكُم ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيِّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} ليسوا مقتولين في جهاد، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ}، على قراءة قتل بالبناء للمفعول، هو ربيون لا ضمير النبي.
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} وذكرنا بعضه في الصافات في الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ}. قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}. وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر، والمراد بها الإنشاء، وهذا النهي البليد، والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد، من إيراده الإنشاء، كما هو معلوم في محله، ومعنى قوله: {يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ}: أي يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ}. وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ}، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ}.
وقوله تعالى: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}. وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَوْ كَانُوۤاْ ءَابَآءَهُمْ} زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قائلاً: إنه قتل أباه كافراً يوم بدر أو يوم أُحد، وقيل: نزلت في ابن عبد الله بن عبد الله بن أُبي المنافق المشهور، وزعم من قال: إن عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه، وقيل: نزلت في أبي بكر، وزعم من قال إن أباه أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط.
وقوله: {أَوْ أَبْنَاءهُمْ}، زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمٰن يوم بدر.
وقوله: {أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ} زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير قالوا: قتل أخاه عبيد بن عمير. وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، علم أن أمه ملية وستفديه.
وقوله: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، في المبارزة يوم بدر، وهم بنو عمهم، لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى، وقوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَـٰنَ} أي ثبته في قلوبهم بتوفيقه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحاً في قوله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلاۤيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَٰشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً}.

تم بحمد الله تفسير سورة المجادلة وهى آخر سورة فسرها الشيخ رحمه الله تعالى وغفرله واسكنه فسيح جناته