لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ
اللهُ عنه مَكانةٌ عَظيمةٌ، ومَناقِبُ كَثيرةٌ، وهذا الحَديثُ يُعدِّدُ كَثيرًا مِن تلك المَناقِبِ والفَضائلِ؛ فيَرْوي التَّابعيُّعَمرُو بنُ مَيمونٍ أنَّه كان جالِسًا عندَ عبْدِ
اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ
اللهُ عنهما، فجاء إليه تِسْعةُ رِجالٍ مُجتَمِعينَ، والرَّهطُ: الجَماعةُ منَ الرِّجالِ، وطَلَبوا منه إمَّا أنْ يقومَ معَهم ليَخلوَ بهم، وإمَّا أنْ يُخْليَ النَّاسَ الَّذين معَه؛ وذلك حتَّى يَسْأَلوه دونَ حرَجٍ، فقامَ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ
اللهُ عنهما معَهم، وكان يومَئذٍ صَحيحَ النَّظرِ قبْلَ أنْ يَعْمى، فابْتَدأ الرَّهطُ، فتَحدَّثوا معَه بأُمورٍ لا يَعلَمُ عنها أحدٌ شَيئًا، فلمَّا انْتَهى الحَديثُ بيْنَهم، جاء ابنُ عبَّاسٍ غاضِبًا يَنفُضُ ثَوبَه ويَضرِبُه بيَدِه، ويقولُ: «
أُفٍّ وتُفٍّ»، وهي كلِماتٌ تُقالُ عندَ التَّضجُّرِ والغضَبِ، ثمَّ بيَّنَ سَببَ غَضبِه؛ وهو أنَّه وَقَعوا في رَجلٍ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ له عَشْرُ خِصالٍ ليْسَت لغَيرِه، وهو عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضيَ
اللهُ عنه.
ثمَّ شَرَع ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ
اللهُ عنه يُعدِّدُ لهم تلك الخِصالَ، الأُولى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال حينَ أرادَ أنْ يَغزوَ خَيبَرَ -وكانت قَريةً لليَهودِ، وهاجَرَ إليها بعضُ يَهودِ المَدينةِ-: «
لَأبعَثَنَّ رَجلًا لا يُخْزيهِ اللهُ أبدًا»، فيَفتَحُ
اللهُ على يَدَيْه حِصنَ خَيبَرَ، وهذا الرَّجلُ «
يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه»، وهنا تَطلَّعُ كَثيرٌ مِن الصَّحابةِ رَضِي
اللهُ عنهم وتَمنَّى أنْ يكونَ هو ذلك الرَّجلَ، فسَأَل النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عن عَليٍّ وأيْن هو؟ فأجابوه بأنَّه في خَيْمتِه يَطحَنُ بيَدَيْه الحُبوبَ بالرَّحى، فليْس له خادمٌ، فأتى عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ على أثَرِ طلَبِه له، وكان مع ذلك يَشْكو مِن رمَدِ عَينَيْه -وهو وَجَعٌ بالعَينِ- فلا يَرى جيِّدًا، ولا يَكادُ يُبصِرُ، فنفَخ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في عَينَيْه مِن ريقِه، فشَفاهُ
اللهُ تعالَى، ثمَّ هزَّ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الرَّايةَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ أعْطاها لعَليٍّ رَضِي
اللهُ عنه، وأمَرَه أنْ يَذهَبَ، ويَفتَحَ الحِصنَ، فذهَب وفتَح
اللهُ له، وجاء في السَّبيِ بصَفيَّةَ بنتِ حُييٍّ رَضِي
اللهُ عنها، والَّتي أصبَحَت فيما بعْدُ إحْدى زَوْجاتِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
والثَّانيةُ الَّتي يَمتازُ بها عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا نزَلَت سُورةُ التَّوبةِ بَعَث بعْضَ أصْحابِه لِيُنادوا بها في الحجِّ، ثمَّ بعَث عليًّا رَضِي
اللهُ عنه خلْفَهم فأخَذها منهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «
لا يَذهَبُ بها إلَّا رَجلٌ منِّي وأنا منه»، فأقَرَّ لعَليٍّ رَضِي
اللهُ عنه بأنَّه بعْضٌ منَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن أهْلِه.
والمَنقَبةُ الثَّالثةُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال لبَني عمِّه حينَ دَعاهم إلى الإسْلامِ في أوَّلِ الأمرِ: «
أيُّكم يُواليني في الدُّنْيا والآخِرةِ؟» ومَعنى سُؤالِه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ لأعْمامِه وأوْلادِهم: أنْ يَقْضوا عنه دَينَه، ويَخْلُفوه في أهْلِه،
يَعني: إنْ قُتِلَ في سَبيلِ
اللهِ؛ كأنَّه خَشيَ إذا قام بأعْباءِ الإنْذارِ أنْ يُقتَلَ؛ فطلَب صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ نُصرَتَهم، حتَّى أنزَلَ
اللهُ عزَّ وجلَّ قولَه تعالَى:
{ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [
المائدة: 67 ]، ولم يكُنْ أحدٌ في بَني هاشمٍ إذْ ذاكَ أشدَّ إيمانًا وإيقانًا وتَصديقًا لرَسولِ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه، وكان رَضيَ
اللهُ عنه جالسًا معَهم فرَفَضوا جَميعُهم، فقال عَليٌّ: أنا أُواليكَ في الدُّنْيا والآخِرةِ، فقَبِل منه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ وقال له: أنتَ وَليِّي في الدُّنْيا والآخِرةِ، ثمَّ ترَكَه النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ رَضيَ
اللهُ عنه، وأقبَلَ على بَني عمِّه، فأعادَ الكَلامَ والطَّلبَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وكلُّهم يَرفُضونَ، وقَبِل عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه أنْ يكونَ وَليًّا للرَّسولِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّنْيا والآخِرةِ، فيكونَ مُعينًا وناصِرًا ومُحبًّا له.
والمَنقَبةُ الرَّابعةُ لعَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه: أنَّه كان أوَّلَ مَن أسلَمَ منَ النَّاسِ بعدَ خَديجةَ رَضيَ
اللهُ عنها.
والمَنقَبةُ الخامِسةُ: أنَّ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذ ثَوبَه فوضَعَه على عَليٍّ، وفاطمةَ، وحَسنٍ، وحُسينٍ رَضِي
اللهُ عنهم، فقال:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [
الأحزاب: 33 ]، والرِّجْسُ: الإثْمُ وكُلُّ ما يُستَقذَرُ منَ العَمَلِ، وقيلَ: هو الشَّكُّ، وقيلَ: العَذابُ، والمَعْنى: يُحِبُّ
اللهُ سُبحانَهُ أنْ يَمحُوَ عنكمُ الرِّجسَ ويُطهِّرَكم مِن دَنَسِ المَعاصي والذُّنوبِ.
والمَنقَبةُ السَّادسةُ: أنَّ عَليًّا رَضيَ
اللهُ عنه باع نفْسَه للهِ؛ ليَفديَ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ليْلةَ الهِجرةِ مِن مكَّةَ إلى المَدينةِ، فلَبِس ثَوبَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ نام مَكانَه حتَّى يُعمِّيَ على المُشرِكينَ أمْرَ خُروجِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانوا يَرقُبونَ بيْتَه ويُحاصِرونَه، وكان مِن عادةِ المُشرِكينَ أنَّهم يَرْمونَ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ بالأحْجارِ، فجاء أبو بَكرٍ وعَليٌّ نائمٌ، وأبو بَكرٍ يَحسَبُ أنَّه نَبيُّ
اللهِ، فَناداه أبو بَكرٍ فقال: يا نَبيَّ
اللهِ، فقال له عَليٌّ: إنَّ نَبيَّ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قدِ انطلَقَ نحْوَ «
بِئرِ مَيمونٍ، فأدْرِكْه»، وهو بِئرٌ في طَريقِ مِنًى، وكان قدْ حفَرَه مَيمونُ بنُ الحَضْرَميِّ فنُسِبَ إليه، فانطلَقَ أبو بَكرٍ، فلَحِقَ بالنَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في طَريقِ الهِجرةِ، فدَخَل معَه غارَ ثَورٍ؛ ليَتخَفَّوْا عن أعيُنِ الكفَّارِ، وجعَل عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه يُرْمى بحِجارةِ المُشرِكينَ ظنًّا منهم أنَّ النَّائمَ هو نَبيُّ
اللهِصلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان يَتقلَّبُ ويَتحرَّكُ في فِراشِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدْ لفَّ رَأسَه في الثَّوبِ لا يُخرِجُه حتَّى لا يَتعرَّفوا عليه، فيَتَعجَّلوا في طلَبِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَخْرُجوا في أثَرِه قبْلَ أنْ يكونَ في مأمَنٍ منهم، فلمَّا أصبَحَ عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه مِن ليلَتِه، وهو على تلك الحالِ كشَف عن رَأسِه، فرَآه المُشرِكونَ، فقالوا: «
إنَّكَ لَلَئيمٌ»؛
أي: بكَ مِن صِفةِ اللُّؤمِ والمَكرِ، ثمَّ رمَوْا أنفُسَهم بالغَباءِ فقالوا: «
كان صاحِبُكَ» يَقصِدونَ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ «
نُراميهِ» بالحِجارةِ «
فلا يَتَضوَّرُ»؛
أي: لا يَتحرَّكُ ولا يَتألَّمُ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَتحمَّلُ أذى قَومِه له، حتَّى ولوْ كان هذا الأذى جَسديًّا، أمَّا أنتَ -ويَقصِدونَ عَليًّا رَضيَ
اللهُ عنه- فقدْ كُنتَ تَتألَّمُ وتَتَحرَّكُ، «
وقدِ استَنْكَرْنا ذلك»؛
أي: أنَّهم وقَع في أنفُسِهم تلك المُخالَفةُ، إلَّا أنَّهم لم يَتأكَّدوا مِن ذلك حتَّى كشَف لهم عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه عن وَجهِه.
وهكذا باع عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه نفْسَه للهِ ورَسولِه لَيلةَ الهِجرةِ، معَ ما كان مِنَ المُشرِكينَ مِن عَزمٍ أنَّهم سيَقتُلونَ رَسولَ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في تلك اللَّيلةِ، كما جاء في الرِّواياتِ.
والمَنقَبةُ السَّابِعةُ: أنَّ النَّاسَ خرَجوا للجِهادِ في غَزْوةِ تَبوكَ في السَّنةِ التَّاسِعةِ منَ الهِجرةِ، فأرادَ عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه أنْ يَخرُجَ معَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ ترَكَه خلَفًا له في المَدينةِ، فرفَضَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ خُروجَه، وأمَرَه أنْ يَمكُثَ معَ النِّساءِ والصِّبيانِ يَحْميهم، فبَكى عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه، فقال له النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ: «
أمَا تَرْضى أنْ تكونَ منِّي بمَنزلةِ هارونَ مِن موسى؟ إلَّا أنَّكَ لستَ بنَبيٍّ»؛
أي: أمَا يُرْضيكَ -يا عَليُّ- أنْ تكونَ وَزيري كما كان هارونُ وَزيرًا لموسى عليهما السَّلامُ؟ وقال النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك؛ لأنَّ هارونَ عليه السَّلامُ خلَف مُوسى عليه السَّلامُ في قَومِه بعْدَ أنْ خرَج لمُلاقاةِ ربِّه، وكان هارونُ عليه السَّلامُ نَبيًّا، فمثَّلَ النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عَليًّا بهارونَ في وِزارتِه لموسى، واستِخلافِه عندَ غِيابِ موسى، ثمَّ نَفى عن عَليٍّ النُّبوَّةَ بعْدَه؛ حتَّى لا يتَوهَّمَ أحدٌ أنَّ عَليًّا سيَخلُفُ النُّبوَّةَ بعْدَ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ كما خلَف هارونُ نُبوَّةَ مُوسى عليهما السَّلامُ؛ لأنَّه صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمُ النَّبيِّينَ.
ثمَّ قال له: «
إنَّه لا يَنبَغي أنْ أذهَبَ إلَّا وأنتَ خَليفَتي»، وهي مُباشَرةُ ومُسايَرةُ أعْمالِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ الَّتي كانت في المَدينةِ، وهذا كان مِن عادةِ النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ في خُروجِه للسَّفرِ، أوِ الغَزوِ، وتَرْكِه المَدينةَ؛ أنَّه كان يَترُكُ خَلفًا له في كلِّ مرَّةٍ مِن أصْحابِه رِضْوانُ
اللهِ عليهم.
والمَنقَبةُ الثَّامِنةُ لعَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ
اللهِ قال له: «
أنتَ وَليِّي في كلِّ مُؤمِنٍ بَعْدي»، فجَعَله النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ ناصِرًا ومُعينًا وحَبيبًا لكلِّ مُؤمِنٍ بعْدَهصلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ.
والمَنقَبةُ التَّاسِعةُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «
سُدُّوا أبوابَ المَسجِدِ غيْرَ بابِ عَليٍّ»، فكان عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه يَدخُلُ المَسجِدَ جُنُبًا وهو مُضطَرٌّ؛ لأنَّ الجُنُبَ مَمنوعٌ منَ المَسجِدِ حتَّى يَتطهَّرَ؛ ولأنَّ المَسجِدَ هو طَريقُه، وليْس له طَريقٌ غيْرُه.
والجَنابةُ: تُطلَقُ على كُلِّ مَنْ أنزَلَ المَنيَّ أو جامَعَ؛ لاجتِنابِهِ الصَّلاةَ والعِباداتِ حتَّى يَطهُرَ منها.
وقدْ ثبَت هذا المَعنى وتلك المَنقَبةُ لأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ
اللهُ عنه، ويُجْمَعُ بيْنَهما بأنَّ بابَ عَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه كان إلى جِهةِ المَسجِدِ، ولم يكُنْ لبَيتِه بابٌ غيرُه؛ فلذلك لم يُؤمَرْ بسَدِّه، وأنَّ الأمرَ بسَدِّ الأبْوابِ وقَع مرَّتَينِ؛ ففي الأُولى اسْتُثنيَ عَليٌّ لِما ذكَرَه، وفي الأُخرى اسْتُثنيَ أبو بَكرٍ، ولكنْ لا يَتِمُّ ذلك إلَّا بأنْ يُحمَلَ ما في قصَّةِ عَليٍّ على البابِ الحَقيقيِّ، وما في قصَّةِ أبي بَكرٍ على البابِ المَجازيِّ، والمُرادُ به الخَوْخةُ، وهي الفتْحةُ في الجِدارِ، كما صرَّحَ به النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ الرِّواياتِ؛ وكأنَّهم لمَّا أُمِروا بسَدِّ الأبْوابِ سَدُّوها وأحْدَثوا فَتحاتٍ يَستَقرِبونَ الدُّخولَ إلى المَسجِدِ منها، فأُمِروا بعْدَ ذلك بسَدِّها.
والمَنقَبةُ العاشِرةُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «
مَن كُنتُ مَوْلاه، فإنَّ مَوْلاه عَليٌّ»، قيلَ: مَعْناه: مَن كُنتُ أتَولَّاه فعَليٌّ يَتولَّاه؛
أي: مَن كُنتُ أُحبُّه فعَليٌّ يُحبُّه، ويَعْني بذلك وَلاءَ الإسْلامِ، كقَولِه تعالى:
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } [
محمد: 11 ].
ووَلاءُ الإسْلامِ مَحبَّةٌ ومَودَّةٌ ونُصْرةٌ للمُسلِمِ، وقيلَ: بل أخَصُّ مِن ذلك؛ فهو المَحبَّةُ ونَفيُ العَداوةِ، فيَجِبُ على المُسلِمينَ احتِرامُ عَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه، وتَوْقيرُه، وبِرُّه.
ثمَّ أضافَ ابنُ عبَّاسٍ مَنقَبةً أُخْرى وهي مُشتَرَكةٌ بيْنَ أصْحابِ الشَّجَرةِ -ومنهم عَليٌّ رَضِي
اللهُ عنه- فقال: وأخبَرَنا
اللهُ عزَّ وجلَّ في
القُرآنِ أنَّه قدْ رَضيَ عنهم؛
أي: أصْحابِ الشَّجرةِ، وذلك في قولِه تعالَى:
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [
الفتح: 18 ]، ثمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ: فهلْ حدَّثَنا أنَّه سخِطَ عليهم بعْدُ؟! فأخبَرَ أنَّ رِضا
اللهِ عليهم ظلَّ دائمًا، ولم يَسخَطْ عليهم، ومنهم عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه، وكان ذلك في السَّنةِ السَّادِسةِ منَ الهِجْرةِ، وتُسَمَّى تلك البَيعةُ بَيْعةَ الرِّضْوانِ؛ لرِضا
اللهِ عزَّ وجلَّ عن أصْحابِها.
ثمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ عن فَضلِ أهْلِ غَزْوةِ بَدرٍ، وكان عَليٌّ رَضيَ
اللهُ عنه فيهم أيضًا، وأنَّ نَبيَّ
اللهِ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال لعُمَرَ بنِ الخطَّابِ حينَ اسْتأذَنَه أنْ يَقتُلَ حاطِبَ بنَ أبي بَلْتَعةَ رَضيَ
اللهُ عنه؛ لأنَّه كَتَب رِسالةً إلى أهْلِ مكَّةَ يُعلِمُهم فيها أنَّ النَّبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ أرادَ أنْ يُحارِبَهم في مكَّةَ، فزَجَر النَّبيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّمَ عُمَرَ رَضيَ
اللهُ عنه عن فِعلِ ذلك، وقال له: «
أوَكُنتَ فاعلًا؟ وما يُدْريكَ لعلَّ اللهَ قدِ اطَّلعَ إلى أهْلِ بَدرٍ فقال: اعْمَلوا ما شِئْتم»، وقولُه: «
لعَلَّ اللهَ»؛ مَعنى التَّرجِّي في كَلامِ
اللهِ للوُقوعِ، وقدْ وقَع عندَ أحمدَ في حَديثِ أبي هُرَيرةَ بالجَزمِ، ولَفظُه: «
إنَّ اللهَ اطَّلعَ على أهْلِ بَدرٍ فقال: اعْمَلوا ما شِئْتم؛ فقد غَفرْتُ لكم»، فدلَّ على أنَّ المُرادَ بالغُفرانِ غُفرانُ ذُنوبِ الماضي والحاضِرِ، وما سَيأْتي، وإنَّما أوْرَدَه بلفظِ الماضي مُبالَغةً في تَحْقيقِه، وأنَّه قدْ قُدِّرَ ووقَع، وقيلَ: مَعْناه الغُفرانُ لهم في الآخِرةِ، ولو أصابَ أحَدُهم أمْرًا عليه عِقابٌ دُنْيويٌّ عُوقِبَ به.
وهكذا عدَّدَ عبْدُ
اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ
اللهُ عنهما بعْضَ مَناقِبِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ
اللهُ عنه الَّتي انفرَدَ بها، كما ذكَر ما اشتَرَكَ فيه معَ غَيرِه مِنَ الصَّحابةِ الأوائلِ رَضيَ
اللهُ عنهم، وكان هذا أجمَلَ ردٍّ وأحسَنَه على مَن قلَّلَ مِن مَكانةِ عَليٍّ رَضيَ
اللهُ عنه، أو وقَع فيه.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم