شرح حديث
كتب الحديث | صحة حديث | الكتب الستة
خَطَبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُسلِمينَ في حَجَّةِ الوَداعِ خُطْبةً جامِعةً، فنَبَّهَ على أُصولٍ مُهِمَّةٍ مِن أُصولِ الشَّرِيعةِ الإسْلامِيَّةِ: وهي حُرْمةُ الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ المَجيدِ العُقَيْليُّ: "انطَلَقْنا حُجَّاجًا" مُسافِرينَ يُريدونَ حجَّ بيتِ اللهِ الحَرامِ، "لياليَ خرَجَ يَزيدُ بنُ المُهَلَّبِ"، وكان يَزيدُ بنُ المُهَلَّبِ واليًا على العِراقِ لعُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، وكان مُتحَيِّزًا للخَوارجِ الذين خَرَجوا على عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، "وقد ذُكِرَ لنا أنَّ ماءً بالعاليةِ، يُقالُ له: الزُّجَيْجُ"، وهو مَنزِلُ الحُجَّاجِ بينَ البَصرةِ ومكَّةَ، فلمَّا قَضَيْنا مناسِكَنا"، أي: قَضيْنا مناسكَ الحَجِّ وانْصَرَفْنا منه، "جِئْنا حتى أتَيْنا الزُّجَيْجَ، فأنَخْنا رَواحِلَنا"، وهي داوَبُّهمُ التي كانت تَحمِلُهم في سَفَرِهم، "فانْطَلَقْنا حتى أتَيْنا على بِئرٍ عليه أشْياخٌ مُخَضَّبونَ يَتحدَّثونَ"، والاخْتِضابُ: تَغْييرُ لَوْنِ الشَّعرِ واللِّحْيةِ بالحِنَّاءِ وغَيْرِه، "قُلْنا: هذا الذي صحِبَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أين بَيتُه؟" يَسْأَلونَهم عن صَحابيٍّ من صَحابةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو العَدَّاءُ بنُ خالدِ بنِ هَوْذةَ رضِيَ اللهُ عنه، "قالوا: نَعمْ صَحِبَه، وهذاك بيتُه"، أكَّدوا لهم على صُحبَتِه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ودَلُّوهم على بَيتِه، "فانْطَلَقْنا حتى أتَيْنا البيتَ، فسَلَّمْنا، قال: فأَذِنَ لنا، فإذا شيخٌ كبيرٌ مُضطَجِعٌ"، نائمًا على جَنْبِهِ، "يُقالُ له: العَدَّاءُ بنُ خالدٍ الكِلابيُّ، قُلْتُ: أنتَ الذي صَحِبْتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قال: نَعم، ولولا أنَّه الليلُ لأَقْرَأْتُكم كتابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليَّ"، بمَعنى أنَّ ظَلامَ الليلِ يَتعذَّرُ معَه القِراءةُ، ومعَه كتابٌ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كتَبَه إليه، وكان العَدَّاءُ من تَعْدادِ أعْرابِ البَصْرةِ، وكان وَفَدَ على النبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ، فأقْطَعَه مِياهًا، "قال: فمَن أنتم؟ قُلْنا: من أهْلِ البَصْرةِ"، وهي بَلْدةٌ من بلادِ العِراقِ، "قال: مَرحبًا بكم، ما فعَلَ يَزيدُ بنُ المُهَلَّبِ؟ قُلْنا: هو هناك يَدْعو إلى كتابِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، وإلى سُنةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فيما هو من ذلك؟" مَعْناه أنَّه بَعيدٌ عن ذلك، ولا يَقصِدُ بذلك وَجهَ اللهِ، "قُلتُ: أيًّا نَتَّبِعُ هؤلاء أو هؤلاء، يَعني أهْلَ الشامِ أو يَزيدَ؟" بمَعنى: هل نَتَّبِعُ الخَليفةَ القائمَ، أمْ نَتَّبِعُ دَعْوةَ الخُروجِ عليه التي يَتَولَّاها يَزيدُ بنُ المُهَلَّبِ؟ قال العَدَّاءُ رضِيَ اللهُ عنه: "إنْ تَقْعُدوا تُفْلِحوا وتَرْشُدوا، إنْ تَقْعُدوا تُفْلِحوا وتَرْشُدوا -لا أعْلَمُه إلَّا قال ثلاثَ مرَّاتٍ-"، تأكيدًا على ما يَنصَحُهم به، ومَعنى جُملتِه: أشارَ عليهم بالقُعودِ وعدمِ مُناصَرةِ أحَدِهما؛ لكَوْنِهم في وقتِ فِتْنةٍ يُحارِبُ المُسلِمونَ فيه بعضُهم بعضًا، ثم استَشْهَدَ بحَديثٍ مُستَدِلًّا به على تَأْييدِ قولِه، قال رضِيَ اللهُ عنه: "رأيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ عَرَفةَ"، وكان ذلك في حَجَّةِ الوَداعِ التي حَجَّها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعَرَفةُ: جَبَلٌ بمَكَّةَ يُؤَدَّى عليه مَنسِكُ الوُقوفِ عليه يومَ التاسِعِ من ذي الحِجَّةِ، "وهو قائمٌ في الرِّكابَيْنِ" يَعني: أنَّ صِفَتَه وهو يَخْطُبُ فيهم أنَّه راكِبٌ على بَعيرٍ ورِجْلُه في رِكابَيِ البَعيرِ، والرِّكابُ: هو الحَلْقةُ الَّتي يُدخِلُ الفارسُ رِجْلَه فيها، "يُنادي بأَعْلى صَوتِه: يا أيُّها الناسُ، أيُّ يومٍ يَومُكم هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: فأيُّ شَهرٍ شَهرُكم هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: فأيُّ بَلدٍ بلدُكم هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ"، سؤالُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّما هو لاستِئْنافِ الإجابةِ، ورَدَّ الصحابةُ في كُلِّ مَرَّةٍ بقولِ: ( اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ )؛ مُراعاةً للأدَبِ، وتَحَرُّزًا عنِ التَّقَدُّمِ بينَ يَدَيِ اللهِ ورَسولِهِ، وتَوقُّفًا فيما لا يُعْلَمُ الغَرَضُ مِنَ السُّؤالِ عنه، "قال: يَومُكم يومٌ حَرامٌ"، والمُرادُ به: يومُ عَرَفةَ، وحَرامٌ؛ لأنَّه يومٌ يُؤَدَّى فيه مَنسِكٌ من مناسِكِ الحَجِّ، "وشَهرُكم شَهرٌ حَرامٌ"، والمُرادُ به شَهرُ ذو الحِجَّةِ، وهو منَ الأشهُرِ الحُرُمِ التي يَحرُمُ فيها القِتالُ عندَ العرَبِ، وعظَّمَها الإسْلامُ، "وبَلدُكم بلدٌ حَرامٌ"، والمُرادُ بها: مكَّةُ، وقد حرَّمَها اللهُ عزَّ وجلَّ، قال: فقال: ألَا إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم عليكم حَرامٌ، كحُرمةِ يومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، في بَلدِكم هذا"، وفي الصحيحَيْنِ من حَديثِ أبي بَكْرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فإنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم وأعْراضَكم عليكم حَرامٌ"، وهذا فيه تَأْكيدٌ شَديدٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَحْريمِ هذه الثَّلاثةِ، وهي: الدِّماءُ وتَشمَلُ النُّفوسَ وما دونَها، والأموالُ وتَشمَلُ القَليلَ والكَثيرَ، والأعْراضُ وتَشمَلُ الزِّنا واللِّواطَ والقَذْفَ ونَحوَه؛ فكُلُّها مُحَرَّمةٌ أشَدَّ التَّحْريمِ، وحَرامٌ على المُسلمِ أنْ يَنتَهِكَها منْ أخيهِ المُسلِمِ.
"إلى يومِ تَلْقَوْنَ ربَّكم، فيَسْألُكم عن أعْمالِكم"، يومَ القِيامةِ، وهذا تَأكيدٌ لِمَا سبقَ منْ ذِكْرِ حُرمةِ الدِّماءِ، وما عُطِفَ عليها، أيْ: إذا تَأكَّدَ لَدَيْكُمْ شِدَّةُ حُرْمَةِ ذلك، فاحْذَروا أنْ تَقَعوا فيه، فإنَّكُمْ سوف تُلاقونَ رَبَّكم، فيَسْألُكم عنْ أعْمالِكم، وهو أعلَمُ بها منكم، والسُّؤالُ يَتضمَّنُ الجَزاءَ، "ثم رفَعَ يَدَيْه إلى السماءِ فقال: اللَّهُمَّ اشهَدْ عليهم، اللَّهُمَّ اشهَدْ عليهم- ذكَرَ مِرارًا، فلا أَدْري كم ذَكَر-" ومَعْناه: اللَّهمَّ اشهَدْ أنِّي قد بلَّغْتُ رِسالتَكَ وأدَّيْتُها إلى النَّاسِ.
شكرا ( الموسوعة الحديثية API - الدرر السنية ) & ( موقع حديث شريف - أحاديث الرسول ﷺ ) نفع الله بكم