الآية 29 من سورة الفتح مكتوبة بالتشكيل

﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾
[ الفتح: 29]

سورة : الفتح - Al-Fatḥ  - الجزء : ( 26 )  -  الصفحة: ( 515 )

Muhammad (SAW) is the Messenger of Allah, and those who are with him are severe against disbelievers, and merciful among themselves. You see them bowing and falling down prostrate (in prayer), seeking Bounty from Allah and (His) Good Pleasure. The mark of them (i.e. of their Faith) is on their faces (foreheads) from the traces of (their) prostration (during prayers). This is their description in the Taurat (Torah). But their description in the Injeel (Gospel) is like a (sown) seed which sends forth its shoot, then makes it strong, it then becomes thick, and it stands straight on its stem, delighting the sowers that He may enrage the disbelievers with them. Allah has promised those among them who believe (i.e. all those who follow Islamic Monotheism, the religion of Prophet Muhammad SAW till the Day of Resurrection) and do righteous good deeds, forgiveness and a mighty reward (i.e. Paradise).


سِـماهم : علامَتهُمْ
مَثـلهمْ : وَصْـفهم العجيب
أخرَج شطـْـأه : فِرَاخه المتفرّعة في جوانبه
فآزره : فقوّى ذلك الشّطء الزّرع
فاسْتغلظ : فصار غليظا
فاستوى على سوقه : فاستقام على أصوله و جُذوعِه

محمد رسول الله، والذين معه على دينه أشداء على الكفار، رحماء فيما بينهم، تراهم ركعًا سُجَّدًا لله في صلاتهم، يرجون ربهم أن يتفضل عليهم، فيدخلهم الجنة، ويرضى عنهم، علامة طاعتهم لله ظاهرة في وجوههم من أثر السجود والعبادة، هذه صفتهم في التوراة. وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه، ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك، وشدت الزرع، فقوي واستوى قائمًا على سيقانه جميلا منظره، يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين في كثرتهم وجمال منظرهم الكفار. وفي هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لأن من غاظه الله بالصحابة، فقد وُجد في حقه موجِب ذاك، وهو الكفر. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه، مغفرة لذنوبهم، وثوابًا جزيلا لا ينقطع، وهو الجنة. (ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم في استحقاق المغفرة والأجر العظيم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم).

محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا - تفسير السعدي

يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ }- أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }- أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا }- أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.{ يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا }- أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه.{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ }- أي: قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم.{ ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ }- أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا.وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ }- أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء.{ فَاسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع- أي: قوي وغلظ { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساق، { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال.{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.ولنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، وتكلم على معانيها وأسرارها، قال -رحمه الله تعالى:-فصل في قصة الحديبيةقال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم.وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان.
قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت في ذي القعدة على الصواب.وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، هكذا في الصحيحين عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفا وأربعمائة، وفيهما، عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وهم، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: وقد صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفا وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم.والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة، وغلط غلطا بينا من قال: كانوا سبعمائة، وعذره أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا، وقد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة.فصلفلما كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذا" فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين" ، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بغبرة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها" ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش.فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها، وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت.فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: "أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام"وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك.وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون" فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: "ذاك ظني به، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه" واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة.فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال: "هذه عن عثمان" ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا.وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره" قال بديل: سأبلغهم ما تقول.فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك:- أي: محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك.وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال:- أي: غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء"ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه.وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ، كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر، تعظيما له.فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى، وقيصر، والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم، خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته.فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له" فبعثوها فاستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك، قال: سبحان الله، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص، وقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر" فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم" فقال: هات، اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا الكاتب، فقال: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم"ثم قال: "اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل: فوالله لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب.فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته علينا.فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه، أن ترده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد" فقال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" فقال: ما أنا بمجيزه، فقال: "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: قد أجزناه.فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا.قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله؟ قال: "بلى" قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى" فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: "إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه" قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به"قال: فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا وانحروا، ثم احلقوا" فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك، فقام فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءت نسوة مؤمنات، فأنزل الله عز وجل: { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع إلى المدينة.وفي مرجعه أنزل الله عليه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها، فقال عمر: أفتح هو يا رسول الله؟ فقال: "نعم" فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، فما لنا؟فأنزل الله عز وجل: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ }الآية.
انتهى.وهذا آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة[وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، نقلته من خط المفسر رحمه الله وعفا عنه، وكان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة 1345 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين.بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد الله البسام.
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
]

تفسير الآية 29 - سورة الفتح

تفسير الجلالين التفسير الميسر تفسير السعدي
تفسير البغوي التفسير الوسيط تفسير ابن كثير
تفسير الطبري تفسير القرطبي إعراب الآية

محمد رسول الله والذين معه أشداء على : الآية رقم 29 من سورة الفتح

 سورة الفتح الآية رقم 29

محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا - مكتوبة

الآية 29 من سورة الفتح بالرسم العثماني


﴿ مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا  ﴾ [ الفتح: 29]


﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ [ الفتح: 29]

  1. الآية مشكولة
  2. تفسير الآية
  3. استماع mp3
  4. الرسم العثماني
  5. تفسير الصفحة
فهرس القرآن | سور القرآن الكريم : سورة الفتح Al-Fatḥ الآية رقم 29 , مكتوبة بكتابة عادية و كذلك بالشكيل و مصورة مع الاستماع للآية بصوت ثلاثين قارئ من أشهر قراء العالم الاسلامي مع تفسيرها ,مكتوبة بالرسم العثماني لمونتاج فيديو اليوتيوب .
  
   

تحميل الآية 29 من الفتح صوت mp3


تدبر الآية: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا

خلَّد الله ذكرَ الصحابة ورفع شأنهم؛ لأنهم ناصروا دينه، وآزروا نبيَّه ﷺ، فحقَّت لهم الرفعة، ووجب لهم الثناء.
المنهج المستقيم في الولاء والبراء يتمثل بالشِّدَّة على الكافرين، والرحمة بالمؤمنين، فمَن عكسَ القضيَّة فقد خالف ما كان عليه الرسول وأصحابه.
جمع الله لهؤلاء المؤمنين بين الشدَّة والرحمة؛ إيماءً إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرَّفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرُّفَ الحكمة والرُّشد، فلا تغلِب على نفوسهم مَحمَدةٌ دون أخرى، ولا يندفعون إلى العمل بالجِبِلَّة وعدم الرؤية.
مَن انقطع إلى الله وصله الله، ومَن أراد صِلةً بمولاه فليلزم الصلاة، فهي مفتاح كلِّ خير، وأصل كلِّ سعادة.
لم يكن يَشغَلهم عن ربِّهم بَهرَجُ هذه الدنيا، ولم يكونوا يسعَون لتحصيل زخارفها، بل أسمى غاياتهم رضوان ربِّهم.
قال الإمام مالك: ( مَن أصبح في قلبه غَيظٌ على أحد من أصحاب رسول الله ﷺ فقد أصابته الآية ).
لئن سبق السابقون بنصرة النبيِّ والوقوف معه، إن للاحقين بابًا يدركونهم منه إذا أحبُّوهم وقاموا بما قاموا به، والمرء مع مَن أحبَّ.

وقوله-تبارك وتعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، أو مُحَمَّدٌ خبر لمبتدأ محذوف، ورَسُولُ اللَّهِ بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف.
أى: هذا الرسول الذي أرسله الله-تبارك وتعالى- بالهدى ودين الحق، هو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم أصحابه- وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية، وبايعه تحت الشجرة- من صفاتهم أنهم أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أى: غلاظ عليهم، وأنهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
أى: أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى ...
وقوله-تبارك وتعالى- مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فيه أسمى التكريم للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث شهد له- سبحانه - بهذه الصفة، وكفى بشهادته- عز وجل - شهادة، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله، والتشويق إلى اسمه.
وفي وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، مدح عظيم لهم، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس، فهم ليسوا أشداء مطلقا، ولا رحماء مطلقا، وإنما شدتهم على أعدائهم، ورحمتهم لإخوانهم في العقيدة، وشبيه بهذه الآية قوله-تبارك وتعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ...
.
قال صاحب الكشاف: «وعن الحسن أنه قال: «بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه..» .
وأسمى من هذا كله في بيان تراحمهم قوله-تبارك وتعالى-: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ...
ثم وصفهم بوصف آخر فقال: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً.
أى: تراهم وتشاهدهم- أيها العاقل- راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله-تبارك وتعالى- والظفر برضاه وثوابه..ثم وصفهم بوصف ثالث فقال: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.. أى: علامتهم وهو نور يجعله الله-تبارك وتعالى- في وجوههم يوم القيامة، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباههم في الدنيا، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين.
فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإشراق والصفاء.. يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله، وليس المقصود أن هناك علامة معينة- كالنكتة التي تكون في الوجه- كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان.
واختار- سبحانه - لفظ السجود، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإخلاص لله-تبارك وتعالى-.
قال الآلوسى: «أخرج ابن مردويه بسند حسن عن أبى بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في قوله-تبارك وتعالى-: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ النور يوم القيامة» .
ثم قال الآلوسى: ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم في الدنيا والآخرة- للآثار السابقة- لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذكر ...
» .
واسم الإشارة في قوله-تبارك وتعالى-: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة.
والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن.
أى: ذلك الذي ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال، صفتهم في التوراة التي أنزلها الله-تبارك وتعالى- على نبيه موسى- عليه السلام-.
ثم بين- سبحانه - صفتهم في الإنجيل فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ...
وقوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ معطوف على ما قبله وهو مثلهم في التوراة، والإنجيل:هو الكتاب الذي أنزله الله-تبارك وتعالى- على نبيه عيسى- عليه السلام-.
والشط: فروع الزرع، وهو ما خرج منه وتفرع على شاطئيه.
أى: جانبيه.
وجمعه:أشطاء، وشطوء، يقال: شطأ الزرع وأشطأ، إذا أخرج فروعه التي تتولد عن الأصل.
وقوله فَآزَرَهُ أى: فقوت تلك الفروع أصولها، وآزرتها، وجعلتها مكينة ثابتة في الأرض.
وأصله من شد الإزار.
تقول: أزّرت فلانا، إذا شددت إزاره عليه.
وتقول آزرت البناء- بالمد والقصر- إذا قويت أساسه وقواعده.
ومنه قوله-تبارك وتعالى- حكاية عن موسى- عليه السلام-: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي.
هارُونَ أَخِي.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي.
وقوله: فَاسْتَغْلَظَ أى: فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا.
وقوله: فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أى: فاستقام وتكامل على سيقانه التي يعلو عليها.
وقوله: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أى: يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته.
والمعنى: أن صفة المؤمنين في الإنجيل، أنهم كالزرع، يظهر في أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا، ثم ينبت بعضه حول بعض، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد، وتعجب جودته أصحاب الزراعة، العارفين بها.
فكذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، كانوا في أول الأمر في قلة وضعف، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة، حتى بلغوا ما بلغوا في ذلك.
وصدق الله إذ يقول: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
قال صاحب الكشاف: «وهذا مثل ضربه الله-تبارك وتعالى- لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم.
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام وحده، ثم قواه الله-تبارك وتعالى- بمن معه.
كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها، حتى يعجب الزراع» .
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون وصفهم في التوراة، هو المعبر عنه بقوله-تبارك وتعالى-: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.. ويكون وصفهم في الإنجيل هو المعبر عنه بقوله- سبحانه -: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ....ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة في الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا، بل بعض هذه الأوصاف موجودة في الكتابين، حتى بعد تحريفهما.
فقد أخرج بن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال: «مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..» .
ويرى بعض المفسرين أن المذكور في التوراة والإنجيل شيء واحد، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة، وما بعدها وهو قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ.. كلام مستأنف.
قال القرطبي: «قوله-تبارك وتعالى-: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ.. قال الفراء: فيه وجهان: إن شئت قلت: المعنى: ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على «الإنجيل» .
وإن شئت قلت: تمام الكلام: ذلك مثلهم في التوراة.
ثم ابتدأ فقال: ومثلهم في الإنجيل.
وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة، والآخر في الإنجيل ...
» .
والذي نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين، أحدهما مذكور في التوراة والآخر في الإنجيل، هو الرأى الراجح، لأن ظاهر الآية يشهد له.
وفي هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين.
وقوله-تبارك وتعالى-: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما يعرب عنه الكلام، من إيجاده-تبارك وتعالى- لهم على هذه الصفات الكريمة.
أى: جعلهم- سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات.. لكي يغيظ بهم الكفار، فيعيشوا وفي قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين.
ثم ختم- سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
و «من» في قوله مِنْهُمْ الراجح أنها للبيان والتفسير، كما في قوله-تبارك وتعالى- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ...
أى: وعد الله-تبارك وتعالى- بفضله وإحسانه، الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وهم أهل بيعة الرضوان، ومن كان على شاكلتهم في قوة الإيمان.. وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو- سبحانه -.
ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض، لكي يخرج من هؤلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، وهم المنافقون الذين أبوا مبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبوا الخروج معه للجهاد، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ...
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها: وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم، والثناء عليهم، لأن الله-تبارك وتعالى- قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم.
قال القرطبي: «روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير أنه قال: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ مالك هذه الآية: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ...
فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية.
ثم قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين» .. .
وبعد: فهذا تفسير لسورة «الفتح» تلك السورة التي بشرت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .
فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : محمد رسول الله محمد مبتدأ و ( رسول ) خبره .
وقيل : محمد ابتداء و ( رسول ) الله نعته .
والذين معه عطف على المبتدأ ، والخبر فيما بعده ، فلا يوقف على هذا التقدير على رسول الله وعلى الأول يوقف على رسول الله ; لأن صفاته - عليه السلام - تزيد على ما وصف أصحابه ، فيكون محمد ابتداء ورسول الله الخبر والذين معه ابتداء ثان .
وأشداء خبره ورحماء خبر ثان .
وكون الصفات في جملة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأشبه .
وقيل : المراد بالذين معه جميع المؤمنين .
رحماء بينهم أي يرحم بعضهم بعضا .
وقيل : متعاطفون متوادون .
وقرأ الحسن أشداء على الكفار رحماء بينهم بالنصب على الحال ، كأنه قال : والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم .
تراهم ركعا سجدا إخبار عن كثرة صلاتهم .
يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى .
الثانية : قوله تعالى : سيماهم في وجوههم من أثر السجود السيما العلامة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، أي : لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر .
وفي سنن ابن ماجه قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقال ابن العربي : ودسه قوم في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الغلط ، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ذكر بحرف .
وقد روى ابن وهب عن مالك سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير .
وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش ، فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين .
وقال الحسن : هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة .
وقاله سعيد بن جبير أيضا ، ورواه العوفي عن ابن عباس ، قاله الزهري .
وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وفيه : [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ] .
وقال شهر بن حوشب : يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر .
وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا وهو السمت الحسن .
وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع .
قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى : سيماهم في وجوههم أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع .
وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء .
وقال شمر بن عطية : هو صفرة الوجه من قيام الليل .
قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى .
وقال الضحاك : أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة .
وقال سفيان الثوري : يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد مضى القول فيه آنفا .
وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .
الثالثة : قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل قال الفراء : فيه وجهان ، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على الإنجيل وإن شئت قلت : تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة ، ثم ابتدأ فقال : ومثلهم في الإنجيل .
وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل ، فيوقف على هذا على التوراة وقال مجاهد : هو مثل واحد ، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل ، فلا يوقف على التوراة على هذا ، ويوقف على الإنجيل ويبتدئ كزرع أخرج شطأه على معنى وهم كزرع .
وشطأه يعني فراخه وأولاده ، قاله ابن زيد وغيره .
وقال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه .
قال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه ، والجمع أشطاء .
وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه .
قال الأخفش في قوله : أخرج شطأه أي : طرفه .
وحكاه الثعلبي عن الكسائي .
وقال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج .
قال الشاعر :أخرج الشطء على وجه الثرى ومن الأشجار أفنان الثمرالزجاج : أخرج شطأه أي : نباته .
وقيل : إن الشطء شوك السنبل ، والعرب أيضا تسميه : السفا ، وهو شوك البهمى ، قاله قطرب .
وقيل : إنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قال الفراء ، حكاه الماوردي .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان ( شطأه ) بفتح الطاء ، وأسكن الباقون .
وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب ( شطاه ) مثل عصاه .
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق ( شطه ) بغير همز ، وكلها لغات فيها .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه .
فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان .
وقال قتادة : مثل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
فآزره أي قواه وأعانه وشده ، أي : قوى الشطء الزرع .
وقيل : بالعكس ، أي : قوى الزرع الشطء .
وقراءة العامة آزره بالمد .
وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس ( فأزره ) مقصورة ، مثل فعله .
والمعروف المد .
قال امرؤ القيس :بمحنية قد آزر الضال نبتها مجر جيوش غانمين وخيبفاستوى على سوقه على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له .
والسوق : جمع الساق .
يعجب الزراع أي يعجب هذا الزرع زراعه .
وهو مثل كما بينا ، فالزرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والشطء أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، قاله الضحاك وغيره .
ليغيظ بهم الكفار اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعل الله هذا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليغيظ بهم الكفار .
الرابعة : قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد ، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة .
و ( من ) في قوله : منهم مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامة مجنسة ، مثل قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس ، أي : فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى ، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب ، فأدخل ( من ) يفيد بها الجنس وكذا منهم ، أي : من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة .
ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ، أي : اجعل نفقتك هذا الجنس .
وقد يخصص أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بوعد المغفرة تفضيلا لهم ، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة .
وفي الآية جواب آخر : وهو أن ( من ) مؤكدة للكلام ، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما .
فجرى مجرى قول العربي : قطعت من الثوب قميصا ، يريد قطعت الثوب كله قميصا .
و ( من ) لم يبعض شيئا .
وشاهد هذا من القرآن وننزل من القرآن ما هو شفاء معناه وننزل القرآن شفاء ; لأن كل حرف منه يشفي ، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض .
على أن من اللغويين من يقول : ( من ) مجنسة ، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن ، ومن جهة القرآن ، ومن ناحية القرآن .
قال زهير :أمن أم أوفى دمنة لم تكلمأراد من ناحية أم أوفى دمنة ، أم من منازلها دمنة .
وقال الآخر [ الأعشى ] :أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفرف ( من ) لم تبعض شيئا ، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر .
والنوفل : الكثير العطاء .
والزفر : حامل الأثقال والمؤن عن الناس .
الخامسة : روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقرأ مالك هذه الآية محمد رسول الله والذين معه حتى بلغ يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية ، ذكره الخطيب أبو بكر .
قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله .
فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال الله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار الآية .
وقال : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله أولئك هم الصادقون ، ثم قال عز من قائل : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم إلى قوله فأولئك هم المفلحون .
وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وقال : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه خرجهما البخاري .
وفي حديث آخر : فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه .
قال أبو عبيد : معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد ، فالنصيف هو النصف هنا .
وكذلك يقال للعشر عشير ، وللخمس خميس ، وللتسع تسيع ، وللثمن ثمين ، وللسبع سبيع ، وللسدس سديس ، وللربع ربيع .
ولم تقل العرب للثلث ثليث .
وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا : [ إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ] .
وقال : [ في أصحابي كلهم خير ] .
وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ إن الله - عز وجل - اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] .
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها ، فروايته مطرحة .
وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة ، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة .
فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما ، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما .
فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ; لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سب أصحابه ، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه .
وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يقبل هذا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ، فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن فقلت : اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه ، فسلمني منه .
فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النطع ، فلما بصر بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به ، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم .
قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله .
هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة .
وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم .
ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث .
وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : مغفرة وأجرا عظيما وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك .
وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب .
وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة ( الحجرات ) مبينة إن شاء الله تعالى :تم تفسير سورة ( الفتح ) والحمد لله .


شرح المفردات و معاني الكلمات : محمد , رسول , الله , أشداء , الكفار , رحماء , تراهم , ركعا , سجدا , يبتغون , فضلا , الله , رضوانا , سيماهم , وجوههم , أثر , السجود , مثلهم , التوراة , مثلهم , الإنجيل , كزرع , أخرج , شطأه , فآزره , فاستغلظ , فاستوى , سوقه , يعجب , الزراع , ليغيظ , الكفار , وعد , الله , آمنوا , عملوا , الصالحات , مغفرة , أجرا , عظيما ,
English Türkçe Indonesia
Русский Français فارسی
تفسير انجليزي اعراب

آيات من القرآن الكريم

  1. هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند
  2. حكمة بالغة فما تغن النذر
  3. وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون
  4. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب
  5. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع
  6. فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين
  7. إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين
  8. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان
  9. ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير
  10. قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم

تحميل سورة الفتح mp3 :

سورة الفتح mp3 : قم باختيار القارئ للاستماع و تحميل سورة الفتح

سورة الفتح بصوت ماهر المعيقلي
ماهر المعيقلي
سورة الفتح بصوت سعد الغامدي
سعد الغامدي
سورة الفتح بصوت عبد  الباسط عبد الصمد
عبد الباسط
سورة الفتح بصوت أحمد العجمي
أحمد العجمي
سورة الفتح بصوت محمد صديق المنشاوي
المنشاوي
سورة الفتح بصوت محمود خليل الحصري
الحصري
سورة الفتح بصوت مشاري راشد العفاسي
مشاري العفاسي
سورة الفتح بصوت ناصر القطامي
ناصر القطامي
سورة الفتح بصوت فارس عباد
فارس عباد
سورة الفتح بصوت ياسر لدوسري
ياسر الدوسري


الباحث القرآني | البحث في القرآن الكريم


Tuesday, April 23, 2024

لا تنسنا من دعوة صالحة بظهر الغيب