سورة الدخان | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 497 من المصحف
"وأن لا تعلوا على الله" أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. ابن عباس: لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي والافتراء: أن البغي بالفعل والافتراء بالقول. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين التعظيم والاستكبار: أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحقر؛ ذكره الماوردي "إني آتيكم بسلطان مبين" قال قتادة: بعذر بين. وقال يحيى بن سلام بحجة بينة. والمعنى واحد؛ أي برهان بين.
الآية: 20 {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون}
كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله. قال قتادة: "ترجمون" بالحجارة. وقال ابن عباس: تشتمون؛ فتقولوا ساحر كذاب. وأظهر الذال من "عذت" نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب. وأدغم الباقون. والإدغام طلبا للتخفيف، والإظهار على الأصل. ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى؛ لأن الله وعده فقال: "فلا يصلون إليكما" [القصص: 35]. وقيل: إني أعوذ؛ كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله؛ أي أقسم.
الآية: 21 {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}
قوله تعالى: "وإن لم تؤمنوا لي" أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني؛ فاللام في "لي" لام أجل. وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي؛ كقوله: "فآمن له لوط" [العنكبوت: 26] أي به. "فاعتزلون" أي دعوني كفافا لا لي ولا علي؛ قال مقاتل. وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا به معزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا. وقيل: فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم.
الآية: 22 {فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون}
قوله تعالى: "فدعا ربه" فيه حذف؛ أي فكفروا فدعا ربه. "أن هؤلاء" بفتح "أن" أي بأن هؤلاء. "قوم مجرمون" أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بنى إسرائيل ومن الإيمان.
الآية: 23 {فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون}
قوله تعالى: "فأسر بعبادي ليلا" أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي؛ أي بمن آمن بالله من بني إسرائيل. "ليلا" أي قبل الصباح "إنكم متبعون" وقرأ أهل الحجاز "فأسر" بوصل الألف. وكذلك ابن كثير؛ من سرى. الباقون "فأسر" بالقطع؛ من أسرى. وقد تقدم. وتقدم خروج فرعون وراء موسى في "البقرة والأعراف وطه والشعراء ويونس" وإغراقه وإنجاء موسى"؛ فلا معنى للإعادة.
أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا؛ فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحر أو جدب، فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسري ويدلج ومترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها). وقد مضى في أول "النحل"؛ والحمد لله.
الآية: 24 {واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون}
قال ابن عباس: "رهوا" أي طريقا. وقال كعب والحسن. وعن ابن عباس أيضا سمتا. الضحاك والربيع: سهلا. عكرمة: يبسا، لقوله: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا" وقيل: مفترقا. مجاهد: منفرجا. وعنه يابسا. وعنه ساكنا، وهو المعروف في اللغة. وقاله قتادة والهروي. وقال غيرهما: منفرجا. وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لأنه إذا سكن جريه انفرج. وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام. والرهو عند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رهوا، أي ساكنة. قال:
والخيل تنزع رهوا في أعنتها كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
الجوهري: ويقال أفعل ذلك رهوا، أي ساكنا على هينتك. وعيش راه، أي ساكن رافه. وخمس راه، إذا كان سهلا. ورها البحر أي سكن. وقال أبو عبيد: رها بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى: "واترك البحر رهوا": السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهوا. قال ابن الأعرابي: رها يرهو في السير أي رفق. قال القطامي في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل
والرهو والرهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضا يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد. وقال أبو عبيد: الرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره. وفي الحديث أنه قضى أن (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهو). والجمع رهاء. والرهو: المرأة الواسعة الهن. حكاه النضير بن شميل. والرهو: ضرب من الطير، ويقال: هو الكركي. قال الهروي: ويجوز أن يكون "رهوا "من نعت موسى - وقال القشيري - أي سر ساكنا على هينتك؛ فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الأول هو من نعت البحر؛ أي اتركه ساكنا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالانضمام. حتى يدخل فرعون وقومه. قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا. وقيل: ليس الرهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين؛ يقال: رها ما بين الرجلين أي فرج. فقوله: "رهوا" أي منفرجا. وقال الليث: الرهو ومشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوا فهو راه. وعيش راه: وادع خافض. وافعل ذلك سهوا رهوا؛ أي ساكنا بغير شدة. وقد ذكرناه آنفا. "إنهم" أي إن فرعون وقومه. "جند مغرقون" أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه.
الآية: 25 - 27 {كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين}
قوله تعالى: "كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم" "كم" للكثير. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية. "ونعمة كانوا فيها فاكهين" النعمة (بالفتح): التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. وامرأة منعمة ومناعمة، بمعنى. والنعمة (بالكسر): اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك. وكذلك النعمى. فإن فتحت النون مددت وقلت: النعماء. والنعيم مثله. وفلان واسع النعمة، أي واسع المال؛ جميعه عن الجوهري. وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر. ابن لهيعة: الفيوم. ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها. وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال: نعمة ونعمة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي. قال: وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين، قاله النضير بن شميل. الثاني: أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية؛ وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة؛ قال ابن زياد.
قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه. وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة "فكهين" بغير ألف، ومعناه أشرين بطرين. قال الجوهري: فكة الرجل (بالكسر) فهو فكه إذا كان طب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وقرئ "ونعمة كانوا فيها فكهين" أي أشرين بطرين. و"فاكهين" أي ناعمين. القشيري: "فاكهين" لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مزاج. وفيه فكاهة أي مزح. الثعلبي: وهما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره. وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة. والفاكهة: فضل عن القوت الذي لا بد منه.
الآية: 28 {كذلك وأورثناها قوما آخرين}
قال الزجاج: أي الأمر كذلك؛ فيوقف على "كذلك". وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلا كذلك بمن نريد إهلاكه. وقال الكلبي: "كذلك" أفعل بمن عصاني. وقيل: "كذلك" كان أمرهم فأهلكوا. "وأورثناها قوما آخرين" يعني بنى إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. ونظيره: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها" [الأعراف: 137].
الآية: 29 {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}
قوله تعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض" أي لكفرهم. "وما كانوا منظرين" أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة؛ كقوله تعالى: "واسأل القرية" [يوسف: 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - "فما بكت عليهم السماء والأرض". يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل: من هم يا رسول الله؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "فما بكت عليهم السماء والأرض" ثم قال: ألا إنهما لا يبكيان على الكافر).
قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبدالله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما؛ قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والسدي والترمذي محمد بن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء؛ وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها. وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين.
قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشفق الحمرة). وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان: الحمرة والبياض؛ فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في "الإسراء" عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها. وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله؛ فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فان فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك،وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن؛ فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها. وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن.
قلت: والقول الأول أظهر؛ إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في "الإسراء ومريم وحم فصلت" فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال.
الآية: 30 - 31 {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين}
يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة. "من فرعون" بدل من "العذاب المهين" فلا تتعلق "من" بقوله: "من العذاب" لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. "إنه كان عاليا من المسرفين" أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف. كقوله: "إن فرعون علا في الأرض" [القصص: 4]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله.
الآية: 32 {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}
قوله تعالى: "ولقد اخترناهم" يعني بني إسرائيل. "على علم" أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. "على العالمين" أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الأمة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران:110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم؛ حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: "كنتم خير أمة" أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.
الآية: 33 {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}
قوله تعالى: "وآتيناهم من الآيات" أي من المعجزات لموسى. "ما فيه بلاء مبين" قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث: إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به؛ قال عبدالرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله: "بلاء مبين" أربعة أوجه: أحدها: نعمة ظاهرة؛ قال الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى: "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا" [الأنفال: 17]. وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
الثاني: عذاب شديد؛ قاله الفراء. الثالث: اختبار يتميز به المؤمن من الكافر؛ قاله عبدالرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة؛ ثم قرأ "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" [الأنبياء: 35].
الآية: 34 - 36 {إن هؤلاء ليقولون، إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين، فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "إن هؤلاء ليقولون" يعني، كفار قريش "إن هي إلا موتتنا الأولى" ابتداء وخبر؛ مثل: "إن هي إلا فتنتك" [الأعراف: 155]، "إن هي إلا حياتنا الدنيا" [المؤمنون: 37] "وما نحن بمنشرين" أي بمبعوثين. أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا: أحدهما: قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا؛ لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات؛ لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف؛ فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء؛ فلم لا يرجع من مضى من الآباء؛ حكاه الماوردي. ثم قيل: "فأتوا بآبائنا" مخاطبة ولنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ كقوله: "رب ارجعون" [المؤمنون:99] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولأتباعه.
الآية: 37 - 39 {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين، وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى: "أهم خير أم قوم تبع" هذا استفهام إنكار؛ أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب؛ إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن؛ فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمي كل واحد منهم تباعا لأنه يتبع صاحب. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل؛ وقال:
يرد المياه حضيرة ونفيضة ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت. وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع؛ قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش وهو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات: أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره؛ ولذلك قال عليه السلام: (ولا أدري أتبع لعين أم لا). ثم قد روي عنه أنه قال: (لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا) فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه؛ وهو - والله أعلم - أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها؛ فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه:
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء - ويقال بناحية حمير - في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب "هذا قبر حُبَّى ولميس" ويروى أيضا: "حبي وتماضر" ويروى أيضا: "هذا قبر رضوي وقبر حب ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا؛ وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما".
قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: (أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام؛ فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام". ثم ختم الكتاب ونقش عليه: "لله الأمر من قبل ومن بعد" [الروم: 4]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبدالله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تبع الأول. وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في "اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية" للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص.
واختلف هل كان نبيا أو ملكا؛ فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها؛ حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات. وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم؛ فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.
قوله تعالى: "والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين" "الذين" في موضع رفع عطف على "قوم تبع". "أهلكناهم" صلته. ويكون "من قبلهم" متعلقا به. ويجوز أن يكون "من قبلهم" صلة "الذين" ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان "أهلكناهم" على أحد أمرين: إما أن يقدر معه "قد" فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف؛ كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون "والذين من قبلهم" ابتداء خبره "أهلكناهم". ويجوز أن يكون "الذين" في موضع جر عطفا على "تبع" كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون "الذين" في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه "أهلكناهم". والله أعلم.
قوله تعالى: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين" أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين؛ وهو قول الكلبي. "ما خلقناهما إلا بالحق" أي إلا بالأمر الحق؛ قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق؛ قال الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق لإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في "الأنبياء". "ولكن أكثرهم" يعني أكثر الناس "لا يعلمون" ذلك.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 497
497- تفسير الصفحة رقم497 من المصحف"وأن لا تعلوا على الله" أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. ابن عباس: لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي والافتراء: أن البغي بالفعل والافتراء بالقول. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين التعظيم والاستكبار: أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحقر؛ ذكره الماوردي "إني آتيكم بسلطان مبين" قال قتادة: بعذر بين. وقال يحيى بن سلام بحجة بينة. والمعنى واحد؛ أي برهان بين.
الآية: 20 {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون}
كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله. قال قتادة: "ترجمون" بالحجارة. وقال ابن عباس: تشتمون؛ فتقولوا ساحر كذاب. وأظهر الذال من "عذت" نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب. وأدغم الباقون. والإدغام طلبا للتخفيف، والإظهار على الأصل. ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى؛ لأن الله وعده فقال: "فلا يصلون إليكما" [القصص: 35]. وقيل: إني أعوذ؛ كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله؛ أي أقسم.
الآية: 21 {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون}
قوله تعالى: "وإن لم تؤمنوا لي" أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني؛ فاللام في "لي" لام أجل. وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي؛ كقوله: "فآمن له لوط" [العنكبوت: 26] أي به. "فاعتزلون" أي دعوني كفافا لا لي ولا علي؛ قال مقاتل. وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا به معزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا. وقيل: فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم.
الآية: 22 {فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون}
قوله تعالى: "فدعا ربه" فيه حذف؛ أي فكفروا فدعا ربه. "أن هؤلاء" بفتح "أن" أي بأن هؤلاء. "قوم مجرمون" أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بنى إسرائيل ومن الإيمان.
الآية: 23 {فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون}
قوله تعالى: "فأسر بعبادي ليلا" أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي؛ أي بمن آمن بالله من بني إسرائيل. "ليلا" أي قبل الصباح "إنكم متبعون" وقرأ أهل الحجاز "فأسر" بوصل الألف. وكذلك ابن كثير؛ من سرى. الباقون "فأسر" بالقطع؛ من أسرى. وقد تقدم. وتقدم خروج فرعون وراء موسى في "البقرة والأعراف وطه والشعراء ويونس" وإغراقه وإنجاء موسى"؛ فلا معنى للإعادة.
أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا؛ فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحر أو جدب، فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسري ويدلج ومترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها). وقد مضى في أول "النحل"؛ والحمد لله.
الآية: 24 {واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون}
قال ابن عباس: "رهوا" أي طريقا. وقال كعب والحسن. وعن ابن عباس أيضا سمتا. الضحاك والربيع: سهلا. عكرمة: يبسا، لقوله: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا" وقيل: مفترقا. مجاهد: منفرجا. وعنه يابسا. وعنه ساكنا، وهو المعروف في اللغة. وقاله قتادة والهروي. وقال غيرهما: منفرجا. وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لأنه إذا سكن جريه انفرج. وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام. والرهو عند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رهوا، أي ساكنة. قال:
والخيل تنزع رهوا في أعنتها كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
الجوهري: ويقال أفعل ذلك رهوا، أي ساكنا على هينتك. وعيش راه، أي ساكن رافه. وخمس راه، إذا كان سهلا. ورها البحر أي سكن. وقال أبو عبيد: رها بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى: "واترك البحر رهوا": السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهوا. قال ابن الأعرابي: رها يرهو في السير أي رفق. قال القطامي في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل
والرهو والرهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضا يجتمع فيه الماء، وهو من الأضداد. وقال أبو عبيد: الرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره. وفي الحديث أنه قضى أن (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهو). والجمع رهاء. والرهو: المرأة الواسعة الهن. حكاه النضير بن شميل. والرهو: ضرب من الطير، ويقال: هو الكركي. قال الهروي: ويجوز أن يكون "رهوا "من نعت موسى - وقال القشيري - أي سر ساكنا على هينتك؛ فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الأول هو من نعت البحر؛ أي اتركه ساكنا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالانضمام. حتى يدخل فرعون وقومه. قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا. وقيل: ليس الرهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين؛ يقال: رها ما بين الرجلين أي فرج. فقوله: "رهوا" أي منفرجا. وقال الليث: الرهو ومشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوا فهو راه. وعيش راه: وادع خافض. وافعل ذلك سهوا رهوا؛ أي ساكنا بغير شدة. وقد ذكرناه آنفا. "إنهم" أي إن فرعون وقومه. "جند مغرقون" أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه.
الآية: 25 - 27 {كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين}
قوله تعالى: "كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم" "كم" للكثير. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية. "ونعمة كانوا فيها فاكهين" النعمة (بالفتح): التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. وامرأة منعمة ومناعمة، بمعنى. والنعمة (بالكسر): اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك. وكذلك النعمى. فإن فتحت النون مددت وقلت: النعماء. والنعيم مثله. وفلان واسع النعمة، أي واسع المال؛ جميعه عن الجوهري. وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر. ابن لهيعة: الفيوم. ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها. وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال: نعمة ونعمة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي. قال: وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين، قاله النضير بن شميل. الثاني: أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية؛ وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة؛ قال ابن زياد.
قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه. وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة "فكهين" بغير ألف، ومعناه أشرين بطرين. قال الجوهري: فكة الرجل (بالكسر) فهو فكه إذا كان طب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وقرئ "ونعمة كانوا فيها فكهين" أي أشرين بطرين. و"فاكهين" أي ناعمين. القشيري: "فاكهين" لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مزاج. وفيه فكاهة أي مزح. الثعلبي: وهما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره. وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة. والفاكهة: فضل عن القوت الذي لا بد منه.
الآية: 28 {كذلك وأورثناها قوما آخرين}
قال الزجاج: أي الأمر كذلك؛ فيوقف على "كذلك". وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلا كذلك بمن نريد إهلاكه. وقال الكلبي: "كذلك" أفعل بمن عصاني. وقيل: "كذلك" كان أمرهم فأهلكوا. "وأورثناها قوما آخرين" يعني بنى إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين؛ لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. ونظيره: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها" [الأعراف: 137].
الآية: 29 {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}
قوله تعالى: "فما بكت عليهم السماء والأرض" أي لكفرهم. "وما كانوا منظرين" أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض؛ أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة؛ كقوله تعالى: "واسأل القرية" [يوسف: 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - "فما بكت عليهم السماء والأرض". يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل: من هم يا رسول الله؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - "فما بكت عليهم السماء والأرض" ثم قال: ألا إنهما لا يبكيان على الكافر).
قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبدالله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما؛ قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والسدي والترمذي محمد بن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء؛ وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها. وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين.
قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشفق الحمرة). وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان: الحمرة والبياض؛ فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في "الإسراء" عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها. وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله؛ فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فان فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك،وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن؛ فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها. وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن.
قلت: والقول الأول أظهر؛ إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في "الإسراء ومريم وحم فصلت" فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال.
الآية: 30 - 31 {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين}
يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة. "من فرعون" بدل من "العذاب المهين" فلا تتعلق "من" بقوله: "من العذاب" لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. "إنه كان عاليا من المسرفين" أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف. كقوله: "إن فرعون علا في الأرض" [القصص: 4]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله.
الآية: 32 {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}
قوله تعالى: "ولقد اخترناهم" يعني بني إسرائيل. "على علم" أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. "على العالمين" أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الأمة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران:110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم؛ حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: "كنتم خير أمة" أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.
الآية: 33 {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}
قوله تعالى: "وآتيناهم من الآيات" أي من المعجزات لموسى. "ما فيه بلاء مبين" قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث: إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به؛ قال عبدالرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله: "بلاء مبين" أربعة أوجه: أحدها: نعمة ظاهرة؛ قال الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى: "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا" [الأنفال: 17]. وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
الثاني: عذاب شديد؛ قاله الفراء. الثالث: اختبار يتميز به المؤمن من الكافر؛ قاله عبدالرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة؛ ثم قرأ "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" [الأنبياء: 35].
الآية: 34 - 36 {إن هؤلاء ليقولون، إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين، فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين}
قوله تعالى: "إن هؤلاء ليقولون" يعني، كفار قريش "إن هي إلا موتتنا الأولى" ابتداء وخبر؛ مثل: "إن هي إلا فتنتك" [الأعراف: 155]، "إن هي إلا حياتنا الدنيا" [المؤمنون: 37] "وما نحن بمنشرين" أي بمبعوثين. أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا: أحدهما: قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا؛ لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات؛ لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف؛ فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء؛ فلم لا يرجع من مضى من الآباء؛ حكاه الماوردي. ثم قيل: "فأتوا بآبائنا" مخاطبة ولنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ كقوله: "رب ارجعون" [المؤمنون:99] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولأتباعه.
الآية: 37 - 39 {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين، وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}
قوله تعالى: "أهم خير أم قوم تبع" هذا استفهام إنكار؛ أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب؛ إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن؛ فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمي كل واحد منهم تباعا لأنه يتبع صاحب. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل؛ وقال:
يرد المياه حضيرة ونفيضة ورد القطاة إذا اسمأل التبع
والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت. وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع؛ قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش وهو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الأذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات: أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره؛ ولذلك قال عليه السلام: (ولا أدري أتبع لعين أم لا). ثم قد روي عنه أنه قال: (لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا) فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه؛ وهو - والله أعلم - أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها؛ فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه:
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء - ويقال بناحية حمير - في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب "هذا قبر حُبَّى ولميس" ويروى أيضا: "حبي وتماضر" ويروى أيضا: "هذا قبر رضوي وقبر حب ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا؛ وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما".
قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: (أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام؛ فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام". ثم ختم الكتاب ونقش عليه: "لله الأمر من قبل ومن بعد" [الروم: 4]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبدالله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تبع الأول. وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في "اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية" للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص.
واختلف هل كان نبيا أو ملكا؛ فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها؛ حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات. وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم؛ فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر.
قوله تعالى: "والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين" "الذين" في موضع رفع عطف على "قوم تبع". "أهلكناهم" صلته. ويكون "من قبلهم" متعلقا به. ويجوز أن يكون "من قبلهم" صلة "الذين" ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان "أهلكناهم" على أحد أمرين: إما أن يقدر معه "قد" فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف؛ كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون "والذين من قبلهم" ابتداء خبره "أهلكناهم". ويجوز أن يكون "الذين" في موضع جر عطفا على "تبع" كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون "الذين" في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه "أهلكناهم". والله أعلم.
قوله تعالى: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين" أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين؛ وهو قول الكلبي. "ما خلقناهما إلا بالحق" أي إلا بالأمر الحق؛ قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق؛ قال الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق لإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في "الأنبياء". "ولكن أكثرهم" يعني أكثر الناس "لا يعلمون" ذلك.
الصفحة رقم 497 من المصحف تحميل و استماع mp3