تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 599 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 599

599- تفسير الصفحة رقم599 من المصحف
الآية: 8 {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه}
قوله تعالى: "جزاؤهم" أي ثوابهم. "عند ربهم" أي خالقهم ومالكهم. "جنات" أي بساتين. "عدن" أي إقامة. والمفسرون يقولون: "جنات عدن" بطنان الجنة، أي وسطها؛ تقول: عدن بالمكان يعدن [عدنا وعدونا]: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره. قال الأعشى:
وإن يستضافوا إلى حكمه يضافوا إلى راجح قد عدن
"تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا" لا يظعنون ولا يموتون. "رضي الله عنهم" أي رضي أعمالهم؛ كذا قال ابن عباس. "ورضوا عنه" أي رضوا هم بثواب اللّه عز وجل. "ذلك" أي الجنة. "لمن خشي ربه" أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
سورة الزلزلة
المقدمة
قال العلماء: وهذه السورة فضلها كثير، وتحتوي على عظيم: روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من قرأ "إذا زلزلت"، عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ "قل يا أيها الكافرون" [الكافرون: 1] عدلت له بربع القرآن، ومن قرأ "قل هو الله أحد" [الإخلاص: 1] عدلت له بثلث القرآن). قال: حديث غريب، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من قرأ إذا زلزلت أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله). وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: لما نزلت "إذا زلزلت" بكى أبو بكر؛ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر اللّه لكم، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم].
الآية: 1 {إذا زلزلت الأرض زلزاله}
قوله تعالى: "إذا زلزلت الأرض" أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس، وكان يقول: في النفخة الأولى يزلزلها - وقال مجاهد - ؛ لقوله تعالى: "يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة" [النازعات: 6] ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها وهي الأثقال. وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض؛ كقولك: لأعطينك عطيتك؛ أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رؤوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها، وهو مصدر أيضا، كالوسواس والقلقال والجرجار. وقيل: الكسر المصدر. والفتح الاسم.
الآية: 2 {وأخرجت الأرض أثقاله}
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها. وإذا كان قوقها، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: "أثقالها": موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان. وقالت الخنساء:
أبعد ابن عمرو من آل الشر يد حلت به الأرض أثقالها
تقول: لما دفن عمرو صار حلية لأهل القبور، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال: كانت العرب تقول: إذا كان الرجل سفاكا للدماء: كان ثقلا على ظهر الأرض؛ فلما مات حطت الأرض عن ظهرها ثقلها. وقيل: "أثقالها" كنوزها؛ ومنه الحديث: (تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة...).
الآية: 3 {وقال الإنسان ما له}
قوله تعالى: "وقال الإنسان" أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو الأسود بن عبد الأسد. وقيل: أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى: من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة؛ لأنهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها، حتى يتحققوا عمومها؛ فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال: إن المراد بالإنسان الكفار خاصة، جعلها زلزلة القيامة؛ لأن المؤمن معترف بها، فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فلذلك يسأل عنها. "ما لها" أي ما لها زلزلت. وقيل: ما لها أخرجت أثقالها، وهي كلمة تعجيب؛ أي لأي شيء زلزلت. ويجوز أن يحيى اللّه الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الأرض عن الموتى أحياء، فيقولون من الهول: ما لها.
الآية: 4 - 6 {يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم}
قوله تعالى: "يومئذ تحدث أخبارها" "يومئذ" منصوب بقوله: "إذا زلزلت". وقيل: بقوله "تحدث أخبارها"؛ أي تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل: هو من قول اللّه تعالى. وقيل: من قول الإنسان؛ أي يقول الإنسان ما لها تحدث أخبارها؛ متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية "يومئذ تحدث أخبارها" قال: (أتدرون ما أخبارها - قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: (فهذه أخبارها). قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي، قوله "يومئذ تحدث أخبارها":
فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: "تحدث أخبارها" بأعمال العباد على ظهرها؛ قال أبو هريرة، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة. الثاني: تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها؛ قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنه قال: (إذا كان أجل العبد بأرض أوثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه اللّه، فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني). أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم. الثالث: أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها؟ قال ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن اللّه تعالى يقلبها حيوانا ناطقا؛ فتتكلم بذلك. الثاني: أن اللّه تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري: تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى.
قوله تعالى: "بأن ربك أوحى لها" أي إنها تحدث أخبارها أوحي اللّه "لها"، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع "إلى". قال العجاج يصف الأرض:
وحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت
وهذا قول أبي عبيدة: "أوحى لها" أي إليها. وقيل: "أوحى لها" أي أمرها؛ قال مجاهد. وقال السدي: "أوحى لها" أي قال لها. وقال: سخرها. وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الأرض أثقالها، تحدث الأرض أخبارها؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره.
قوله تعالى: " يومئذ يصدر الناس أشتاتا" أي فرقا؛ جمع شت. قيل: ءن موقف الحساب؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار؛ كما قال تعالى: "يومئذ يتفرقون" [الروم: 14] "يومئذ يصدعون" [الروم: 43]. وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. "أشتاتا" يعني فرقا فرقا. " ليروا أعمالهم" يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا أزددت إحسانا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي)؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول: "أشتاتا" متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور؛ يصدرون أشتاتا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم؛ فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف. "أشتاتا" أي يبعثون من أقطار الأرض. وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير، مجازه: تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم. واعترض قوله "يومئذ يصدر الناس أشتاتا" متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة "ليروا" بضم الياء؛ أي ليريهم اللّه أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها؛ وروي ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.
الآية: 7 - 8 {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}
قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث: (الذرة لا زنة لها) وهذا مثل ضربه الله تعالى: أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" [النساء : 40]. وقد تقدم الكلام هناك في الذر، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر: أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الدر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة. وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل، مثقال ذرة من شر من مؤمن، يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده وأهله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال: (ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير، حتى تعطوه يوم القيامة). قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير" [الشورى : 30]. وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل "ويطعمون الطعام على حبه" [الإنسان : 8] كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة. وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه؛ فإنه يوشك أن يكثر، ويحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر؛ وقاله سعيد بن جبير. والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء.
قراءة العامة "يره" بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم: "يره" بضم الياء؛ أي يريه الله إياه. والأولى الاختيار؛ لقوله تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا" [آل عمران: 30] الآية. وسكن الهاء في قوله"يره" في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل "يره" أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا:
إن من يعتدي ويكسب إثما وزن مثقال ذرة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرا وبفعل الجميل أيضا جزاه
هكذا قوله تبارك ربي في إذا زلزلت وجل ثناه
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن؛ وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لم يقل به. وروى كعب الأحبار أنه فال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره". قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى : "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" قال: في الحال قبل المآل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر؛ فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحمر، لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم "الدلدل"، التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة؛ قاله ابن العربي. وفي الموطأ: أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب؛ فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقال : أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. وروى المطلب بن حنطب : أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة! قال: (نعم) فقال الأعرابي: واسوأتاه! مرارا: ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان). وقال الحسن: قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع "فمن يعمل مثقال ذرة" الآيات؛ قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي : وروى أن صعصة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة: حسبي حسبي؛ إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته. وروى معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه "إذا زلزلت - حتى إذا بلغ - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" قال: حسبي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (دعوه فإنه قد فقه). ويحكي أن أعرابيا أخر" خيرا يره" فقيل: قدمت وأخرت. فقال:
خذا بطنَ هَرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
سورة العاديات
الآية: 1 - 2 {والعاديات ضبحا، فالموريات قدح}
قوله تعالى: "والعاديات ضبحا" أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي تحمحم. وقال الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة. قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال:"يس. والقرآن الحكيم" [يس: 1]، وأقسم بحياته فقال:"لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون" [الحجر: 72]، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: "والعاديات ضبحا".. . الآيات الخمس. وقال أهل اللغة: وطعنة ذات رشاش واهيه طعنتها عند صدور العادية يعني الخيل. وقال آخر:
والعاديات أسابي الدماء بها كأن أعناقها أنصاب ترجيب
يعني الخيل. وقال عنترة:
والخيل تعلم حين تضبح في حياض الموت ضبحا
وقال آخر:
لست بالتبع اليماني إن لم تضبح في سواد العراق
وقال أهل اللغة: وأصل الضبح والضباح للثعالب؛ فاستعير للخيل. وهو من قول العرب: ضبحته النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر:
فلما أن تلهوجنا شواء به اللهبان مقهورا ضبيحا
وأنضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلا. وقال:
علقتها قبل انضباح لوني
وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. ونصب "ضبحا" على المصدر؛ أي والعاديات تضبح ضبحا. والضبح أيضا الرماد. وقال البصريون: "ضبحا" نصب على الحال. وقيل: مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت؛ وهو السير. وقال أبو عبيدة: الضبح والضبع: بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد: الضبح مد أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بين كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء؛ فقال المنافقون : إنهم قتلوا؛ فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر: (من لم يعرف حرمة فرس الغازي، فيه شعبة من النفاق). وقول ثان: أنها الإبل؛ قال مسلم : نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال علي هي الإبل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي: تمارى علي وابن عباس في "العاديات"، فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل؛ ألا تراه يقول "فأثرن به نقعا" [العاديات : 4] فهل تثير إلا بحوافرها! وهل تضبح الإبل! فقال علي: ليس كما فلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد؛ ثم قال له علي: أتفتي الناس بما لا تعلم! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير؛ فكيف تكون العاديات ضبحا! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى عرفة. قال ابن عباس: فرجعت إلى قول علي، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي. ومنه قول صفية بنت عبدالمطلب :
فلا والعاديات غداه جمع بأيديها إذا سطع الغبار
يعني الإبل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي. وقال آخر:
رأى صاحبي في العاديات نجيبة وأمثالها في الواضعات القوامس
ومن قال هي الإبل فقوله "ضبحا" بمعنى ضبعا؛ فالحاء عنده مبدلة من العين؛ لأنه يقال: ضبعت الإبل وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد: الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثرها ما يستعمل في الخيل. والضبع في الإبل. وقد تبدل الحاء من العين. أبو صالح: الضبح من الخيل : الحمحمة، ومن الإبل التنفس. وقال عطاء: ليس شيء من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب؛ وروي عن ابن عباس. وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول: ضبح الثعلب؛ وضبح في غير ذلك أيضا. قال توبة:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر ضابح
زقا الصدى يزقو زقاء: أي صاح. وكل زاق صائح. والزقية: الصيحة.
قوله تعالى: "فالموريات قدحا" قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها؛ وروي عن ابن عباس. وعنه أيضا: أورت بحوافرها غبارا. وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار؛ وإنما هذا في الإبل. وروى ابن نجيح عن مجاهد "والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا" قال قال ابن عباس : هو في القتال وهو في الحج. ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى، فتخرج منها النار. وأصل القدح الاستخراج؛ ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد. واقتدحت بالزند. واقتدحت المرق: غرفته. وركى قدوح : تغترف باليد. والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد. والمقدحة: ما تقدح به النار. والقداحة والقداح : الحجر الذي يوري النار. يقال : ورى الزند (بالفتح) يري وريا: إذا خرجت ناره. وفيه لغة أخرى: وري الزند (بالكسر) يري فيهما. وقد مضى هذا في سورة "الواقعة". و" قدحا" انتصب بما انتصب به "ضبحا". وقيل : هذه الآيات في الخيل؛ ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم. ومنه يقال للحرب إذا ألتحمت : حمي الوطيس. ومنه قوله تعالى: "كلما أو قدوا نارا للحرب أطفأها الله" [المائدة: 64]. وروي معناه عن ابن عباس أيضا، وقال قتادة. وعن ابن عباس أيضا، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد بالموريات قدحا: مكر الرجال في الحرب؛ وقاله مجاهد وزيد بن أسلم. والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك. وعن ابن عباس أيضا: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم. وعنه أيضا: أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابا. وكل من قرب من العدو يوقد نيرانا كثيرة ليظنهم العدو كثيرا. فهذا إقسام بذلك. قال محمد بن كعب: هي النار تجمع. وقيل هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة. وقال عكرمة : هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، ويظهر بها، من إقامة الحجج، وإقامة الدلائل، وإيضاح الحق، وإبطال الباطل. وروى ابن جريح عن بعضهم قال: فالمنجحات أمرا وعملا، كنجاح الزند إذا أوري.
قلت: هذه الأقوال مجاز؛ ومنه قولهم: فلان يوري زناد الضلالة. والأول: الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب، وكان أبو حباحب شيخا من مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نويرة تقدم مرة وتخمد أخرى؛ فإن استيقظ لها أحد أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحد. فشبهت العرب هذه النار بناره؛ لأنه لا ينتقع بها. وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا، فكذلك يسمونها. قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
تَقُدَّ السَّلوقي المضاعفَ نسجُه وتوقد بالصُفاح نار الحُباحِب
الآية: 3 {فالمغيرات صبح}
الخيل تغير على العدو عند الصبح؛ عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا، ويأتون العدو صبحا؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس. ومنه قوله تعالى: "فساء صباح المنذرين" [الصافات : 177]. وقيل : لعزهم أغاروا نهارا، و" صبحا" على هذا، أي علانية، تشبيها بظهور الصبح. وقال ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما : هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من منى إلى جمع. والسنة ألا تدفع حتى تصبح؛ وقاله القرطبي. والإغارة: سرعة السير؛ ومنه قولهم: أشرق ثبير، كيما نغير.
الآية: 4 {فأثرن به نقع}
أي غبارا؛ يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به. قال عبدالله بن رواحة:
عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء
والكناية في "به" ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة. وإذا علم المغني جاز أن يكني عما لم يجر له ذكر بالتصريح؛ كما قال "حتى توارت بالحجاب"[ص: 32]. وقيل: "فأثرن به"، أي بالعدو "نقعا". وقد تقدم ذكر العدو. وقيل: النقع: ما يبين مزدلفة إلى مني؛ قاله محمد ابن كعب القرظي. وقيل: إنه طريق الوادي؛ ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. وفي الصحاح: النقع: الغبار، والجمع: نقاع. والنقع: محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه. وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر. والنقع الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء؛ والجمع: نقاع وأنقع؛ مثل بحر وبحار وأبحر.
قلت: وقد يكون النقع رفع الصوت، ومنه حديث عمر حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد؛ فقال: وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان، ما لم يكن نقع، ولا لقلة. قال أبو عبيد: يعني بالنقع رفع الصوت؛ على هذا رأيت قول الأكثرين من أهل العلم؛ ومنه قول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق يحلبوها ذات جرس وزجل
ويروى "يحلبوها" أيضا. يقول:متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب، أي جمعوا لها. وقوله "ينقع صراخ ": يعني رفع الصوت. وقال الكسائي : قوله "نقع ولا لقلقة" النقع: صنعه الطعام؛ يعني في المأتم. يقال منه: نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة؛ وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم. وقال بعضهم: يريد عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس؛ يذهب إلى أن النقع هو الغبار. ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام. فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس. قال بعضهم : النقع : شق الجيوب؛ وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللقطة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافا. وقرأ أبو حيوة"فأثرن" بالتشديد؛ أي أرت آثار ذلك. ومن خفف فهو من أثار: إذا حرك؛ ومنه "وأثاروا الأرض"[الروم: 9].
الآية: 5 {فوسطن به جمع}
قوله تعالى: "جمعا"مفعول بـ "وسطن به جمعا"؛ أي فوسطن بركبانهن العدو؛ أي الجمع الذي أغاروا عليهم. وقال ابن مسعود: "فوسطن به جمعا": يعني مزدلفة؛ وسميت جمعا لاجتماع الناس. ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطا؛ أي صرت وسطهم. وقرأ علي رضي الله عنه "فوسطن" بالتشديد، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء؛ لغتان بمعنى، يقال: جعلها الجمع قسمين. (بالتشديد والتخفيف) وتوسطهم:بمعنى واحد. وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين. والتخفيف: صرن في وسط الجمع؛ وهما يرجعان إلى معنى الجمع.
الآية: 6 {إن الإنسان لربه لكنود}
هذا جواب لنعم القسم؛ أي طبع الإنسان على كفران النعمة. قال ابن عباس: "لكنود" لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن. وقال: يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه:
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى انت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم
وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الكنود، هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عده). وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبكم بشراركم)؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: (من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده). خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقد روي عن عباس أيضا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضر موت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور. وبلسان كنانة: البخيل السيئ الملكة؛ وقاله مقاتل: وقال الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعد
أي كفور. ثم قيل: هو الذي يكفر باليسير، ولا يشكر الكثير. وقيل: الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة كندة، لأنها جحدت أبها. وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر:
دع البخلاء إن شمخوا وصدوا وذكرى بخل غانية كنود
وقيل: الكنود: من كند إذا قطع؛ كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. ويقال: كند الحبل: إذا قطعه. قال الأعشى:
أميطي تميطي بصلب الفؤاد وصول حبال وكنادها
فهذا يدل على القطع. ويقال: كند يكند كنودا: أي كفر النعمة وجحدها، فهو كنود. وامرأة كنود أيضا، وكند مثله. قال الأعشى:
أحدث لها تحدث لوصلك إنها كند لوصل الزائر المعتاد
أي كفور للمواصلة. وقال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر؛ يقول إنه لكفور؛ ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. قال المبرد: الكنود: المانع لما عليه. وأنشد لكثير:
أحدث لها تحدث لوصلك إنها كند لوصل الزائر المعتاد
وقال أبو بكر الواسطي: الكنود: الذي ينفق نعم الله في معاصي الله. وقال أبو بكر الوراق: الكنود: الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. وقال الترمذي: الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي يرى النعمة ولا يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقيل: هو الحقود الحسود. وقيل: هو الجهول لقدره. وفي الحكمة: من جهل قدرة: هتك ستره.
قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة؛ فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال.
الآية: 7 {وإنه على ذلك لشهيد}
أي وإن الله عز وجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد؛ وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: "وإنه" أي وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع؛ وروي عن مجاهد أيضا.
الآية: 8 {وإنه لحب الخير لشديد}
قوله تعالى: "وإنه" أي الإنسان من غير خلاف. "لحب الخير" أي المال؛ ومنه قوله تعالى : "إن ترك خيرا" [البقرة: 180]. وقال عدي:
ماذا ترجي النفوس من طلب الخير وحب الحياة كاربها
"لشديد" أي لقوي في حبه للمال. وقيل:"لشديد" لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقلية مال الفاحش المتشدد
يقال: اعتامه واعتماه؛ أي أختاره. والفاحش: البخيل أيضا. ومنه قوله تعالى: "ويأمركم بالفحشاء" [البقرة: 268] أي البخل. قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا؛ وعسى أن يكون شرا وحراما؛ ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا لذلك. وسمى الجهاد سواء، فقال: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء"[آل عمران: 174] على ما يسميه الناس. قال الفراء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير؛ فلما تقدم الحب قال: شديد، وحذف من آخره ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، ولرؤس الآي؛ كقوله تعالى: "في يوم عاصف" [إبراهيم: 18] والعصوف: للريح لا الأيام، فلما جرى ذكر الريح؛ كأنه قال: في يوم عاصف الريح.
الآية: 9 - 11 {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير}
قوله تعالى: "أفلا يعلم" أي ابن آدم "إذا بعثر" أي أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. وعن محمد بن كعب قال: ذلك حين يبعثون. الفراء: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: "بحثر" بالحاء مكان العين؛ وحكاه الماوردي عن ابن مسعود، وهما بمعنى. "وحصل ما في الصدور" أي ميز ما فيها من خير وشر؛ كذا قال المفسرون: وقال ابن عباس: أبرز. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم "وحصل" بفتح الحاء وتخفيف الصاد وفتحها؛ أي ظهر. "إن ربهم بهم يومئذ لخبير" أي عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم. وقوله : "إذا بعثر" العامل في "إذا": "بعثر"، ولا يعمل فيه "يعلم"؛ إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت، إنما يراد في الدنيا. ولا يعمل فيه "خبير"؛ لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها. والعامل في "يومئذ" : "خبير"، وإن فصلت اللام بينهما؛ لأن موضع اللام الابتداء. وإنما دخلت في الخبر لدخول "إن" على المبتدأ. ويروى أن الحجاج قرأ هذه السورة على المنبر يحضهم على الغزو، فجرى على لسانه: "أن ربهم" بفتح الألف، ثم استدركها فقال: "خبير" بغير لام. ولولا اللام لكانت مفتوحة، لوقوع العلم عليها. وقرأ أبو السمال "أن ربهم بهم يومئذ خبير". والله سبحانه وتعالى أعلم.