تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 446 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 446

446 : تفسير الصفحة رقم 446 من القرآن الكريم

سورة الصافات
وهي مكية
قال النسائي أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد ـ يعني ابن الحارث ـ عن ابن أبي ذئب قال أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمن بالصافات, تفرد به النسائي.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** وَالصّافّاتِ صَفّا * فَالزّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنّ إِلَـَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبّ الْمَشَارِقِ
قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {والصافات صف} وهي الملائكة {فالزاجرات زجر} هي الملائكة {فالتاليات ذكر} هي الملائكة, وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة: الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعل لنا ترابها طهوراً إذا لم نجد الماء» وقد روى مسلم أيضاً وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟» قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قالصلى الله عليه وسلم «يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى: {فالزاجرات زجر} أنها تزجر السحاب, وقال الربيع بن أنس {فالزاجرات زجر} مازجر الله تعالى عنه في القرآن, وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم {فالتاليات ذكر} قال السدي الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الاَية كقوله تعالى: {فالملقيات ذكراً عذراً أو نذر}. وقوله عز وجل: {إن إلهكم لواحد رب السموات والأرض} هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لاإله إلاهو رب السموات والأرض {ومابينهم} أي من المخلوقات {ورب المشارق} أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عز وجل: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون} وقال تعالى في الاَية الاَخرى: {رب المشرقين ورب المغربين} يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر.

** إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ * لاّ يَسّمّعُونَ إِلَىَ الْمَلإِ الأعْلَىَ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب, قرىء بالإضافة وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء الشفاف فتضيء لأهل الأرض كما قال تبارك وتعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين * وأعتدنا لهم عذاب السعير} وقال عز وجل {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} فقوله جل وعلا ههنا: {وحفظ} تقديره وحفظناها حفظاً {من كل شيطان مارد} يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله {لا يسمعون إلى الملأ الأعلى} أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات ومن فيها من الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدرته كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} ولهذا قال تعالى: {ويقذفون} أي يرمون {من كل جانب} أي من كل جهة يقصدون السماء منها {دحور} أي رجماً يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون {ولهم عذاب واصب} أي في الدار الاَخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت عظمته {وأعتدنا لهم عذاب السعير} وقوله تبارك وتعالى: {إلا من خطف الخطفة} أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الاَخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الأخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} أي مستنير. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للشياطين مقاعد في السماء قال فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً قال فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قصد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث, وستأتي إن شاء الله تعالى الأحاديث الواردة مع الاَثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخباراً عن الجن أنهم قالوا {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الاَن يجد له شهاباً رصداً * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشد}.

** فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ * وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوَاْ إِن هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أم من عددنا فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم, وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث ؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ثم بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال: {إنا خلقناهم من طين لازب} قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك: هوالجيد الذي يلتزق بعضه ببعض, وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد, وقال قتادة هوالذي يلزق باليد, وقوله عز وجل: {بل عجبت ويسخرون} أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك.
قال قتادة: عجب محمد صلى الله عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم {وإذا رأوا آية} أي دلالة واضحة على ذلك {يستسخرون} قال مجاهد وقتادة يستهزئون {وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون} يستبعدون ذلك ويكذبون به {قل نعم وأنتم داخرون} أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون تراباً وعظاماً وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى: {وكل أتوه داخرين}. ثم قال جلت عظمته: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} أي فإنما هو أمر واحد من الله عز وجل, يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض, فإذا هم بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة, والله تعالى أعلم.

** وَقَالُواْ يَوَيْلَنَا هَـَذَا يَوْمُ الدّينِ * هَـَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * احْشُرُواْ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا, فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين} فتقول الملائكة والمؤمنون {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم, وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو العالية وزيد بن أسلم, وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال إخوانهم. وقال شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر يقول {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال: أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا, وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر, وقال خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساؤهم وهذا غريب والمعروف عنه الأول كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم. وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعير} وقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون} أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثاً يحدث عن بشير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلاً» ثم قرأ {وقفوهم إنهم مسؤولون} ورواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم, ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً. وقال عبد الله بن المبارك: سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه, ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {ما لكم لا تناصرون ؟} أي كما زعمتم أنكم جمع منتصر {بل هم اليوم مستسلمون} أي ينقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه, والله أعلم.