تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 499 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 499

499 : تفسير الصفحة رقم 499 من القرآن الكريم

سورة الجاثية
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** حمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثّ مِن دَآبّةٍ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مّن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه, وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض, وما فيها من المخلوقات المختلفة والأجناس, والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات, وما في البحر من الأصناف المتنوعة واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران, هذا بظلامه وهذا بضيائه, وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه, وسماه رزقاً لأن به يحصل الرزق {فأحيا به الأرض بعد موته} أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عز وجل: {وتصريف الرياح} أي جنوباً وشمالاً ودبوراً وصباً, برية وبحرية, ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر, ومنها ما هو للقاح, ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج , وقال سبحانه وتعالى: أولاً: {لاَيات للمؤمنين} ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى, وهذه الاَيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس, وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها, وبث فيها من كل دابة, وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لاَيات لقوم يعقلون} وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً غريباً في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة, والله أعلم.

** تَلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لّكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَىَ عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ * مّن وَرَآئِهِمْ جَهَنّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـَذَا هُدًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ
يقول تعالى: {تلك آيات الله} يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات {نتلوها عليك بالحق} أي متضمنة الحق من الحق, فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ ثم قال تعالى: {ويل لكل أفاك أثيم} أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بآيات الله ولهذا قال: {يسمع آيات الله تتلى عليه} أي تقرأ عليه {ثم يصر} أي على كفره وجحوده استكباراً وعناداً {كأن لم يسمعه} أي كأنه ما سمعها {فبشره بعذاب أليم} أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذاباً أليماً موجعاً {وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزو} أي إذا حفظ شيئاً من القرآن كفر به واتخذه سخرياً وهزواً {أولئك لهم عذاب مهين} أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به, ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو, ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: {من ورائهم جهنم} أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة {ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئ} أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي ولا تغني عنهم الاَلهة التي عبدوها من دون الله شيئاً {ولهم عذاب عظيم} ثم قال تبارك وتعالى: {هذا هدى} يعني القرآن {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} وهو المؤلم الموجع. والله سبحانه وتعالى أعلم.

** اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ * قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر {لتجري الفلك} وهي السفن فيه بأمره تعالى. فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {ولتبتغوا من فضله} أي في المتاجر والمكاسب {ولعلكم تشكرون} أي على حصول المنافع المجلوبة من الأقاليم النائية القصية, ثم قال عز وجل: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار, وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال: {جميعاً منه} أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك, كما قال تبارك وتعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} كل شيء هو من الله. وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه, فذلك جميعاً منه ولا ينازعه فيه المنازعون, واستيقن أنه كذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال: سأل رجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مم خلق الخلق ؟ قال: من النور والنار والظلمة والثرى. قال: وائت ابن عباس رضي الله عنهما فاسأله, فأتاه فقال له مثل ذلك, فقال: ارجع إليه فسله مما خلق ذلك كله. فرجع إليه فسأله فتلا {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} هذا أثر غريب وفيه نكارة {إن في ذلك لاَيات لقوم يتفكرون}.
وقوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} أي ليصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء الإسلام, أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم, ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة, وقال مجاهد: {لا يرجون أيام الله} لا ينالون نعم الله تعالى, وقوله تبارك وتعالى: {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون} أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الاَخرة, ولهذا قال تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم خيرها وشرها, والله سبحانه وتعالى أعلم.