تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 561 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 561

561 : تفسير الصفحة رقم 561 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَأَيّهَا الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللّهُ النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قال سفيان الثوري عن منصور عن رجل عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نار} يقول: أدبوهم وعلموهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {قوا أنفسكم وأهليكم نار} يقول اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله, وأمروا أهليكم بالذكر ينجكم الله من النار, وقال مجاهد {قوا أنفسكم وأهليكم نار} قال اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله, وقال قتادة تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيتلله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها, وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه.
وفي معنى هذه الاَية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» هذا لفظ أبي داود, وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك, قال الفقهاء وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمريناً له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر, والله الموفق.
وقوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة} وقودها أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم {والحجارة} قيل المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي, هي حجارة من كبريت, زاد مجاهد: أنتن من الجيفة, وروى ذلك ابن أبي حاتم رحمه الله ثم قال حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن أبي روّاد ـ قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} وعنده بعض أصحابه وفيهم شيخ فقال الشيخ: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها» قال: فوقع الشيخ مغشياً عليه, فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي فناداه قال: «يا شيخ قل لا إله إلا الله» فقالها فبشره بالجنة. قال: فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا ؟ قال: «نعم يقول الله تعالى: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} هذا حديث مرسل غريب.
وقوله تعالى: {عليها ملائكة غلاظ شداد} أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله (شداد) أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج. كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة أنه قال: إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم, كالحة أنيابهم, قد نزع الله من قلوبهم الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة, لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الاَخر ثم يجدون على الباب التسعة عشر, عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها.
وقوله: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه, وهؤلاء هم الزبانية ـ عياذاً بالله منهم ـ وقوله: {يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون} أي يقال للكفرة يوم القيامة: لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون, وإنما تجزون اليوم بأعمالكم, ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوح} أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات, وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
قال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى حدثنا محمد, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب: سمعت النعمان بن بشير يخطب, سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوح} قال: يذنب ثم لا يرجع فيه, وقال الثوري عن سماك عن النعمان عن عمر قال: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه. وقال أبو الأحوص وغيره عن سماك عن النعمان: سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود إليه أبداً. وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله {توبة نصوح} قال: يتوب ثم لا يعود.
وقد روي هذا مرفوعاً فقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه» تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري, وهو ضعيف, والموقوف أصح والله أعلم. ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ويندم على ما سلف منه في الماضي ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل, ثم إن كان الحق لاَدمي رده إليه بطريقه. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عبد الكريم, أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن مغفل قال: دخلت مع أبي على عبد الله بن مسعود فقال: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الندم توبة ؟» قال: نعم وقال مرة: نعم سمعته يقول: «الندم توبة» ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم وهو ابن مالك الجزري به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثني الوليد بن بكير أبو خباب عن عبد الله بن محمد العدوي عن أبي سنان البصري عن أبي قلابة, عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة, منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها, وذلك مما حرم الله عليه ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ومنها نكاح الرجل الرجل وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله, ومنها نكاح المرأة المرأة وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله, وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.
قال زر: فقلت لأبي بن كعب: فما التوبة النصوح ؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «هو الندم على الذنوب حين يفرط منك فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبداً». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا عباد بن عمرو حدثنا أبو عمرو بن العلاء سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه إذا ذكرته, فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات, كما ثبت في الصحيح «الإسلام يجب ما قبله, والتوبة تجب ما قبلها» وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات ـ كما تقدم في الحديث وفي الأثر ـ ثم لا يعود فيه أبداً. أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضاراً في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام: «التوبة تجب ما قبلها ؟» وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية, ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والاَخر» فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة فالتوبة بطريق الأولى, والله أعلم.
وقوله تعالى: {عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار} وعسى من الله موجبة {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} كما تقدم في سورة الحديد {يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفىء. وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن يحيى بن حسان عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول: «اللهم لا تخزني يوم القيامة».
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن مقاتل المروزي, حدثنا ابن المبارك, أنبأنا ابن لهيعة, حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة, وأول من يؤذن له برفع رأسه, فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم, وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم, فقال رجل: يا رسول الله, وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ؟ قال: غر محجلون من آثار الطهور ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم, وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود, وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم».

** يَأَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين, هؤلاء بالسلاح والقتال, وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم} أي في الدنيا {ومأواهم جهنم وبئس المصير} أي في الاَخرة ثم قال تعالى: {ضرب الله مثلاً للذين كفرو} أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم, ثم ذكر المثل فقال: {امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين} أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط {فخانتاهم} أي في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان ولا صدقاهما في الرسالة, فلم يجد ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً, ولهذا قال تعالى: {فلم يغنيا عنهما من الله شيئ} أي لكفرهما {وقيل} أي للمرأتين {ادخلا النار مع الداخلين} وليس المراد بقوله: {فخانتاهم} في فاحشة بل في الدين, فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما قدمنا في سورة النور.
قال سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قرم: سمعت ابن عباس يقول في هذه الاَية {فخانتاهم} قال: ما زنتا, أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون, وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه, وقال العوفي عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما, فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به, وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء. وقال الضحاك عن ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين, وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم, وقد استدل بهذه الاَية الكريمة بعض العلماء على ضعف الحديث الذي يأثره كثير من الناس: من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل له وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا رسول الله أنت قلت من أكل مع مغفور له غفر له ؟ قال: لا ولكني الاَن أقوله.

** وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ وَنَجّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا وَصَدّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها, ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه. وقال ابن جرير: حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُليّ, حدثنا محمد بن جعفر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سليمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس, فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها, وكانت ترى بيتها في الجنة, ثم رواه عن محمد بن عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد عن سليمان التيمي به.
ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية عن هشام الدستوائي, حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب ؟ فيقال: غلب موسى وهارون, فتقول: آمنت برب موسى وهارون, فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها, فإن مضت على قولها فألقوها عليها, وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي, فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة, فمضت على قولها وانتزعت روحها وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح, فقولها {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} قالت العلماء: اختارت الجار قبل الدار, وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع {ونجني من فرعون وعمله} أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله {ونجني من القوم الظالمين} وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: كان إيمان امرأة فرعون من قبل إيمان امرأة خازن فرعون, وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون فوقع المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله! فقالت لها بنت فرعون: ولك رب غير أبي ؟ قالت: ربي ورب أبيك ورب كل شيء الله, فلطمتها بنت فرعون وضربتها وأخبرت أباها, فأرسل فرعون إليها فقال: تعبدين رباً غيري ؟ قالت: نعم ربي وربك ورب كل شيء الله وإياه أعبد, فعذبها فرعون وأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها وأرسل عليها الحيات, فكانت كذلك, فأتى عليها يوماً فقال لها: ما أنت منتهية ؟ فقالت له: ربي وربك ورب كل شيء الله. فقال لها: إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي فقالت له: اقض ما أنت قاض, فذبح ابنها في فيها, وإن روح ابنها بشرها فقال لها: أبشري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا, فصبرت ثم أتى عليها فرعون يوماً آخر فقال لها مثل ذلك, فقالت له مثل ذلك, فذبح ابنها الاَخر في فيها, فبشرها روحه أيضاً وقال لها: اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا, قال: وسمعت امرأة فرعون كلام روح ابنها الأكبر ثم الأصغر, فآمنت امرأة فرعون وقبض الله روح امرأة خازن فرعون, وكشف الغطاء عن ثوابها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت, فازدادت إيماناً ويقيناً وتصديقاً فأطلع الله فرعون على إيمانها فقال للملأ: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها فقال لهم: إنها تعبد غيري, فقالوا له: اقتلها, فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها فدعت آسية ربها فقالت {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فوافق ذلك أن حضرها فرعون, فضحكت حين رأت بيتها في الجنة, فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها إنا نعذبها وهي تضحك, فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها.
وقوله تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجه} أي حفظته وصانته, والإحصان هو العفاف والحرية {فنفخنا فيه من روحن} أي بواسطة الملك وهو جبريل فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي, وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها, فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام, ولهذا قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه} أي بقدره وشرعه {وكانت من القانتين} قال الإمام أحمد: حدثنا يونس, حدثنا داود بن أبي الفرات عن علباء عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وقال: «أتدرون ما هذا ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون». وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام في كتابنا (البداية والنهاية) ولله الحمد والمنة, وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه عليه السلام في الجنة عند قوله تعالى {ثيبات وأبكار} آخر تفسير سورة التحريم, ولله الحمد والمنة.