تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 30 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 30

 {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ * وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَـٰفِرِينَ * فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوَٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ * ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }
، وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ فيه ثلاثة أوجه للعلماء :
الأول : أن المراد بالذين يقاتلونكم من شأنهم القتال ، أي دون غيرهم ، كالنساء ، والصبيان ، والشيوخ الفانية ، وأصحاب الصوامع .
الثاني : أنها منسوخة بآيات السيف الدّالة على قتالهم مطلقًا .
الثالث : أن المراد بالآية تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار ، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم ، وأعداؤكم الذين يقاتلونكم ، وأظهرها الأول وعلى القول الثالث فالمعنى يبينه ويشهد له قوله تعالىٰ : {وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً} .
{وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ * ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ}
. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة فقال قوم : هو صدّ العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت .
وقال قوم : المراد به حبس المحرم بسبب مرض ونحوه .
وقال قوم : المراد به ما يشمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك .
ولكن قوله تعالىٰ بعد هذا : {فَإِذَا أَمِنتُمْ} ، يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو المحرم ؛ لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض ، ونحو ذلك ، ويؤيّده أنه لم يذكر الشىء الذي منه الأمن ، فدلّ على أن المراد به ما تقدم من الإحصار ، فثبت أنه الخوف من العدوّ ، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض ، كما في حديث « من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص ، واللوص ، والعلوص » ، أخرجه ابن ماجه في سننه فهو ظاهر السقوط ، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض ، فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف . وقد يجاب أيضًا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن ، واللوص الذي هو وجه الأذن ، والعلوص الذي هو وجع البطن ؛ لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها ؛ فإذا أمن من وقوعها به فقد أمن من خوف .
أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها ؛ لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل ، لا واقع بالفعل ، فدلّ هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر . وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين :
الأول : في معنى الإحصار في اللغة العربية .
الثاني : في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء وأدلتها في ذلك ، ونحن نبيّن ذلك كله إن شاء اللَّه تعالىٰ .
اعلم أن أكثر علماء العربية يقولون : إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه ، قالوا : تقول العرب : أحصره المرض يُحصِره بضم الياء وكسر الصاد إحصارًا ، وأما ما كان من العدو فهو الحصر ، تقول العرب حصر العدو يَحصُره بفتح الياء وضم الصاد حَصْرًا بفتح فسكون ، ومن إطلاق الحصر في القرءان على ما كان من العدو قوله تعالىٰ : {وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ} ، ومن إطلاق الإحصار على غير العدوّ كما ذكرنا عن علماء العربية .
{لِلْفُقَرَاء ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ} . وقول ابن ميادة : وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول

وعكس بعض علماء العربية .
فقال : الإحصار من العدو ، والحصر من المرض ، قاله ابن فارس في «المجمل» ، نقله عنه القرطبي . ونقل البغوي نحوه عن ثعلب .
وقال جماعة من علماء العربية : إن الإحصار يستعمل في الجميع ، وكذلك الحصر ، وممن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفرّاء ، وممن قال : بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري .
قال مقيده عفا اللَّه عنه لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدوّ كما سترى تحقيقه إن شاء اللَّه ، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار . وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال :
الأول : أن المراد به حصر العدوّ خاصة دون المرض ونحوه ، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير رضي اللَّه عنهم وبه قال مروان وإسحٰق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم اللَّه .
وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدوّ خاصة ، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه ، ويطوف بالبيت ويسعى ، فيكون متحلّلاً بعمرة ، وحجة هذا القول متركبة من أمرين :
الأول : أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالىٰ : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ستّ بإطباق العلماء .
وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص ، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو ، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه ؛ وروي عن مالك رحمه اللَّه أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته ، وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في «مراقي السعود» بقوله : واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب

وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى ، وأنه نزل به القرءان العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز .
الأمر الثاني : ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلّل إلا بالطواف والسعي ، فمن ذلك ما رواه الشافعي في «مسنده» ، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدوّ .
قال النووي في «شرح المهذب» : إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وصححه أيضًا ابن حجر ، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول : « أليس حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم يحل من كل شىء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا » ومن ذلك ما رواه مالك في «الموطأ» ، والبيهقي عن ابن عمر أنه قال : « المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، فإذا اضطر إلى لبس شىء من الثياب التي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى » ومن ذلك ما رواه مالك في «الموطأ» . والبيهقي أيضًا عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديمًا أنه قال : خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها عبد اللَّه بن عباس ، وعبد اللَّه بن عمر ، والناس فلم يرخص لي أحد أن أُحل ، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة . والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك . قال ابن عبد البر : هو أبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمي ، شيخ أيوب ومعلمه كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة ،
ورواه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير .
ومن ذلك ما رواه مالك في «الموطأ» والبيهقي أيضًا عن سليمان بن يسار : « أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم ، فسأل، على الماء الذي كان عليه، عن العلماء ، فوجد عبد اللَّه بن عمر ، وعبد اللَّه بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، فذكر لهم الذي عرض له فكُلُّهُم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ، ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ، ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي » .
قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو ، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري ، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالاً ، ثم يحجان عامًا قابلاً ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ومن ذلك ما رواه مالك في «الموطأ»، والبيهقي أيضًا عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها كانت تقول : « المحرم لا يحله إلا البيت » والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو ، كما جزم به الزرقاني في «شرح الموطأ» ، هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه .
القول الثاني : في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه ، وما كان من مرض ونحوه ، من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم . وممن قال بهذا القول ابن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، وعروة بن الزبير ، وإبراهيم النخعي ، وعلقمة ، والثوري ، والحسن ، وأبو ثور ، وداود وهو مذهب أبي حنيفة . وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدوّ قد تقدمت في حجة الذي قبله .
وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة ، وابن خزيمة ، والحاكم ، والبيهقي عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول : « من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجّة أخرى » فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق .
وفي رواية لأبي داود وابن ماجه : «من عرج ، أو كسر ، أو مرض» ، فذكر معناه.
وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي: «من حبس بكسر أو مرض»، هذا الحديث سكت عليه أبو داود ، والمنذري ، وحسنه الترمذي .
وقال النووي في «شرح المهذب» ، بعد أن ساق حديث عكرمة هذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة ، وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول ، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين :
الأول : ما ذكره البيهقي في «السنن الكبرى» ، قال : وقد حمله بعض أهل العلم إن صح على أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض . فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه ، قال : لا حصر إلا حصر عدوّ واللَّه أعلم . انتهى منه بلفظه .
الوجه الثاني : هو حمل حلّه المذكور في الحديث على ما إذا اشترط في إحرامه أنه يحلّ حيث حبسه اللَّه بالعذر ، والتحقيق : جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه اللَّه ، ولا عبرة بقول من منع الاشتراط ؛ لثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت : دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير . فقال لها : « لعلك أردت الحجّ ؟ » قالت : واللَّه ما أجدني إلا وجعة . فقال لها : « حجّي واشترطي ، وقولي : اللهمّ محلّي حيث حبستني » . وكانت تحت المقداد بن الأسود .
وقد أخرج مسلم في «صحيحه» ، وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما :
أن ضباعة بنت الزبير قالت : يا رسول اللَّه إني امرأة ثقيلة ، وإني أريد الحج فكيف تأمرني أأهل ؟ قال : «أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ، قال : فأدركت .
وللنسائي في رواية : وقال: «فإن لك على ربك ما استثنيت » .
القول الثالث : في المراد بالإحصار أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة ، دون ما كان من العدو .
وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة ، وإنما جاز التحلل من إحصار العدوّ عند من قال بهذا القول ؛ لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به ، فإحصار العدوّ عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق .
ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية ، وأن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، كما عليه الجمهور وهو الحق .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدوّ ، وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحلّ إلا بعمرة ؛ لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالىٰ : {فَإِذَا أَمِنتُمْ} .
ولا سيّما على قول من قال من العلماء : إن الرخصة لا تتعدى محلها ، وهو قول جماعة من أهل العلم .
وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم ، فلا تنهض به حجة ؛ لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام ؛ بدليل ما قدمنا من حديث عائشة عند الشيخين ، وحديث ابن عباس عند مسلم ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من أنه صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير بن عبد المطّلب : « حجّي واشترطي » ولو كان التحلل جائزًا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو لما كان للاشتراط فائدة ، وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو ، والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن ، وإليه أشار في «مراقي السعود»، بقوله : والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا

وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام ، فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح ، فإن قيل : يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا ، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحلّ من غير أن تلزمه حجّة أخرى ، وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل ، وعليه حجة أخرى ، ويدلّ لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجّة أخرى .
وحديث الحجاج بن عمرو ، قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم : « فقد حلّ وعليه حجّة أخرى » .
فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم ، لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون .
قال البخاري في «صحيحه» ، في باب « من قال ليس على المحصر بدل » ما نصّه : وقال مالك وغيره ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ، ولا قضاء عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا ، وحلوا من كل شىء قبل الطواف ، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ، ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا أن يقضوا شيئًا ، ولا يعودوا له ، والحديبية خارج من الحرم . انتهى منه بلفظه .
وقد قال مالك في «الموطأ» ، إنه بلغه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي ، وحلقوا رءوسهم ، وحلوا من كل شىء قبل أن يطوفوا بالبيت ، وقبل أن يصل إليه الهدي ،
ثم لم يعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئًا ، ولا يعودوا لشىء . انتهى بلفظه من (الموطأ) . ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما ، قالوا : أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر ، أو مات ، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية ، وكانت عدتهم ألفين ؛ لأن الشافعي رحمه اللَّه ، قال : والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت ؛ لأنا علمنا من متواطىء أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون ، ثم اعتمر عمرة القضية ، فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال اهـ.
فهذا الشافعي رحمه اللَّه جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة ، في نفس ، ولا مال . وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدّم على النافي .
وقال ابن حجر في «الفتح» : ويمكن الجمع بين هذا إن صح ، وبين الذي قبله ، بأن الأمر كان على طريق الاستحباب ؛ لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر .
وقال الشافعي في عمرة القضاء : إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة اهـ .
وروى الواقدي نحو هذا من حديث ابن عمر قاله ابن حجر .
وقال البخاري في «صحيحه» في الباب المذكور، ما نصه : « وقال روح عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع» . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه ، وفيه : فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها ، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه اهـ. فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ممن روي عنه عكرمة الحديث الذي روي عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ، ولا سيّما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل ، وهو مصرح بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحجاج بن عمرو وعليه حجة أخرى ، محلّه فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام ، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين ، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية ، وأن الجمع الأخير لا يصح ؛ لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام اهـ .
وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحلّ حتى يبرأ ويطوف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم يحلّ من كل شىء حتى يحجّ عامًا قابلاً ، فيهدي أو يصوم ، إن لم يجد هديًا كما ثبت في «صحيح البخاري» ، من حديث ابن عمر كما تقدم .
فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر ، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة ، يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي ، أو يصوم إن لم يجد هديًا اهـ .
وفي المسألة قول رابع : وهو أنه لا إحصار بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بعذر كائنًا ما كان وهو ضعيف جدًا ، ولا معول عليه عند العلماء ؛ لأن حكم الإحصار منصوص عليه في القرءان والسنة ولم يرد فيه نسخ ، فادعاء دفعه بلا دليل واضح السقوط كما ترى ، هذا هو خلاصة البحث في قوله تعالىٰ : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} .
وأما قوله : {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، فجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، وبه قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال طاوس ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبو العالية ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وعبد الرحمٰن بن القاسم ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .
وقال جماعة من أهل العلم : إن المراد بما استيسر من الهدي إنما هو الإبل والبقر دون الغنم ، وهذا القول مروي عن عائشة ، وابن عمر ، وسالم ، والقٰسم ، وعروة بن الزبير ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم .
قال ابن كثير : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر .
ففي الصحيحين عن جابر قال : « أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة » .
قال مقيده ــ عفا اللَّه عنه ــ : لا يخفى أن التحقيق في هذه المسألة : أن المراد بما استيسر من الهدي ما تيسر مما يسمى هديًا ، وذلك شامل لجميع الأنعام : من إبل ، وبقر ، وغنم ، فإن تيسرت شاة أجزأت ، والناقة والبقرة أولى بالإجزاء .
وقد ثبت في «الصحيحين» ، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : « أهدى صلى الله عليه وسلم مرة غنمًا » .
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعًا ، وجمهور العلماء على أنه ينحره في المحل الذي حصر فيه ، حلاً كان أو حرمًا ، وقد نحر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية ، وجزم الشافعي وغيره بأن الموضع الذي نحروا فيه من الحديبية من الحلّ لا من الحرم ، واستدل لذلك بدليل واضح من القرءان وهو قوله تعالىٰ : {هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، فهو نصّ صريح في أن ذلك الهدي لم يبلغ محله ، ولو كان في الحرم لكان بالغًا محله ، وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه ، قال : « لما حبس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية ، وبعث اللَّه ريحًا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم » ، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة الحديبية بقوله :
ونحروا وحلقوا وحملت شعورهم للبيت ريح قد غلت
قال ابن عبد البرّ في «الاستذكار» : فهذا يدلّ على أنهم نحروا في الحلّ ، وتعقبه ابن حجر في «فتح الباري» : بأنه يمكن أن يكونوا أرسلوا هديهم مع من ينحره في الحرم ، قال : وقد ورد في ذلك حديث ابن جندب ابن جندب الأسلمي قال : قلت : يا رسول اللَّه ، ابعث معي الهدي حتى أنحره في الحرم . أخرجه النسائي من طريق إسرٰئيل عن مجزأة بن زاهر ، عن ناجية ، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن إسرٰئيل ، لكن قال عن ناجية عن أبيه : لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه ، بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه وكانوا في الحلّ وذلك دالّ على الجواز واللَّه أعلم ، انتهى كلام ابن حجر . وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه اللَّه الجمهور ، وقال: لا ينحر المحصر هديه إلا في الحرم ، فيلزمه أن يبعث به إلى الحرم ، فإذا بلغ الهدي محله حلّ ، وقال : إن الموضع الذي نحر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية من طرف الحرم ، واستدل بقوله بعد هذه الآية : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ، ورد هذا الاستدلال بما قدّمنا من أنه نحر في الحل . وأن القرءان دلّ على ذلك ، وأن قوله : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ} ، معطوف على قوله : {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، لا على قوله : {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، أو أن المراد بمحله المحل الذي يجوز نحره فيه وذلك بالنسبة إلى المحصر حيث أحصر ولو كان في الحل .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل الذي ذهب إليه ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وهو أنه إن استطاع إرسال الهدي إلى الحرم أرسله ولا يحلّ حتى يبلغ الهدي محله ، إذ لا وجه لنحر الهدي في الحلّ مع تيسر الحرم ، وإن كان لا يستطيع إرساله إلى الحرم نحره في المكان الذي أحصر فيه من الحل .
قال البخاري في (صحيحه) ، في « باب من قال ليس على المحصر بدل » ما نصّه :
وقال روح عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما : «إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأمّا من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع» . وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به ، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله اهـ ، محل الغرض منه بلفظه ولا ينبغي العدول عنه ؛ لظهور وجهه كما ترى .
الفرع الثاني : إذا لم يكن مع المحصر هدي فهل عليه أن يشتري الهدي ولا يحل حتى يهدي ، أو له أن يحل بدون هدي ؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدي واجب عليه لقوله تعالىٰ : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، فلا يجوز له التحلل بدونه إن قدر عليه ، ووافق الجمهور أشهب من أصحاب مالك ، وخالف مالك وابن القاسم الجمهور في هذه المسألة ، فقالا لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار .
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالىٰ : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، فتعليقه ما استيسر من الهدي على الإحصار تعليق الجزاء على شرطه ، يدل على لزوم الهدي بالإحصار لمن أراد التحلل به ، دلالة واضحة كما ترى ، فإن عجز المحصر عن الهدي فهل يلزمه بدل عنه أو لا ؟ .
قال بعض العلماء : لا بدل إن عجز عنه ، وممن قال لا بدل لهدي المحصر أبو حنيفة رحمه اللَّه ، فإن المحصر عنده إذا لم يجد هديًا يبقى محرمًا حتى يجد هديًا ، أو يطوف بالبيت .
وقال بعض من قال بأنه لا بدل له ، إن لم يجد هديًا حل بدونه ، وإن تيسر له بعد ذلك هدي أهداه .
وقال جماعة إن لم يجد الهدي فله بدل ، واختلف أهل هذا القول في بدل الهدي .
فقال بعضهم : هو صوم عشرة أيام قياسًا على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع ، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد ، وهو إحدى الروايات عن الشافعي ، وأصح الروايات عند الشافعية في بدل هدي المحصر أنه بالإطعام ، نصّ عليه الشافعي في «كتاب الأوسط» ، فتقوم الشاة ويتصدق بقيمتها طعامًا ، فإن عجز صام عن كل مدّ يومًا ، وقيل إطعام كإطعام فدية الأذى وهو ثلاثة آصع لستة مساكين ، وقيل : بدله صوم ثلاثة أيام ، وقيل بدله صوم بالتعديل ، تقوم الشاة ويعرف قدر ما تساوي قيمتها من الأمداد ، فيصوم عن كل يوم مدًّا ، وليس على شىء من هذه الأقوال دليل واضح ، وأقربها قياسه على التمتع واللَّه تعالىٰ أَعلم .
الفرع الثالث : هل يلزم المحصر إذا أراد التحلل حلق أو تقصير أو لا يلزمه شىء من ذلك ؟
اختلف العلماء في هذا فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه ومحمد إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واحتج أهل هذا القول بأن اللَّه قال : {فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ، ولم يذكر الحلق ولو كان لازمًا لبيّنه ، واحتجّ أبو حنيفة ومحمد لعدم لزوم الحلق ، بأن الحلق لم يعرف كونه نسكًا إلا بعد أداء الأفعال ، وقبله جناية ، فلا يؤمر به ، ولهذا العبد والمرأة إذا منعهما السيد والزوج لا يؤمران بالحلق إجماعًا .
وعن الشافعي في حلق المحصر روايتان مبنيتان على الخلاف في الحلق ، هل هو نسك أو إطلاق من محظور ؟ وذهب جماعة من أهل العلم منهم مالك وأصحابه : إلى أن المحصر عليه أن يحلق .
قال مقيدة عفا اللَّه عنه : الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل : هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من لزوم الحلق ، لقوله تعالىٰ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} .
ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم ، وأمر أصحابه أن يحلقوا وقال : « اللهم ارحم المحلقين »، قالوا : والمقصرين يا رسول اللَّه ؟ قال : «اللهم ارحم المحلقين»، قالوا : والمقصرين يا رسول اللَّه ؟ قال : «والمقصرين » .
فهذه أدلة واضحة على عدم سقوط الحلق عن المحصر ، وقياس من قال بعدم اللزوم ، الحلق على غيره من أفعال النسك ، التي صدّ عنها ، ظاهر السقوط لأن الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة مثلاً ، كل ذلك منع منه المحصر وصدّ عنه ، فسقط عنه ؛ لأنه حيل بينه وبينه ، ومنع منه .
وأما الحلاق فلم يحلّ بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله ؛ فلا وجه لسقوطه ، ولا شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه ، أن الحلاق نسك على من أتم نسكه ، وعلى من فاته الحج وعلى المحصر بعدو ، وعلى المحصر بمرض .
وعلى القول الصحيح من أن الحلاق نسك ، فالمحصر يتحلل بثلاثة أشياء : وهي النية ، وذبح الهدي ، والحلاق . وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك يتحلل بالنية والذبح .
الفرع الرابع : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نحر قبل أن يحلق في عمرة الحديبية ، وفي حجة الوداع ، ودلّ القرءان على أن النحر قبل الحلق في موضعين :
أحدهما : قوله تعالىٰ : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} .
والثاني : قوله تعالىٰ في سورة «الحج» : {لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ} .
فالمراد بقوله : {لّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ} ، ذكر اسمه تعالىٰ عند نحر البدن إجماعًا ، وقد قال تعالىٰ بعده عاطفًا بثم التي هي للترتيب {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} . وقضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق ، فهو نص صريح في الأمر بتقديم النحر على الحلق ، ومن إطلاق التفث على الشعر ونحوه ، قول أمية بن أبي الصلت : حفّوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثًا ولم يسلّو لهم قملاً وصئبانا

وروى بعضهم بيت أمية المذكور هكذا : ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثًا وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا

ومنه قول الآخر : قضوا تفثًا ونحبًا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

فهذه النصوص تدل دلالة لا لبس فيها ، على أن الحلق بعد النحر . ولكن إذا عكس الحاج أو المعتمر فحلق قبل أن ينحر ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع أن ذلك لا حرج فيه ، والتعبير بنفي الحرج يدل بعمومه على سقوط الإثم والدم معًا ، وقيل فيمن حلق قبل أن ينحر محصرًا كان أو غيره ، إنه عليه دم ، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ، قال عليه دم .
قال إبراهيم وحدّثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله . ذكره في المحصر .
قال الشوكاني في «نيل الأوطار» : والظاهر عدم وجوب الدم ؛ لعدم الدليل .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الظاهر : أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم ، لمّا صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق وأمر أصحابه بذلك ، فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن المسور ، ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه : « قوموا فانحروا ثم احلقوا » .
وللبخاري عن المسور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق ، وأمر أصحابه بذلك اهـ . فدلّ فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ومن قدّم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن أخلّ بنسك فعليه دم .
قال مقيده عفا اللَّه عنه : الذي تدلّ عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدّم على الحلق ، ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» ، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله ، بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق ، بأن قال له: «افعل ولا حرج» .
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في «صحيحيهما»، أيضًا عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : «لا حرج» .
وفي رواية للبخاري ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه سأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : «اذبح ولا حرج» ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ، فقال : «افعل ولا حرج» .
وفي رواية للبخاري ، قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : زرت قبل أن أرمي ، قال : «لا حرج »، قال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : «لا حرج» ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة . وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شىء عليه من إثم ولا فدية ؛ لأن قوله : «لا حرج»، نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح . والنكرة إذا كانت كذلك فهي نصّ صريح في العموم ، فالأحاديث إذن نصّ صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية . واللَّه تعالىٰ أعلم .
ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلاً ، أو ناسيًا ، وإن كان سياق حديث عبد اللَّه بن عمرو المتفق عليه يدلّ على أن السائل جاهل ؛ لأن بعض تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل ، فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل ، وقد تقرر أيضًا في علم الأصول أن جواب المسؤول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة ؛ لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال ، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أشار له في «مراقي السعود» ، في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفًا على ما يمنع اعتباره : أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالىٰ : {ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ} . وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال : إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها .
ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .