تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 312 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 312


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}
قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُداّ}. قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم ـ أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيعجل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات وداً. أي محبة في قلوب عباده. وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه وعلى نبينا والسلام في هذا العموم، وذلك في قوله {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} الآية. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» ا هـ. قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّا}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إنما يسر هذا القرآن
بلسان هذا النبيِّ العربي الكريم، ليبشر به المتقين، وينذر به الخُصوم الأَلداء، وهم الكفرة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في مواضع أخر. أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر، كقوله في سورة «القمر» مكرراً لذلك: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، وقوله في آخر «الدخان»: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلِسَـٰنِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النَّبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر، كقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاٌّمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {الۤر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقوله تعالى: {حـمۤوَٱ لْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقوله تعالى: {لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ} ـ قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة «الكهف» وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وأظهر الأقوال في قوله: {لُّدّ} أنه جمع الأَلد، وهو شديد الخصومة. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ} ، وقول الشاعر: أبيت نجيا للهموم كأنني أُخاصم أقواماً ذوي جدل لدا
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا}. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} في هذه الآية الكريمة هي الخيرية، وهي في محل نصب لأنها مفعول {أَهْلَكْنَ}. و{مِنْ} هي المبينة لـ {كَمْ} كما تقدم إيضاحه.
وقوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي هل ترى أحداً منهم، أو تشعر به، أو تجده {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا} أي صوتاً. وأصل الركز: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح: إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض. ومنه الركاز: وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض. ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته: فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقول طرفة في معلقته: وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد

وقول ذي الرمة: إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

والاستفهام في قوله {هَلُ} يراد به النفي. والمعنى: أهلكنا كثيراً من الأمم الماضية فما ترى منهم أحد ولا تسمع لهم صوتاً. وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم، وعدم سماع أصواتهم ـ ذكر بعضه في غير هذا الموضع. كقوله في عاد: {فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ، وقوله فيهم: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَـٰكِنُهُمْ} ، وقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} ، إلى غير ذلك من الآيات.

تم بحمد الله تفسير سورة مريم

 

 

# تفسير سورة طه #

{طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلاٌّرْضَ وَٱلسَّمَـٰوَٰتِ ٱلْعُلَى * ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ * وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى}
قوله تعالى: {طه}. أظهر الأقوال فيه عندي ـ أنه من الحروف المقطّعة في أوائل السُّوَر، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة، جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها في أنهما من الحروف المقطّعة، أما الطاء ففي فاتحة «الشعراء» {طسۤمۤ} وفاتحة «النمل» {طسۤ}. وفاتحة «القصص» وأَمَّا الهاء ففي فاتحة «مريم» في قوله تعالى {كۤهيعۤصۤ} وقد قدمنا الكلام مُسْتوفي على الحروف المقطّعة في أول سورة «هود» وخير ما يفسَّر به القرآن القرآن.
وقال بعض أهل العلم: قوله طه: معناه يا رجل. قالوا: وهي لغة بني عك بن عدنان، وبني عكل، قالوا: لو قُلتَ لرجل من بني عك: يا رجل، لم يَفهم أَنك تناديه حتى تقول طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: دَعَوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلاً، وقال عبد الله بن عمرو: معنى (طه) بلغة عك يا حبيبي، ذكره الغزنوي. وقال قطرب: هو بلغة طيىء، وأنشد ليزيد بن المهلهل.
إن للسفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين

ويروى: إن السفاهه طه من خلائقكم لا قدَّس الله أرواح الملاعين
وممن روي عنه أن معنى «طه»: يا رجل، ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى وغيرهم، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره. وذكر القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله «طه» يعني طأ الأرض بقدميك يا محمد. وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة، والهمزة حففت بإبدالها أن ألفاً كقول في الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية فارعى فزارة لا هناك المرتع

ثم بني عليه الأمر والهاء للسكت. ولا يخفى ما في هذا القول من التعسف والبعد عن الظاهر.
وفي قوله {طه} أقوال أخر ضعيفة، كالقول بأنه من أسماء النَّبي صلى الله عليه وسلم. والقول بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية يقول لنبيه: يا طاهراً مِن الذنوب، يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب إن شاء الله في الآية هو ما صدرنا به، ودل عليه القرآن في مواضع أخر. قوله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ}. في قوله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ} وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له قرآن:
الأول ـ أن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم.
وتحسرك على أن يؤمنوا. وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ} ، وقوله تعالى {فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَف} وقوله {لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} . والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد قدمنا كثيراً منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك.
الوجه الثاني ـ أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورَّمتْ قدماه، فأنزل الله {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ} أي تنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة. وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة. وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ} . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويفهم من قوله: {لِتَشْقَىٰ} أنه أُنزل عليه ليسعد. كما يدل له الحديث الصحيح: «مَن يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وقد روي الطبراني عن ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يقول للعلماء يوم القيامة: «إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أُبالي» وقال ابن كثير: إن إسناده جيد، ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى: {فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا} . وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ومنه قوله تعالى: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ} . وقوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}. أظهر الأقوال فيه: أنه مفعول لأجله، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، أي إلا لأَجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه. والتذكرة: الموعظة التي تلين لها القُلوب. فتمتثل أمر الله، وتجتنب نهيه. وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم، لأنهم هم المنتفعون بها، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ} وقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَ} . فالتخصيص المذكور في الآيات ب{مِنْ} تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم. وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة ـ بينه في غير هذا الموضع كقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـٰلَمِين َلِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} ، وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَـٰلَمِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات. وإعراب {إِلاَّ تَذْكِرَةً} بأنه بدل من {لِتَشْقَىٰ} لا يصح، لأن التذكرة ليست بشقاء. وإعرابه مفعولاً مطلقاً أيضاً غير ظاهر. وقال الزمخشري في الكشاف: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} :
ما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون {تَذْكِرَةٌ} حالاً ومفعولاً له. قوله تعالى: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلاٌّرْضَ وَٱلسَّمَـٰوَٰتِ ٱلْعُلَى}. في قوله {تَنْزِيل} أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسرون. وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق، منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله، {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰ} أي نزله الله {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلاٌّرْضَ}، أي فليس بشعر ولا كهانة، ولا سحر ولا أساطير الأولين، كما دل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جداً معروفة، كقوله {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} ، وقوله: {تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ} وقوله: {تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً. قوله تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى}. خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة بأنه: إن يجهر بالقول أي يقله جهرة في غير خفاء، فإنه جل وعلا يعلم السر وما هو أخفى من السر. وهذا المعنى الذي أشار إليه هنا ذكره في مواضع أخر، كقوله: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} ، وقوله: {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، وقوله تعالى: {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي المراد بقوله في هذه الآية {وَأَخْفَى} أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها قرآن. قال بعض أهل العلم {يَعْلَمُ ٱلسّرَّ}: أي ما قاله العبد سراً {وَأَخْفَى} أي ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ} . وقال بعض أهل العلم: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ}: أي ما توسوس به نفسه {وَأَخْفَى} من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَـٰلٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَـٰمِلُونَ} ، وكما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ} فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم. وما سيسره غداً. والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَخْفَى} صيغة تفضيل كل بينا، أي ويعلم ما هو أخفى من السر. وقول من قال: إن «أخفى» فعل ماض بمعنى أنه يعلم سر الخلق، وأخفى عنهم ما يعلمه هو. كقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْم} ـ ظاهر السقوط كما لا يخفى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ} أي فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ، وقال تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ} . ويوضح هذا المعنى الحديث الصحيح. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تَدْعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً. إن الذي تدعون أقرب ألى أحدكم من عنق راحلته».

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاًّهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّىۤ ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّىۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى * فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ يٰمُوسَىٰ * إِنِّىۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى

سيتم شرحها مع الأيات التي تليها في الصفحه التي التاليه ان شاء الله