سورة الحج | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 332 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 332
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}
قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ}. أمر جل وعلا في أول هذه السورة الكريمة: الناس بتقواه جل وعلا، بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وبين لهم أن زلزلة الساعة شيء عظيم، تذهل بسببه المراضع عن أولادها، وتضع بسببه الحوامل أحمالها، من شدة الهول والفزع، وأن الناس يرون فيه كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم بسكارى من شرب الخمر، ولكن عذابه شديد.
وما ذكره تعالى هنا من الأمر بالتقوى، وذكره في مواضع كثيرة جداً من كتابه، كقوله في أول سورة النساء {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ} إلى قوله {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلاٌّرْحَامَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وما بينه هنا من شدة أهوال الساعة، وعظم زلزلتها، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاٌّرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَ} وقوله تعالى {وَحُمِلَتِ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَٰحِدَةً} وقوله تعالى {إِذَا رُجَّتِ ٱلاٌّرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّ} وقوله تعالى {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ} وقوله تعالى {ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم هول الساعة.
وقوله في هذه الآية الكريمة {ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ} قد أوضحنا فيما مضى معنى التقوى بشواهده العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والزلزلة: شدة التحريك والإزعاج، ومضاعفة زليل الشيء عن مقره ومركزه: أي تكرير انحرافه وتزحزحه عن موضعه، لأن الأرض إذا حركت حركة شديدة تزلزل كل شيء عليها زلزلة قوية.
وقوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَ} منصوب بتذهل، والضمير عائد إلى الزلزلة. والرؤية: بصرية، لأنهم يرون زلزلة الأشياء بأبصارهم، وهذا هو الظاهر، وقيل: إنها من رأي العلمية.
وقوله {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليلَ عن خليله
وقال قطرب:
ذهل عن الأمر: اشتغل عنه. وقيل: ذهل عن الأمر: غفل عنه لطرو شاغل، من هم أو مرض، أو نحو ذلك، والمعنى واحد، وبقية الأقوال راجعة إلى ما ذكرنا.
وقوله {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي كل أنثى ترضع ولدها، ووجه قوله: مرضعة، ولم يقل: مرضع: هو ما تقرر في علم العربية، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فإن قلت: هي مرضع تريد: أنها ذات رضاع، جردته من التاء كقول امرىء القيس: فمثلكِ حُبلى قد طرقت ومرضعا فألهيتها عن ذي تمائِمَ مغيل
وإن قلت: هي مرضعة بمعنى، أنها تفعل الرضاع: أي تلقم الولد الثدي، قلت: هي مرضعة بالتاء ومنه قوله:
كمرضعة أولاد أُخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
كما أشار له بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل يعني التاء زد كذي غدت مرضعة طفلاً ولَد
وما زعمه بعض النحاة الكوفيين: من أن أم الصبي مرضعة بالتاء والمستأجرة للإرضاع: مرضع بلا هاء باطل، قاله أبو حيان في البحر. واستدل عليه بقوله: كمرضعة أولاد أخرى ـ البيت: فقد أثبت التاء لغير الأم، وقول الكوفيين أيضاً: إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء، لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى: والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق لعدم مشاركة الذكر لها فيه مردود أيضاً، قاله أبو حيان في البحر أيضاً مستدلاً بقول العرب: مرضعة، وحائضة، وطالقة: والأظهر في ذلك هو ما قدمنا، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء، وإن أريد النسبة جرد من التاء، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى:
أجارتنا بينِي فإنك طالقه كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟
قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول، إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها: نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة. وقوله تعالى {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} الظاهر أن ما: موصولة، والعائد محذوف: أي أرضعته على حد قوله في الخلاصة: * والحذف عندهم كثير منجلي * في عائدٍ مُتَّصل إن انتصب بفعلٍ أو وصفٍ كمن نرجو يهب
وقال بعض العلماء: هي مصدرية: أي تذهل كل مرضعة عن إرضاعها.
قال أبو حيان في البحر: ويقوي كونها موصولة تعدي وضع إلى المفعول به في قوله: حملها لا إلى المصدر.
وقوله {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ} أي كل صاحبة حمل تضع جنينها، من شدة الفزع، والهول، والحمل بالفتح: ما كان في بطن من جنين، أو على رأس شجرة من ثمر {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ} جمع سكران: أي يشبههم من رآهم بالسكارى، من شدة الفزع {وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} من الشراب {وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ} والخوف منه هو الذي صيَّر من رآهم يشبههم بالسكارى، لذهاب عقولهم، من شدة الخوف، كما يذهب عقل السكران من الشراب. وقرأ حمزة والكسائي {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} بفتح السين، وسكون الكاف في الحرفين على وزن فعلى بفتح فسكون. وقرأه الباقون {سُكَـٰرَىٰ} بضم السين، وفتح الكاف بعدها ألف في الحرفين أيضاً، وكلاهما جمع سكران على التحقيق. وقيل: إن سكرى بفتح فسكون: جمع سكر بفتح فكسر بمعنى: السكران، كما يجمع الزمن على الزمنى، قاله أبو على الفارسي، كما نقله عنه أبو حيان في البحر. وقيل: إن سكرى مفرد، وهو غير صواب.
واستدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه وصف زلزلة الساعة، بأنها شيء في حال عدمها قبل وجودها. قد بينا وجه رده في سورة مريم، فأغنى عن إعادته هنا.
مسألة
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟
فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول: علقمة، والشعبي، وإبراهيم، وعبيد بن عمير، وابن جريج. وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه. وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع، جاء بذلك، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبيناً دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمٰن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما فرغ الله من خلق السمواتِ والأرضِ خلق الصُّور فأعطى إسرافيلَ فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينظر متى يؤمر:» قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّور؟ قال: «قرن»، قال: وكيف هو؟ قال: «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق: والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين»، يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنَّفخة الأولى: انفخ نفخة الفزع فتفزع أهل السمٰوات والأرضِ إلا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله {وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجًّا، وهي التي يقول الله {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش، ترججه الأرواح، فتميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله {يَوْمَ ٱلتَّنَادِيَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمراً عظيماً، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمُهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول {فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلاٌّرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ} قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شراء خلقه، وهو الذي يقول{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله {وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ}» انتهى منه. ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى. وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور قال ما نصه: وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقناه عنه آنفاً.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله، ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولاً جداً.
والغرض منه: أنه دلَّ على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه. وقد علمت ضعف الإسناد المذكور.
وأما حجة أهل القول الآخر القائلين: بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك. وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ} حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، فيقول: لبيك ربَّنا وسعديك، فَيُنادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف أراه، قال تسعمائه وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا».
وقال أبو أسامة، عن الأعمش {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: وقال جرير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية {سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} انتهى من صحيح البخاري.
وفيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى: هو يوم القيامة لا آخر الدنيا.
وقال البخاري في صحيحه أيضاً في كتاب: الرقاق في باب: {إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ}: حدثني يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال «يقول الله يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال يقول: أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى. ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل: قال: «أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً، ومنكم رجل، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار» انتهى منه. ودلالته على المقصود ظاهرة.
وقال البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب: بدء الخلق في أحاديث الأنبياء في باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ} إلى قوله: {سَبَب} حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: في آخر كتاب الإيمان بكسر الهمزة في باب: بيان كون هذه الأمة: نصف أهل الجنة: حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت، فيه التصريح من النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، بعد القيام من القبور كما ترى، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع.
فإن قيل: هذا النص فيه إشكال، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع، حتى تذهل عما أرضعت.
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: هو ما ذكره بعض أهل العلم، من أن من ماتت حاملاً تبعث حاملاً، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول كقوله تعالى {يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيب} ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.
تنبيه
اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور، فما معناها؟
والجواب: أن معناها: شدة الخوف، والهول، والفزع، لأن ذلك يسمى زلزالاً، بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلاٌّبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيد} أي وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول. بالعمل الصالح، في دار الدنيا، قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مراراً من أن إن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر: أي اتقوا الله، لأن أمامكم أهوالاً عظيمة، لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا. قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من الناس بعضاً يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله، كالذي يَدَّعي له الأولاد والشركاء، ويقول إن القرآن أساطير الأولين، ويقول: لا يمكن .أن يحيي الله العظام الرميم، كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند، من علم عقلي، ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد: أي عاتٍ طاغٍ من شياطين الإنس والجن {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي كتب الله عليه كتابه قدر وقضاء {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أي كل من صار ولياً له: أي للشيطان المريد المذكور، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار، وعن طريق الإيمان إلى الكفر، ويهديه إلى عذاب السعير: أي النار الشديدة الوقود.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآ..ية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ} {ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} الآية وقوله تعالى في لقمان {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} فقوله في آية لقمان هذه: {أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}، كقوله في الحج {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} وهذه الآية الكريمة التي هي قوله: {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية يدخل فيما تضمنته من الوعيد والدم: أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} وقوله في أول النحل {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وقوله تعالى {وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ}.
وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقوله تعالى: {ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان، فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم: {يٰأَبَتِ إِنِّىۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّ} وقوله تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ} إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها: أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى {ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وقوله تعالى {وَلاَ تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة: هي المراد من قوله {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَل} والمجادلة الحقة هي المراد من قوله {وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ا هـ. منه. وقوله تعالى في هذه الآية {عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} يعني عذاب النار، فالسعير النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها. والظاهر أن أصل السعير: فعيل، بمعنى: مفعول من قول العرب: سعر النار، يسعرها كمنع يمنع إذا أوقدها، وكذلك سعرها بالتضعيف، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله{وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص: سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة: قالت له عرسهُ يوماً لتُسْمعني مهلاً فإنَّ لنا في أمِّنا أربا
ولو رأتنيَ في نار مُسعَّرة ثم استطاعت لزادَت فوقْها حَطبا
إذ لا يخفى أن قوله:
مسعرة: اسم مفعول سعرت بالتضعيف، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير: فعيل بمعنى اسم المفعول: أي النار المسعرة: أي الموقدة إيقاداً شديداً لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذاً بالله منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وفي ذلك لغة ثالثة، إلا أنها ليست في القرآن: وهي أسعر النار بصيغة أفعل، بمعنى: أوقدها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} ويدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضاً في الدلالة على الشر، لأنه قال: {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} ونظير في ذلك القرآن قوله تعالى {فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْجَحِيمِ} وقوله تعالى {وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ} لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده.
وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك، بأن فيه استعارة عنادية، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية، معروف كما أشار إليه سابقاً وقوله تعالى {كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ} قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر، والمريد والمارد في اللغة العربية: العاتي، تقول: مرد الرجل بالضم يمرد، فهو مارد، ومَريد إذا كان عاتياً. والظاهر أن الشيطان في هذه الآية، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير، ويضل عن الهدى، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس، والله تعالى أعلم.
{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ * ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}
قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ}. هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، كما قال تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} وكقوله تعالى عنهم {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}ونحو ذلك من الآيات كما قدمنا الإشارة إليه قريباً.
ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيَامة للحساب، والجزاء فقال جل وعلا {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} فمن أوجدكم الإيجاد الأول، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم، وخلقكم مرة ثانية، بعد أن بليت عظامكم، واختلطت بالتراب، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث: الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى المذكور هنا، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله {وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقوله {قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ} وقوله {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى {أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلاٌّوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاٍّولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} وقوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ} إلى قوله {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة، وسورة النحل، وغيرهما، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ}، إذ لو تذكر الإيجاد الأول، على الحقيقة، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني، وكقوله {وَيَقُولُ ٱلإِنْسَـٰنُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئ} إذ لو تذكر ذلك تذكراً حقيقياً لما أنكر الخلق الثاني، وقوله في هذه الآية الكريمة {إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ} أي في شك من أن الله يبعث الأموات، فالريب في القرآن يراد به الشك، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} قد قدمنا في سورة طه: أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب، أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل، كما قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب. لأن الفروع تبع للأصل.
وقد بينا في طه أيضاً أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب: أنه خلقهم من النطف، والنطف من الأغذية، والأغذية راجعة إلى التراب غير صحيح، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول.
وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب كما أوضحنا آنفاً، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني هو النطفة، والنطفة في اللغة: الماء القليل، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب: وما عليكِ إذا أخبرتني دنفا وغاب بعْلكِ يوماً أن تَعودِيني
وتجعلي نطفةً في القعْب باردة وتغمسي فاكِ فيها ثم تسقيني
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في العقب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني، وقد قدمنا في سورة النحل: أن النطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة، خلافاً لمن زعم: أنها من ماء الرجل وحده.
الطور الثالث: العلقة: وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد فقوله {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أَي قطعة دم جامدة، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير: إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجْهُض من أرحامها العَلَق
الطور الرابع: المضغة: وهي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» الحديث.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} في معناه أوجه معروفة عند العلماء، سنذكرها هنا إن شاءَ الله، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه.
منها أن قوله {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} صفة للنطفة وأن المخلقة: هي ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة: هي ما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نقله عنه ابن جرير وغيره، ولا يخفى بعد هذا القول، لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة،
كما هو ظاهر.
ومنها: أن معنى مخلقة: تامة، وغير مخلقة: أي غير تامة، والمراد بهذا القول عند قائله: أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها: ما هو كامل الخلقة، سالم من العيوب، ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس، في خلقهم، وصورهم، وطولهم. وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم.
وممن روى عنه هذا القول: قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك. ومنها: أن معنى مخلقة مصورة إنساناً، وغير مخلقة: أي غير مصورة إنساناً كالسقط الذي هو مضغة، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل، وممن نقل عنه هذا القول، مجاهد، والشعبي، وأبو العالية كما نقله عنهم ابن جرير الطبري. ومنها: أن المخلقة: هي ما ولد حياً، وغير المخلقة: هي ما كان من سقط.
وممن روى عنه هذا القول: ابن عباس رضي الله عنهما. وقال صاحب الدر المنثور: إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي وأنشد لذلك قول الشاعر: أفي غير المخلَّقةِ البكاء فأيْن الحزمُ وَيْحك والحيَاءُ
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً. وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة، وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير. وذلك هو المراد بقوله {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} خلقاً سوياً، وغير مخلقة: بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوير، ولا ينفخ الروح. انتهى منه.
وهذا القول الذي اختاره ابن جرير، اختاره أيضاً غير واحد من أهل العلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا في أول الآية {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة، فيه من التناقض، كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط، لأن قوله {وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام، إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط.
فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية، لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء.
أما السقط: فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ}، لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً، ولو بعد التشكيل والتخطيط، لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ}. فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة، وغير المخلقة: يخلق منه بعض المخاطبين في قوله {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ}.
وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية، هو القول الذي لا تناقض فيه، لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره:
وهو أن المخلقة: هي التامة، وغير المخلقة: هي غير التامة.
قال الزمخشري في الكشاف: والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب، يقال: خلق السواك والعود: إذا سواه وملسه. من قولهم صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة. منها: ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب. ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. انتهى منه.
وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب، تقول العرب: حجر أخلق: أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء، وصخرة خلقاء بينة الخلق: أي ليس فيها وصم، ولا كسر، ومنه قول الأعشى: قد يترك في خلقاء راسية وَهْياً وينزل منها الأعصم الصدعا
والدهر في البيت: فاعل يترك، والمفعول به: وهياً. يعني: أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم، فيكسرها، ويوهيها، ويؤثر في العصم من الأوعال برؤوس الجبال، فينزلها من معاقلها، ومن ذلك أيضاً قول ابن أحمر يصف فرساً، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور: بمقلص درك الطريدة متنه كصفا الخليقة بالفضاء الملبَّد
فقوله: كصفا الخليقة، يعني: أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها، ولا وصم، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته. والسهم المخلق: هو الأملس المستوي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول هو أولى الأقوال بالصواب فيما يظهر لي لجريانه على اللغة التي نزل بها القرآن وسلامته من التناقض، والله جل وعلا أعلم.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ}: أي لنبين لكم بهذا النقل من طور إلى طور، كمال قدرتنا على البعث بعد الموت، وعلى كل شيء، لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً، مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة وقدر على أن يجعل النطفة علقة، مع ما بينهما من التباين والتغاير، وقدر على أن يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاماً، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق، كما هو واضح وقوله {لِّنُبَيِّنَ} الظاهر أنه متعلق بخلقناكم، في قوله{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ}: أي خلقناكم خلقاً من بعد خلق على التدريج المذكور: لنبين لكم قدرتنا على البعث وغيره.
وقال الزمخشري مبيناً نكتة حذف مفعول: لنبين لكم ما نصه: وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه بالذكر، ولا يحيط به الوصف. انتهى منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي نقر في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره فيها، من الأحمال، والأجنة إلى أَجل مسمى: أي معلوم معين في علمنا، وهو الوقت الذي قدره الله لوضع الجنين، والأجنة تختلف في ذلك حسبما يشاؤه الله جل وعلا، فتارة تضعه أمه لستة أشهر، وتارة لتسعة، وتارة لأكثر من ذلك. وما لم يشأ الله إقراره من الحمل مجته الأرحام وأسقطته، ووجه رفع: ونقر أن المعنى: ونحن نقر في الأرحام، ولم يعطف على قوله {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} لأنه ليس علة لما قبله، فليس المراد: خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، لنقر في الأرحام ما نشاء، وبذلك يظهر لك رفعه، وعدم نصبه، وقراءة من قرأ: ونقر بالنصب عطفاً على: لنبين، على المعنى الذي نفيناه على قراءة الرفع، ويؤيد معنى قراءة النصب قوله بعده {ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ} وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْل} أي وذلك بعد أن يخلق الله المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم ينشىء ذلك الجنين خلقاً آخر، فيخرجه من بطن أمه في الوقت المعين لوضعه في حال كونه طفلاً: أي ولداً بشراً سوياً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ} أي لتبلغوا كمال قوتكم، وعقلكم، وتمييزكم بعد إخراجكم من بطون أمهاتكم في غاية الضعف وعدم علم شيء.
وقد قدمنا أقوال العلماء في المراد بالأشد، وهل هو جمع أو مفرد مع بعض الشواهد العربية في سورة الأنعام، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله تعالى في هذه الآية {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ} أي ومنكم أيها الناس من يتوفى من قبل: أي من قبل بلوغه أشده، ومنكم من ينسأ له في أجله، فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل العمر، وهو الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه من الضعف، وعدم العلم.
وقد أوضحنا كلام العلماء في أرذل العمر ومعنى {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ} في سورة النحل، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من الاستدلال على كمال قدرته، على بعث الناس بعد الموت، وعلى كل شيء ينقله الإنسان من طور إلى طور، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة إلى آخر الأطوار المذكورة، ذكره جل وعلا في مواضع من كتابه مبيناً أنه من البراهين القطعية على قدرته، على البعث وغيره.
فمن الآيات التي ذكر فيها ذلك من غير تفصيل لتلك الأطوار قوله تعالى {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَار} أي طوراً بعد طور كما بينا قوله تعالى {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} وقوله في آية الزمر هذه في ظلمات ثلاث: أي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. فقد ركب تعالى عظام الإنسان بعضها ببعض وكساها اللحم، وجعل فيها العروق والعصب، وفتح مجاري البول والغائط، وفتح العيون والآذان والأفواه وفرق الأصابع وشد رؤوسها بالأظفار إلى غير ذلك من غرائب صنعه، وعجائبه، وكل هذا في تلك الظلمات الثلاث، لم يحتج إلى شق بطن أمه وإزالة تلك الظلمات.
سبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلٰه إلا الله هو العزيز الحكيم، ولأجل هذه الغرائب والعجائب من صنعه تعالى قال بعد التنبيه عليها {ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} ومن الآيات التي أوضح فيها تلك الأطوار على التفصيل قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَـٰماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـٰهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تُبْعَثُونَ} وقد ذكر تعالى تلك الأطوار مع حذف بعضها في قوله في سورة المؤمن {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى في الكهف {قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُل} وقوله تعالى {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وقوله:
{أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} وقوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} وقوله تعالى {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ} وقوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ} إلى غير ذلك من الآيات وقد بينت السنة الصحيحة القدر الذي تمكثه النطفة قبل أن تصير علقة، والقدر الذي تمكثه العلقة، قبل أن تصير مضغة، والقدر الذي تمكثه المضغة مضغة.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع ح، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له، حدثنا أبي وأبو معاوية، ووكيع قالوا: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أُمِّه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروحَ ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن الجنين يمكث أربعين يوماً نطفة، ثم يصير علقة، ويمكث كذلك أربعين يوماً، ثم يصير مضغة ويمكث كذلك أربعين يوماً ثم ينفخ فيه الروح، فنفخ الروح إذاً في أول الشهر الخامس من أشهر الحمل.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة، أنبأني سليمان الأعمش، قال: سمعت زيد بن وهب، عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال «إن أحدكم يجمع في بطن أمهِ أربعين يوماً ثم علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأَربعٍ: برزقه وأجله وشقي أو سعيد» الحديث، وهذه الرواية في البخاري ينقص منها ذكر العمل، وهو مذكور في روايات أُخر صحيحة معروفة. وقد قدمنا وجه الدلالة المقصودة من الحديث المذكور والله أعلم.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه الإفراد في قوله {يُخْرِجُكُمْ طِفْل} مع أن المعنى نخرجكم أطفالاً. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
منها ما ذكره ابن جرير الطبري قال: ووحد الطفل وهو صفة للجمع، لأنه مصدر مثل عدل وزور وتبعه غيره في ذلك.
ومنها قول من قال {نُخْرِجُكُمْ طِفْل} أي نخرج كل واحد منكم طفلاً، ولا يخفى عدم اتجاه هذين الجوابين. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن، هو أن من أساليبها أن المفرد إذا كان اسم جنس يكثر إطلاقه مراداً به الجمع مع تنكيره كما في هذه الآية، وتعريفه بالألف واللام، وبالإضافة فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ} أي وأنهار بدليل قوله تعالى {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} وقوله {وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام} أي أئمة وقوله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْس} أي أنفساً وقوله تعالى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ} أي سامرين وقوله تعالى {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي بينهم وقوله تعالى {وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيق} أي رفقاء وقوله تعالى {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُو} أي جنبين أو أجناباً وقوله تعالى{وَالْمَلَـٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} أي مظاهرون ومن أمثلة ذلك مع التنكير في كلام العرب قول عقيل بن علفة المري:
وكان بنو فزارة شرَّ عم وكنتُ لهم كشر بني الأَخينا
يعني شر أَعمام: وقول قعنب ابن أم صاحب: ما بال قوم صديق ثم ليس لهم دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
يعني ما بال قوم أصدقاء: وقول جرير: نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صديق
يعني صديقات: وقول الآخر: لعمري لئن كنتم على النأي والنوى بكم مثل ما بي إنكم لصديق
وقول الآخر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير
أي لسن لي بأمراء.
ومن أمثلته في القرآن واللفظ مضاف قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أصدقائكم: وقوله {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي أوامره: وقوله {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَ} أَي نعم الله: وقوله {إِنَّ هَـٰؤُلآءِ ضَيْفِى}: أي أضيافي، ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
أي وأما جلودها فصليبة:
وقول الآخر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
أي بطونكم. وهذا البيت والذي قبله أنشدهما سيبويه في كتابه مستشهداً بهما لما ذكرنا.
ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرادس السلمي:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
أي إنا إخوانكم: وقول جرير: إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي إذا آباؤنا وآباؤك عدواً، وهذا البيت، والذي قبله يحتمل أن يراد بهما جمع التصحيح للأب وللأخ، فيكون الأصل: أبون وأخون فحذفت النون للإضافة، فصار كلفظ المفرد.
ومن أمثلته جمع التصحيح في جمع الأخ بيت عقيل بن علفة المذكور آنفاً، حيث قال فيه: كشر بني الأخينا. ومن أمثلة تصحيح جمع الأب قول الآخر: فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
ومن أمثلة ذلك في القرآن: واللفظ معرف بالألف واللام قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلِّهِ وَإِذَ}أي بالكتب كلها، بدليل قوله {كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} الآية، وقوله {وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ} وقوله تعالى {أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُو} أي الغرف بدليل قوله {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} وقوله {وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ}: وقوله تعالى {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّ}:
أي الملائكة بدليل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ}: وقوله تعالى {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ}: أي الأدبار بدليل قوله تعالى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ} وقوله تعالى: {أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ}: أي الأطفال: وقوله تعالى {هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ} أي الأعداء، ونحو هذا كثير في القرآن، وفي كلام العرب: وهو في النعت بالمصدر مطرد، كما تقدم مراراً.
ومن أمثلة ذلك قول زهير: متى يَشْتَجِر قومٌ يقل سرواتهم هم بيننا هم رضى وهم عدل
أي عدول مرضيون.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول، قبل أن تكون علقة، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
المسألة الثانية: إذا سقطت النطفة في طورها الثاني، أعني في حال كونها علقة: أي قطعة جامدة من الدم، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ولا تغسل ولا تكفن ولا ترث.
ولكن اختلف في أحكام أخر متعددة من أحكامها:
منها: ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها، هل تجب فيها غرة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله: إلى أن من ضرب بطن حامل، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين، فتلزمه غرة، أو عشر دية الأم.
وفي المدونة: ما علم أنه حمل، وإن كان مضغة أو علقة أو مصوراً.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي. وممن قال به الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور، والمالكية قالوا: الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط.
ومنها: ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق، أو وفاة وكانت حاملاً، فألقت حملها علقة، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا؟
فمذهب مالك رحمه الله: أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة. واحتج المالكية: بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل، فتدخل في عموم قوله تعالى {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاٌّحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقال ابن العربي المالكي: لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقاً يعني مصوراً، وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم: إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة، قالوا: لأنها دم جامد ولا يتحقق كونه جنيناً.
ومنها: ما إذا ألقت العلقة المذكورة أمة هي سرية لسيدها، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة، لأن العلقة مبدأ جنين، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة، بعد أن كانت نطفة، فدخلت في قوله تعالى {خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} فيصدق عليها أنها وضعت جنيناً من سيدها، فتكون به أم ولد، وهذا رواية عن أحمد وبه قال إبراهيم النخعي.
وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة. وقد قدمنا توجيههم لذلك.
المسألة الثالثة: إذا أسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث: أعني كونها مضغة:
أي قطعة من لحم، فلذلك أربع حالات:
الأولى: أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان، كاليد والرجل، والرأس ونحو ذلك، فهذا تنقضي به العدة، وتلزم فيه الغرة، وتصير به أم ولد، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم.
الحالة الثانية: أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط، وتصوير خفي، والأظهر في هذه الحالة: أن حكمها كحكم التي قبلها لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة، أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية.
الحالة الثالثة: هي أن تكون تلك المضغة المذكورة، ليس فيها تخطيط، ولا تصوير ظاهر، ولا خفي، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنها مبدأ خلق آدمي.
وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف. فقال بعض أهل العلم: لا تنقضي عدتها بها، ولا تصير أم ولد، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله، وظاهر كلام الحسن والشعبي، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي، فأشبه النطفة والعلقة.
وقال بعض أهل العلم: تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة، وتصير به أم ولد، وتجب فيها الغرة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقال بعض أهل العلم: لا تنقضي بها العدة، وتصير به أم ولد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات، بأن تلك المضغة مبدأ جنين، وأنها لو بقيت لتخلقت إنساناً، أنها تنقضي بها العدة، وتصير بها الأمة أم ولد، وتجب بها الغرة على الجاني. والله تعالى أعلم.
الحالة الرابعة: أن تكون تلك المضغة، ليس فيها تصوير ظاهر، ولا خفي، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان، فحكم هذه كحكم العلقة: وقد قدمناه قريباً مستوفى.
المسألة الرابعة: إذا أسقطت المرأة جنينها ميتاً بعد أن كملت فيه صورة الآدمي، فلا خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه، وكونها أم ولد، ووجوب الغرة فيه، ولكن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه، وغسله وتكفينه. فذهب مالك رحمه الله: إلى أنه لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يحنط، ولا يسمى، ولا يورث، ولا يرث حتى يستهل صارخاً، ولا عبرة بعطاسه، ورضاعه، وبوله فلو عطس، أو رضع، أو بال لم يكن ذلك موجباً للصلاة عليه في قول مالك، وعليه جمهور أصحابه. وقال المازري: رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه، وغيرها من الأحكام.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخاً، فإنه يصلى عليه. وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخاً، فإن لم يستهل صارخاً غسل دمه، ولف بخرقة، ووري، ومذهب الشافعي: أنه إن استهل صارخاً أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه، وورث وإن لم يستهل، ولم يتحرك، فإن لم يكن له أربعة أشهر، لم يصل عليه، ولكنه يلف بخرقة، ويدفن، وإن كان له أربعة أشهر فقولان: قال في القديم: يصلى عليه، وقال في الأم: لا يصلى عليه، وهو الأصح، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة، وأصحابه وجابر بن زيد التابعي، والحكم وحماد، والأوزاعي ومالك: أنه إذا لم يستهل صارخاً لا يصلى عليه. وعن ابن عمر: أنه يصلى عليه، وإن لم يستهل. وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إذا لم يستهل صارخاً، ولم يتحرك، فإن كان له أربعة أشهر: غسل، وصلي عليه، وإلا فلا، أما إذا استهل صارخاً، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط، لأن مناط الأمر بالصلاة عليه، هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة. ومناط عدم الصلاة عليه: هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخاً، أو طالت مدته حياً علم بذلك أنه مات بعد حياة، فيغسل ويصلى عليه، وقالوا: إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة، لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية، وقالوا: إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته. قالوا: قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدوداً في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه، وهو قول ابن القاسم. ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به، لأنه في حكم الميت، وإن كان عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد.
والذين خالفوا هؤلاء قالوا: لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة، وعمر ما دام قادراً على الحركة القوية الدالة على الحياة، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة.
والذين قالوا: يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة. ينفخ فيه الروح، وانتهاء الأربعين الثالثة: هو انتهاء أربعة أشهر، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. هذا برهان قاطع آخر على البعث: وقوله {وَتَرَى} أي يا نبي الله. وقيل: وترى أيها الإنسان المخاطب: وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. فقوله {هَامِدَةً} حال من الأرض، لا مفعول ثان لترى. وقوله: هامدة أي يابسة قاحلة لا نبات فيها.
وقال بعض أهل العلم، هامدة: أي دارسة الآثار من النبات، والزرع. قالوا: وأصل الهمود الدروس والدثور. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس: قالت قتيلةُ ما لجسْمك شاحِبا وأرى ثيابك باليات هُمدا
أَي وأرى ثيابك باليات دارسات {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ} أي سواء كان من المطر، أو الأنهار أو العيون أو السواني: {ٱهْتَزَّتْ}: أي تحركت بالنبات. ولما كان النبات نابتاً فيها متصلاً بها، كان اهتزازه كأنه اهتزازها فأطلق عليها بهذا الاعتبار، أنها اهتزت بالنبات. وهذا أسلوب عربي معروف.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات، وقوله: {وَرَبَتْ} أي زادت وارتفعت: وقال بعض أهل العلم: وربت: انتفخت، لأجل خروج النبات، وقال ابن جرير الطبري: وربت: أي أضعفت النبات بمجيء الغيث.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أصل المادة التي منها ربت: الزيادة، والظاهر أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض: هي أن النبات لما كان نابتاً فيها متصلاً بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: والاهتزاز: الحركة على سرور، فلا يكاد يقال: اهتز فلان لكيت وكيت، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع ا هـ منه.
والاهتزاز أصله: شدة الحركة: ومنه قوله: تَثني إذا قامتْ وتهتزُّ إن مشت كما اهتّز غصْنُ البانِ في وَرَقٍ خُضْر
وقوله:
{وَأَنبَتَتْ} أي أنبت الله فيها {مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي صنف من أصناف النبات، والزرع، والثمار: {بَهِيجٍ} أي حسن، والبهجة: الحسن. ومنه قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} تقول: بهج بالضم بهاجة فهو بهيج، إذا كان حسناً، وقرأ عامة السبعة: وربت، وهو من قولهم: ربا يربو إذا نَما وزاد، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع: وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء: أي ارتفعت، كأنه من الربيئة أو الربيئي، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم.
ومنه قول امرىء القيس: بَعثنا ربيئاً قبل ذاك مخمَّلا كذئبِ الغضَا يمشي الضَّراء ويتقي
وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن إحياء الأرض بعد موتها، برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم. لأن الجميع أحياء بعد موت، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل، كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلاٌّرْضَ خَـٰشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِىۤ أَحْيَـٰهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى {وَيُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء، بعد الموت: وقوله تعالى {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ} أي خروجكم من القبور أحياء بعد الموت وقوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله {فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءَاثَـٰرِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى {فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ} وقوله تعالى {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ومن ذلك قوله هن{وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} بدليل قوله بعده:
قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ} إلى قوله {وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ}.
قوله تعالى: {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}. قال بعض أهل العلم: الآية الأولى التي هي {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ} نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعاً لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ} وقال في هذه {ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا.
وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به {وَلاَ هُدًى} أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب {وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ} أي وَحْي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وَحْي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله {ثَانِىَ عِطْفِهِ} حال من ضمير الفاعل المستكن في: يجادل: أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه: أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكباراً وإعراضاً. فقوله: ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه، وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب: ثنى فلان عنك عطفه: تعني أعرض عنك. وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا: ثاني عطفه: لاوي عنقه: مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون: إن اللام في قوله {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية، كقوله {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَن}. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص.
ونقول هنا: إن الظاهر في ذلك: أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره.
وإيضاح ذلك: أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضاً عن الحق، واستكباراً. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالاً مضلاً. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوه. وكذلك {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ}: أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه، لأجل أن يجعله لهم عدواً وحزناً. وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية: من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَ} وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُود} وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تمل وجهك عنهم، استكباراً عليهم. وقوله تعالى عن فرعون {وَفِى مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ} فقوله {فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ} بمعنى: ثنى عطفه. وقوله تعالى {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} إلى غير ذلك من الآيات:
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ} أي ذل وإهانة. وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير: كأبي جهل بن هشام، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكباراً عن الحق وإعراضاً عنه عامله الله بنقيض قصده فأذله وأهانه. وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة.
وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ} وقوله في إبليس لما استكبر {فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} والصغار: الذل والهوان، عياذاً بالله من ذلك، كما قدمنا إيضاحه. وقوله {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} أي نحرقه بالنار، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة: وسمى يوم القيامة: لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا، كما قال تعالى {أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 332
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}
قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ}. أمر جل وعلا في أول هذه السورة الكريمة: الناس بتقواه جل وعلا، بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وبين لهم أن زلزلة الساعة شيء عظيم، تذهل بسببه المراضع عن أولادها، وتضع بسببه الحوامل أحمالها، من شدة الهول والفزع، وأن الناس يرون فيه كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم بسكارى من شرب الخمر، ولكن عذابه شديد.
وما ذكره تعالى هنا من الأمر بالتقوى، وذكره في مواضع كثيرة جداً من كتابه، كقوله في أول سورة النساء {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ} إلى قوله {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلاٌّرْحَامَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وما بينه هنا من شدة أهوال الساعة، وعظم زلزلتها، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاٌّرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَ} وقوله تعالى {وَحُمِلَتِ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَٰحِدَةً} وقوله تعالى {إِذَا رُجَّتِ ٱلاٌّرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّ} وقوله تعالى {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ} وقوله تعالى {ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم هول الساعة.
وقوله في هذه الآية الكريمة {ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ} قد أوضحنا فيما مضى معنى التقوى بشواهده العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والزلزلة: شدة التحريك والإزعاج، ومضاعفة زليل الشيء عن مقره ومركزه: أي تكرير انحرافه وتزحزحه عن موضعه، لأن الأرض إذا حركت حركة شديدة تزلزل كل شيء عليها زلزلة قوية.
وقوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَ} منصوب بتذهل، والضمير عائد إلى الزلزلة. والرؤية: بصرية، لأنهم يرون زلزلة الأشياء بأبصارهم، وهذا هو الظاهر، وقيل: إنها من رأي العلمية.
وقوله {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليلَ عن خليله
وقال قطرب:
ذهل عن الأمر: اشتغل عنه. وقيل: ذهل عن الأمر: غفل عنه لطرو شاغل، من هم أو مرض، أو نحو ذلك، والمعنى واحد، وبقية الأقوال راجعة إلى ما ذكرنا.
وقوله {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي كل أنثى ترضع ولدها، ووجه قوله: مرضعة، ولم يقل: مرضع: هو ما تقرر في علم العربية، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فإن قلت: هي مرضع تريد: أنها ذات رضاع، جردته من التاء كقول امرىء القيس: فمثلكِ حُبلى قد طرقت ومرضعا فألهيتها عن ذي تمائِمَ مغيل
وإن قلت: هي مرضعة بمعنى، أنها تفعل الرضاع: أي تلقم الولد الثدي، قلت: هي مرضعة بالتاء ومنه قوله:
كمرضعة أولاد أُخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
كما أشار له بقوله:
وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل يعني التاء زد كذي غدت مرضعة طفلاً ولَد
وما زعمه بعض النحاة الكوفيين: من أن أم الصبي مرضعة بالتاء والمستأجرة للإرضاع: مرضع بلا هاء باطل، قاله أبو حيان في البحر. واستدل عليه بقوله: كمرضعة أولاد أخرى ـ البيت: فقد أثبت التاء لغير الأم، وقول الكوفيين أيضاً: إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء، لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى: والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق لعدم مشاركة الذكر لها فيه مردود أيضاً، قاله أبو حيان في البحر أيضاً مستدلاً بقول العرب: مرضعة، وحائضة، وطالقة: والأظهر في ذلك هو ما قدمنا، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء، وإن أريد النسبة جرد من التاء، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى:
أجارتنا بينِي فإنك طالقه كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلت: لم قيل: مرضعة دون مرضع؟
قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول، إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها: نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة. وقوله تعالى {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} الظاهر أن ما: موصولة، والعائد محذوف: أي أرضعته على حد قوله في الخلاصة: * والحذف عندهم كثير منجلي * في عائدٍ مُتَّصل إن انتصب بفعلٍ أو وصفٍ كمن نرجو يهب
وقال بعض العلماء: هي مصدرية: أي تذهل كل مرضعة عن إرضاعها.
قال أبو حيان في البحر: ويقوي كونها موصولة تعدي وضع إلى المفعول به في قوله: حملها لا إلى المصدر.
وقوله {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ} أي كل صاحبة حمل تضع جنينها، من شدة الفزع، والهول، والحمل بالفتح: ما كان في بطن من جنين، أو على رأس شجرة من ثمر {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ} جمع سكران: أي يشبههم من رآهم بالسكارى، من شدة الفزع {وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} من الشراب {وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ} والخوف منه هو الذي صيَّر من رآهم يشبههم بالسكارى، لذهاب عقولهم، من شدة الخوف، كما يذهب عقل السكران من الشراب. وقرأ حمزة والكسائي {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} بفتح السين، وسكون الكاف في الحرفين على وزن فعلى بفتح فسكون. وقرأه الباقون {سُكَـٰرَىٰ} بضم السين، وفتح الكاف بعدها ألف في الحرفين أيضاً، وكلاهما جمع سكران على التحقيق. وقيل: إن سكرى بفتح فسكون: جمع سكر بفتح فكسر بمعنى: السكران، كما يجمع الزمن على الزمنى، قاله أبو على الفارسي، كما نقله عنه أبو حيان في البحر. وقيل: إن سكرى مفرد، وهو غير صواب.
واستدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه وصف زلزلة الساعة، بأنها شيء في حال عدمها قبل وجودها. قد بينا وجه رده في سورة مريم، فأغنى عن إعادته هنا.
مسألة
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟
فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول: علقمة، والشعبي، وإبراهيم، وعبيد بن عمير، وابن جريج. وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه. وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع، جاء بذلك، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبيناً دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمٰن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما فرغ الله من خلق السمواتِ والأرضِ خلق الصُّور فأعطى إسرافيلَ فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينظر متى يؤمر:» قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّور؟ قال: «قرن»، قال: وكيف هو؟ قال: «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق: والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين»، يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنَّفخة الأولى: انفخ نفخة الفزع فتفزع أهل السمٰوات والأرضِ إلا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله {وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجًّا، وهي التي يقول الله {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش، ترججه الأرواح، فتميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله {يَوْمَ ٱلتَّنَادِيَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمراً عظيماً، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمُهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول {فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلاٌّرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ} قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شراء خلقه، وهو الذي يقول{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله {وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ}» انتهى منه. ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى. وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور قال ما نصه: وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقناه عنه آنفاً.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله، ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولاً جداً.
والغرض منه: أنه دلَّ على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه. وقد علمت ضعف الإسناد المذكور.
وأما حجة أهل القول الآخر القائلين: بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك. وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ} حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، فيقول: لبيك ربَّنا وسعديك، فَيُنادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف أراه، قال تسعمائه وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا».
وقال أبو أسامة، عن الأعمش {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: وقال جرير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية {سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ} انتهى من صحيح البخاري.
وفيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى: هو يوم القيامة لا آخر الدنيا.
وقال البخاري في صحيحه أيضاً في كتاب: الرقاق في باب: {إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ}: حدثني يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال «يقول الله يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال يقول: أخرج بعث النار قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى. ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل: قال: «أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً، ومنكم رجل، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار» انتهى منه. ودلالته على المقصود ظاهرة.
وقال البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب: بدء الخلق في أحاديث الأنبياء في باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ} إلى قوله: {سَبَب} حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: في آخر كتاب الإيمان بكسر الهمزة في باب: بيان كون هذه الأمة: نصف أهل الجنة: حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» إلى آخر الحديث نحو ما تقدم.
فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت، فيه التصريح من النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، بعد القيام من القبور كما ترى، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع.
فإن قيل: هذا النص فيه إشكال، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع، حتى تذهل عما أرضعت.
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: هو ما ذكره بعض أهل العلم، من أن من ماتت حاملاً تبعث حاملاً، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول كقوله تعالى {يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيب} ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.
تنبيه
اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور، فما معناها؟
والجواب: أن معناها: شدة الخوف، والهول، والفزع، لأن ذلك يسمى زلزالاً، بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلاٌّبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيد} أي وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول. بالعمل الصالح، في دار الدنيا، قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مراراً من أن إن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر: أي اتقوا الله، لأن أمامكم أهوالاً عظيمة، لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا. قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من الناس بعضاً يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله، كالذي يَدَّعي له الأولاد والشركاء، ويقول إن القرآن أساطير الأولين، ويقول: لا يمكن .أن يحيي الله العظام الرميم، كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند، من علم عقلي، ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد: أي عاتٍ طاغٍ من شياطين الإنس والجن {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي كتب الله عليه كتابه قدر وقضاء {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أي كل من صار ولياً له: أي للشيطان المريد المذكور، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار، وعن طريق الإيمان إلى الكفر، ويهديه إلى عذاب السعير: أي النار الشديدة الوقود.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآ..ية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ} {ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} الآية وقوله تعالى في لقمان {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} فقوله في آية لقمان هذه: {أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}، كقوله في الحج {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} وهذه الآية الكريمة التي هي قوله: {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية يدخل فيما تضمنته من الوعيد والدم: أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} وقوله في أول النحل {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وقوله تعالى {وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ}.
وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقوله تعالى: {ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان، فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ} وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم: {يٰأَبَتِ إِنِّىۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّ} وقوله تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ} إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها: أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى {ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وقوله تعالى {وَلاَ تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}.
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة: هي المراد من قوله {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَل} والمجادلة الحقة هي المراد من قوله {وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ا هـ. منه. وقوله تعالى في هذه الآية {عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} يعني عذاب النار، فالسعير النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها. والظاهر أن أصل السعير: فعيل، بمعنى: مفعول من قول العرب: سعر النار، يسعرها كمنع يمنع إذا أوقدها، وكذلك سعرها بالتضعيف، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله{وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص: سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة: قالت له عرسهُ يوماً لتُسْمعني مهلاً فإنَّ لنا في أمِّنا أربا
ولو رأتنيَ في نار مُسعَّرة ثم استطاعت لزادَت فوقْها حَطبا
إذ لا يخفى أن قوله:
مسعرة: اسم مفعول سعرت بالتضعيف، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير: فعيل بمعنى اسم المفعول: أي النار المسعرة: أي الموقدة إيقاداً شديداً لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذاً بالله منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وفي ذلك لغة ثالثة، إلا أنها ليست في القرآن: وهي أسعر النار بصيغة أفعل، بمعنى: أوقدها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} ويدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضاً في الدلالة على الشر، لأنه قال: {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} ونظير في ذلك القرآن قوله تعالى {فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْجَحِيمِ} وقوله تعالى {وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ} لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده.
وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك، بأن فيه استعارة عنادية، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية، معروف كما أشار إليه سابقاً وقوله تعالى {كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ} قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر، والمريد والمارد في اللغة العربية: العاتي، تقول: مرد الرجل بالضم يمرد، فهو مارد، ومَريد إذا كان عاتياً. والظاهر أن الشيطان في هذه الآية، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير، ويضل عن الهدى، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس، والله تعالى أعلم.
{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ * ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}
قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ}. هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، كما قال تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} وكقوله تعالى عنهم {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}ونحو ذلك من الآيات كما قدمنا الإشارة إليه قريباً.
ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيَامة للحساب، والجزاء فقال جل وعلا {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} فمن أوجدكم الإيجاد الأول، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم، وخلقكم مرة ثانية، بعد أن بليت عظامكم، واختلطت بالتراب، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث: الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى المذكور هنا، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله {وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقوله {قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ} وقوله {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى {أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلاٌّوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاٍّولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} وقوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَىٰ} إلى قوله {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ} والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة، وسورة النحل، وغيرهما، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ}، إذ لو تذكر الإيجاد الأول، على الحقيقة، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني، وكقوله {وَيَقُولُ ٱلإِنْسَـٰنُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئ} إذ لو تذكر ذلك تذكراً حقيقياً لما أنكر الخلق الثاني، وقوله في هذه الآية الكريمة {إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ} أي في شك من أن الله يبعث الأموات، فالريب في القرآن يراد به الشك، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} قد قدمنا في سورة طه: أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب، أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل، كما قال تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب. لأن الفروع تبع للأصل.
وقد بينا في طه أيضاً أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب: أنه خلقهم من النطف، والنطف من الأغذية، والأغذية راجعة إلى التراب غير صحيح، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول.
وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب كما أوضحنا آنفاً، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني هو النطفة، والنطفة في اللغة: الماء القليل، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب: وما عليكِ إذا أخبرتني دنفا وغاب بعْلكِ يوماً أن تَعودِيني
وتجعلي نطفةً في القعْب باردة وتغمسي فاكِ فيها ثم تسقيني
فقوله: وتجعلي نطفة: أي ماء قليلاً في العقب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة: نطفة المني، وقد قدمنا في سورة النحل: أن النطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة، خلافاً لمن زعم: أنها من ماء الرجل وحده.
الطور الثالث: العلقة: وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد فقوله {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أَي قطعة دم جامدة، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير: إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجْهُض من أرحامها العَلَق
الطور الرابع: المضغة: وهي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» الحديث.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} في معناه أوجه معروفة عند العلماء، سنذكرها هنا إن شاءَ الله، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه.
منها أن قوله {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} صفة للنطفة وأن المخلقة: هي ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة: هي ما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نقله عنه ابن جرير وغيره، ولا يخفى بعد هذا القول، لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة،
كما هو ظاهر.
ومنها: أن معنى مخلقة: تامة، وغير مخلقة: أي غير تامة، والمراد بهذا القول عند قائله: أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها: ما هو كامل الخلقة، سالم من العيوب، ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس، في خلقهم، وصورهم، وطولهم. وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم.
وممن روى عنه هذا القول: قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك. ومنها: أن معنى مخلقة مصورة إنساناً، وغير مخلقة: أي غير مصورة إنساناً كالسقط الذي هو مضغة، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل، وممن نقل عنه هذا القول، مجاهد، والشعبي، وأبو العالية كما نقله عنهم ابن جرير الطبري. ومنها: أن المخلقة: هي ما ولد حياً، وغير المخلقة: هي ما كان من سقط.
وممن روى عنه هذا القول: ابن عباس رضي الله عنهما. وقال صاحب الدر المنثور: إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي وأنشد لذلك قول الشاعر: أفي غير المخلَّقةِ البكاء فأيْن الحزمُ وَيْحك والحيَاءُ
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً. وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة، وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير. وذلك هو المراد بقوله {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} خلقاً سوياً، وغير مخلقة: بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوير، ولا ينفخ الروح. انتهى منه.
وهذا القول الذي اختاره ابن جرير، اختاره أيضاً غير واحد من أهل العلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا في أول الآية {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ} لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة، فيه من التناقض، كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط، لأن قوله {وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام، إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط.
فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية، لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء.
أما السقط: فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ}، لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً، ولو بعد التشكيل والتخطيط، لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله {فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ}. فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة، وغير المخلقة: يخلق منه بعض المخاطبين في قوله {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ}.
وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية، هو القول الذي لا تناقض فيه، لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره:
وهو أن المخلقة: هي التامة، وغير المخلقة: هي غير التامة.
قال الزمخشري في الكشاف: والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب، يقال: خلق السواك والعود: إذا سواه وملسه. من قولهم صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة. منها: ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب. ومنها: ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. انتهى منه.
وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب، تقول العرب: حجر أخلق: أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء، وصخرة خلقاء بينة الخلق: أي ليس فيها وصم، ولا كسر، ومنه قول الأعشى: قد يترك في خلقاء راسية وَهْياً وينزل منها الأعصم الصدعا
والدهر في البيت: فاعل يترك، والمفعول به: وهياً. يعني: أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم، فيكسرها، ويوهيها، ويؤثر في العصم من الأوعال برؤوس الجبال، فينزلها من معاقلها، ومن ذلك أيضاً قول ابن أحمر يصف فرساً، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور: بمقلص درك الطريدة متنه كصفا الخليقة بالفضاء الملبَّد
فقوله: كصفا الخليقة، يعني: أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها، ولا وصم، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته. والسهم المخلق: هو الأملس المستوي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وهذا القول هو أولى الأقوال بالصواب فيما يظهر لي لجريانه على اللغة التي نزل بها القرآن وسلامته من التناقض، والله جل وعلا أعلم.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ}: أي لنبين لكم بهذا النقل من طور إلى طور، كمال قدرتنا على البعث بعد الموت، وعلى كل شيء، لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً، مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة وقدر على أن يجعل النطفة علقة، مع ما بينهما من التباين والتغاير، وقدر على أن يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاماً، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق، كما هو واضح وقوله {لِّنُبَيِّنَ} الظاهر أنه متعلق بخلقناكم، في قوله{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مِّن تُرَابٍ}: أي خلقناكم خلقاً من بعد خلق على التدريج المذكور: لنبين لكم قدرتنا على البعث وغيره.
وقال الزمخشري مبيناً نكتة حذف مفعول: لنبين لكم ما نصه: وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه بالذكر، ولا يحيط به الوصف. انتهى منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَنُقِرُّ فِى ٱلاٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي نقر في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره فيها، من الأحمال، والأجنة إلى أَجل مسمى: أي معلوم معين في علمنا، وهو الوقت الذي قدره الله لوضع الجنين، والأجنة تختلف في ذلك حسبما يشاؤه الله جل وعلا، فتارة تضعه أمه لستة أشهر، وتارة لتسعة، وتارة لأكثر من ذلك. وما لم يشأ الله إقراره من الحمل مجته الأرحام وأسقطته، ووجه رفع: ونقر أن المعنى: ونحن نقر في الأرحام، ولم يعطف على قوله {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} لأنه ليس علة لما قبله، فليس المراد: خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، لنقر في الأرحام ما نشاء، وبذلك يظهر لك رفعه، وعدم نصبه، وقراءة من قرأ: ونقر بالنصب عطفاً على: لنبين، على المعنى الذي نفيناه على قراءة الرفع، ويؤيد معنى قراءة النصب قوله بعده {ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ} وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْل} أي وذلك بعد أن يخلق الله المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم ينشىء ذلك الجنين خلقاً آخر، فيخرجه من بطن أمه في الوقت المعين لوضعه في حال كونه طفلاً: أي ولداً بشراً سوياً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ} أي لتبلغوا كمال قوتكم، وعقلكم، وتمييزكم بعد إخراجكم من بطون أمهاتكم في غاية الضعف وعدم علم شيء.
وقد قدمنا أقوال العلماء في المراد بالأشد، وهل هو جمع أو مفرد مع بعض الشواهد العربية في سورة الأنعام، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله تعالى في هذه الآية {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ} أي ومنكم أيها الناس من يتوفى من قبل: أي من قبل بلوغه أشده، ومنكم من ينسأ له في أجله، فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل العمر، وهو الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه من الضعف، وعدم العلم.
وقد أوضحنا كلام العلماء في أرذل العمر ومعنى {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئ} في سورة النحل، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من الاستدلال على كمال قدرته، على بعث الناس بعد الموت، وعلى كل شيء ينقله الإنسان من طور إلى طور، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة إلى آخر الأطوار المذكورة، ذكره جل وعلا في مواضع من كتابه مبيناً أنه من البراهين القطعية على قدرته، على البعث وغيره.
فمن الآيات التي ذكر فيها ذلك من غير تفصيل لتلك الأطوار قوله تعالى {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَار} أي طوراً بعد طور كما بينا قوله تعالى {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} وقوله في آية الزمر هذه في ظلمات ثلاث: أي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. فقد ركب تعالى عظام الإنسان بعضها ببعض وكساها اللحم، وجعل فيها العروق والعصب، وفتح مجاري البول والغائط، وفتح العيون والآذان والأفواه وفرق الأصابع وشد رؤوسها بالأظفار إلى غير ذلك من غرائب صنعه، وعجائبه، وكل هذا في تلك الظلمات الثلاث، لم يحتج إلى شق بطن أمه وإزالة تلك الظلمات.
سبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلٰه إلا الله هو العزيز الحكيم، ولأجل هذه الغرائب والعجائب من صنعه تعالى قال بعد التنبيه عليها {ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} ومن الآيات التي أوضح فيها تلك الأطوار على التفصيل قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَـٰماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَـٰمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـٰهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تُبْعَثُونَ} وقد ذكر تعالى تلك الأطوار مع حذف بعضها في قوله في سورة المؤمن {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى في الكهف {قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُل} وقوله تعالى {خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وقوله:
{أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} وقوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} وقوله تعالى {خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ} وقوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ} إلى غير ذلك من الآيات وقد بينت السنة الصحيحة القدر الذي تمكثه النطفة قبل أن تصير علقة، والقدر الذي تمكثه العلقة، قبل أن تصير مضغة، والقدر الذي تمكثه المضغة مضغة.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع ح، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له، حدثنا أبي وأبو معاوية، ووكيع قالوا: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أُمِّه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروحَ ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن الجنين يمكث أربعين يوماً نطفة، ثم يصير علقة، ويمكث كذلك أربعين يوماً، ثم يصير مضغة ويمكث كذلك أربعين يوماً ثم ينفخ فيه الروح، فنفخ الروح إذاً في أول الشهر الخامس من أشهر الحمل.
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة، أنبأني سليمان الأعمش، قال: سمعت زيد بن وهب، عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال «إن أحدكم يجمع في بطن أمهِ أربعين يوماً ثم علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأَربعٍ: برزقه وأجله وشقي أو سعيد» الحديث، وهذه الرواية في البخاري ينقص منها ذكر العمل، وهو مذكور في روايات أُخر صحيحة معروفة. وقد قدمنا وجه الدلالة المقصودة من الحديث المذكور والله أعلم.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه الإفراد في قوله {يُخْرِجُكُمْ طِفْل} مع أن المعنى نخرجكم أطفالاً. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
منها ما ذكره ابن جرير الطبري قال: ووحد الطفل وهو صفة للجمع، لأنه مصدر مثل عدل وزور وتبعه غيره في ذلك.
ومنها قول من قال {نُخْرِجُكُمْ طِفْل} أي نخرج كل واحد منكم طفلاً، ولا يخفى عدم اتجاه هذين الجوابين. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن، هو أن من أساليبها أن المفرد إذا كان اسم جنس يكثر إطلاقه مراداً به الجمع مع تنكيره كما في هذه الآية، وتعريفه بالألف واللام، وبالإضافة فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ} أي وأنهار بدليل قوله تعالى {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} وقوله {وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام} أي أئمة وقوله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْس} أي أنفساً وقوله تعالى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ} أي سامرين وقوله تعالى {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي بينهم وقوله تعالى {وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيق} أي رفقاء وقوله تعالى {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُو} أي جنبين أو أجناباً وقوله تعالى{وَالْمَلَـٰئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} أي مظاهرون ومن أمثلة ذلك مع التنكير في كلام العرب قول عقيل بن علفة المري:
وكان بنو فزارة شرَّ عم وكنتُ لهم كشر بني الأَخينا
يعني شر أَعمام: وقول قعنب ابن أم صاحب: ما بال قوم صديق ثم ليس لهم دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
يعني ما بال قوم أصدقاء: وقول جرير: نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صديق
يعني صديقات: وقول الآخر: لعمري لئن كنتم على النأي والنوى بكم مثل ما بي إنكم لصديق
وقول الآخر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير
أي لسن لي بأمراء.
ومن أمثلته في القرآن واللفظ مضاف قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أصدقائكم: وقوله {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي أوامره: وقوله {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَ} أَي نعم الله: وقوله {إِنَّ هَـٰؤُلآءِ ضَيْفِى}: أي أضيافي، ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
أي وأما جلودها فصليبة:
وقول الآخر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
أي بطونكم. وهذا البيت والذي قبله أنشدهما سيبويه في كتابه مستشهداً بهما لما ذكرنا.
ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرادس السلمي:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
أي إنا إخوانكم: وقول جرير: إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي إذا آباؤنا وآباؤك عدواً، وهذا البيت، والذي قبله يحتمل أن يراد بهما جمع التصحيح للأب وللأخ، فيكون الأصل: أبون وأخون فحذفت النون للإضافة، فصار كلفظ المفرد.
ومن أمثلته جمع التصحيح في جمع الأخ بيت عقيل بن علفة المذكور آنفاً، حيث قال فيه: كشر بني الأخينا. ومن أمثلة تصحيح جمع الأب قول الآخر: فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
ومن أمثلة ذلك في القرآن: واللفظ معرف بالألف واللام قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلِّهِ وَإِذَ}أي بالكتب كلها، بدليل قوله {كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} الآية، وقوله {وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ} وقوله تعالى {أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُو} أي الغرف بدليل قوله {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} وقوله {وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ}: وقوله تعالى {وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّ}:
أي الملائكة بدليل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ}: وقوله تعالى {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ}: أي الأدبار بدليل قوله تعالى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ} وقوله تعالى: {أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ}: أي الأطفال: وقوله تعالى {هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ} أي الأعداء، ونحو هذا كثير في القرآن، وفي كلام العرب: وهو في النعت بالمصدر مطرد، كما تقدم مراراً.
ومن أمثلة ذلك قول زهير: متى يَشْتَجِر قومٌ يقل سرواتهم هم بيننا هم رضى وهم عدل
أي عدول مرضيون.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول، قبل أن تكون علقة، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
المسألة الثانية: إذا سقطت النطفة في طورها الثاني، أعني في حال كونها علقة: أي قطعة جامدة من الدم، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ولا تغسل ولا تكفن ولا ترث.
ولكن اختلف في أحكام أخر متعددة من أحكامها:
منها: ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها، هل تجب فيها غرة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله: إلى أن من ضرب بطن حامل، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين، فتلزمه غرة، أو عشر دية الأم.
وفي المدونة: ما علم أنه حمل، وإن كان مضغة أو علقة أو مصوراً.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي. وممن قال به الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور، والمالكية قالوا: الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط.
ومنها: ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق، أو وفاة وكانت حاملاً، فألقت حملها علقة، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا؟
فمذهب مالك رحمه الله: أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة. واحتج المالكية: بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل، فتدخل في عموم قوله تعالى {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاٌّحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقال ابن العربي المالكي: لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقاً يعني مصوراً، وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم: إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة، قالوا: لأنها دم جامد ولا يتحقق كونه جنيناً.
ومنها: ما إذا ألقت العلقة المذكورة أمة هي سرية لسيدها، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا؟
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه: إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة، لأن العلقة مبدأ جنين، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة، بعد أن كانت نطفة، فدخلت في قوله تعالى {خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} فيصدق عليها أنها وضعت جنيناً من سيدها، فتكون به أم ولد، وهذا رواية عن أحمد وبه قال إبراهيم النخعي.
وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة: إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة. وقد قدمنا توجيههم لذلك.
المسألة الثالثة: إذا أسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث: أعني كونها مضغة:
أي قطعة من لحم، فلذلك أربع حالات:
الأولى: أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان، كاليد والرجل، والرأس ونحو ذلك، فهذا تنقضي به العدة، وتلزم فيه الغرة، وتصير به أم ولد، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم.
الحالة الثانية: أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط، وتصوير خفي، والأظهر في هذه الحالة: أن حكمها كحكم التي قبلها لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة، أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية.
الحالة الثالثة: هي أن تكون تلك المضغة المذكورة، ليس فيها تخطيط، ولا تصوير ظاهر، ولا خفي، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنها مبدأ خلق آدمي.
وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف. فقال بعض أهل العلم: لا تنقضي عدتها بها، ولا تصير أم ولد، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله، وظاهر كلام الحسن والشعبي، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي، فأشبه النطفة والعلقة.
وقال بعض أهل العلم: تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة، وتصير به أم ولد، وتجب فيها الغرة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وقال بعض أهل العلم: لا تنقضي بها العدة، وتصير به أم ولد.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات، بأن تلك المضغة مبدأ جنين، وأنها لو بقيت لتخلقت إنساناً، أنها تنقضي بها العدة، وتصير بها الأمة أم ولد، وتجب بها الغرة على الجاني. والله تعالى أعلم.
الحالة الرابعة: أن تكون تلك المضغة، ليس فيها تصوير ظاهر، ولا خفي، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان، فحكم هذه كحكم العلقة: وقد قدمناه قريباً مستوفى.
المسألة الرابعة: إذا أسقطت المرأة جنينها ميتاً بعد أن كملت فيه صورة الآدمي، فلا خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه، وكونها أم ولد، ووجوب الغرة فيه، ولكن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه، وغسله وتكفينه. فذهب مالك رحمه الله: إلى أنه لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يحنط، ولا يسمى، ولا يورث، ولا يرث حتى يستهل صارخاً، ولا عبرة بعطاسه، ورضاعه، وبوله فلو عطس، أو رضع، أو بال لم يكن ذلك موجباً للصلاة عليه في قول مالك، وعليه جمهور أصحابه. وقال المازري: رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه، وغيرها من الأحكام.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخاً، فإنه يصلى عليه. وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخاً، فإن لم يستهل صارخاً غسل دمه، ولف بخرقة، ووري، ومذهب الشافعي: أنه إن استهل صارخاً أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه، وورث وإن لم يستهل، ولم يتحرك، فإن لم يكن له أربعة أشهر، لم يصل عليه، ولكنه يلف بخرقة، ويدفن، وإن كان له أربعة أشهر فقولان: قال في القديم: يصلى عليه، وقال في الأم: لا يصلى عليه، وهو الأصح، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة، وأصحابه وجابر بن زيد التابعي، والحكم وحماد، والأوزاعي ومالك: أنه إذا لم يستهل صارخاً لا يصلى عليه. وعن ابن عمر: أنه يصلى عليه، وإن لم يستهل. وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق. انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه إذا لم يستهل صارخاً، ولم يتحرك، فإن كان له أربعة أشهر: غسل، وصلي عليه، وإلا فلا، أما إذا استهل صارخاً، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط، لأن مناط الأمر بالصلاة عليه، هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة. ومناط عدم الصلاة عليه: هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخاً، أو طالت مدته حياً علم بذلك أنه مات بعد حياة، فيغسل ويصلى عليه، وقالوا: إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة، لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية، وقالوا: إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته. قالوا: قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدوداً في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه، وهو قول ابن القاسم. ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به، لأنه في حكم الميت، وإن كان عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد.
والذين خالفوا هؤلاء قالوا: لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة، وعمر ما دام قادراً على الحركة القوية الدالة على الحياة، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة.
والذين قالوا: يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة. ينفخ فيه الروح، وانتهاء الأربعين الثالثة: هو انتهاء أربعة أشهر، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. هذا برهان قاطع آخر على البعث: وقوله {وَتَرَى} أي يا نبي الله. وقيل: وترى أيها الإنسان المخاطب: وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. فقوله {هَامِدَةً} حال من الأرض، لا مفعول ثان لترى. وقوله: هامدة أي يابسة قاحلة لا نبات فيها.
وقال بعض أهل العلم، هامدة: أي دارسة الآثار من النبات، والزرع. قالوا: وأصل الهمود الدروس والدثور. ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس: قالت قتيلةُ ما لجسْمك شاحِبا وأرى ثيابك باليات هُمدا
أَي وأرى ثيابك باليات دارسات {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ} أي سواء كان من المطر، أو الأنهار أو العيون أو السواني: {ٱهْتَزَّتْ}: أي تحركت بالنبات. ولما كان النبات نابتاً فيها متصلاً بها، كان اهتزازه كأنه اهتزازها فأطلق عليها بهذا الاعتبار، أنها اهتزت بالنبات. وهذا أسلوب عربي معروف.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات، وقوله: {وَرَبَتْ} أي زادت وارتفعت: وقال بعض أهل العلم: وربت: انتفخت، لأجل خروج النبات، وقال ابن جرير الطبري: وربت: أي أضعفت النبات بمجيء الغيث.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أصل المادة التي منها ربت: الزيادة، والظاهر أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض: هي أن النبات لما كان نابتاً فيها متصلاً بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: والاهتزاز: الحركة على سرور، فلا يكاد يقال: اهتز فلان لكيت وكيت، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع ا هـ منه.
والاهتزاز أصله: شدة الحركة: ومنه قوله: تَثني إذا قامتْ وتهتزُّ إن مشت كما اهتّز غصْنُ البانِ في وَرَقٍ خُضْر
وقوله:
{وَأَنبَتَتْ} أي أنبت الله فيها {مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي صنف من أصناف النبات، والزرع، والثمار: {بَهِيجٍ} أي حسن، والبهجة: الحسن. ومنه قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} تقول: بهج بالضم بهاجة فهو بهيج، إذا كان حسناً، وقرأ عامة السبعة: وربت، وهو من قولهم: ربا يربو إذا نَما وزاد، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع: وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء: أي ارتفعت، كأنه من الربيئة أو الربيئي، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم.
ومنه قول امرىء القيس: بَعثنا ربيئاً قبل ذاك مخمَّلا كذئبِ الغضَا يمشي الضَّراء ويتقي
وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن إحياء الأرض بعد موتها، برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم. لأن الجميع أحياء بعد موت، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل، كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلاٌّرْضَ خَـٰشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِىۤ أَحْيَـٰهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى {وَيُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء، بعد الموت: وقوله تعالى {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ} أي خروجكم من القبور أحياء بعد الموت وقوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَـٰهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله {فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءَاثَـٰرِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى {فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ} وقوله تعالى {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ومن ذلك قوله هن{وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} بدليل قوله بعده:
قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ} إلى قوله {وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ٱلْقُبُورِ}.
قوله تعالى: {ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ}. قال بعض أهل العلم: الآية الأولى التي هي {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ مَّرِيدٍ} نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعاً لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـٰنٍ} وقال في هذه {ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا.
وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به {وَلاَ هُدًى} أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب {وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ} أي وَحْي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وَحْي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله {ثَانِىَ عِطْفِهِ} حال من ضمير الفاعل المستكن في: يجادل: أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه: أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكباراً وإعراضاً. فقوله: ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه، وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب: ثنى فلان عنك عطفه: تعني أعرض عنك. وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا: ثاني عطفه: لاوي عنقه: مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون: إن اللام في قوله {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية، كقوله {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَن}. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص.
ونقول هنا: إن الظاهر في ذلك: أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره.
وإيضاح ذلك: أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضاً عن الحق، واستكباراً. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالاً مضلاً. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقوله {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوه. وكذلك {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ}: أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه، لأجل أن يجعله لهم عدواً وحزناً. وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية: من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَ} وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُود} وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تمل وجهك عنهم، استكباراً عليهم. وقوله تعالى عن فرعون {وَفِى مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ} فقوله {فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ} بمعنى: ثنى عطفه. وقوله تعالى {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} إلى غير ذلك من الآيات:
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لَهُ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ} أي ذل وإهانة. وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير: كأبي جهل بن هشام، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكباراً عن الحق وإعراضاً عنه عامله الله بنقيض قصده فأذله وأهانه. وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة.
وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ} وقوله في إبليس لما استكبر {فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ} والصغار: الذل والهوان، عياذاً بالله من ذلك، كما قدمنا إيضاحه. وقوله {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} أي نحرقه بالنار، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة: وسمى يوم القيامة: لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا، كما قال تعالى {أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
الصفحة رقم 332 من المصحف تحميل و استماع mp3