تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 66 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 66

 {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّيَـٰتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلاٌّنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ *
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *
إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلاٌّمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَـٰلِمُونَ * وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَا أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِىۤ أُعِدَّتْ لِلْكَـٰفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ * وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَـٰمِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ * هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلاٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ }
. مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة ، أي : مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات اللَّه آناء الليل وتصلّي وتؤمن باللَّه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حقّ تلاوته وتؤمن باللَّه ، وهو قوله : {ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون باللَّه وما أُنزل إلينا وما أُنزل إليهم ، وأنهم خاشعون للَّه لا يشترون بآياته ثمنًا قليلا ، وهو قوله : {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ} . وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرءَان ، وهو قوله تعالىٰ : {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} . وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرءَان من اللَّه حقّ ، وهو قوله : {وَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ} ، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرءَان خرّوا لأذقانهم سجدًا وسبحوا ربهم وبكوا ، وهو قوله : {إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعً} .
وقال في بكائهم عند سماعه أيضًا : {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ} ، وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، تؤتى أجرها مرتين ، وهو قوله : {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُو} .
{هَآأَنتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلاٌّنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ، وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلِّهِ يعني : وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالىٰ : {وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ} ، وقوله : {كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} .
{وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } ، فِى ٱلاٌّرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ يعني : عرضها كعرض السمٰوات والأرض كما بيّنه قوله تعالىٰ في سورة {ٱلْحَدِيدَ} : {سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ} ، وآية « آل عمران » هذه تبيّن أن المراد بالسماء في آية « الحديد » جنسها الصادق بجميع السمٰوات كما هو ظاهر ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ} ، المراد بالقرح الذي مسّ المسلمين هو ما أصابهم يوم أُحد من القتل والجرح ، كما أشار له تعالىٰ في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله : {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ، وقوله : {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} ، وقوله : {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن} ، وقوله : {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ} ، ونحو ذلك من الآيات .
وأما المراد بالقرح الذي مسّ القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وعليه فإليه الإشارة بقوله : {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} .
ويحتمل أيضًا أنه هزيمة المشركين أولاً يوم أُحد ، كما سيأتي قريبًا إن شاء اللَّه تعالىٰ ، وقد أشار إلى القرحين معًا بقوله : {أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَ} ، فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحد ، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسّهم يوم بدر ؛ لأن المسلمين يوم أُحد قتل منهم سبعون ، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون .
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أُحد من قتل وهزيمة ، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار ، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة وبقي لواؤهم ساقطًا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية ، وفي ذلك يقول حسان : فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب

وعلى هذا الوجه : فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالىٰ : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} . ومعنى تحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسّة ، فمعنى حسَّه أذهب حسّه بالقتل ، ومنه قول جرير :
تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في أجم الحصيد
وقول الآخر : حسسناهم بالسيف حسًا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا

وقول رؤبة : إذا شكونا سنة حسوسًا تأكل بعد الأخضر اليبيسا

يعني بالسنة الحسوس : السنة المجدبة التي تأكل كل شىء ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان ، وكل منهما يشهد له قرءَان ، وكلاهما حق فنذكرهما معًا ، وما يشهد لكل واحد منهما .
قال بعض العلماء : وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أُحد ؛ لأن الكلام في وقعة أُحد ولكن التثنية في قوله :
{مّثْلَيْهَ} تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر ؛ لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم أُحد أُصيبوا بمثلي ما أُصيب به المسلمون ، ولا حجّة في قوله : {تَحُسُّونَهُمْ} ؛ لأن ذلك الحسّ والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين ، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أُحد ، كما هو معلوم .
فإن قيل : ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله : {قَرْحٌ مّثْلُهُ} ، وبين التثنية في قوله : {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَ} ، فالجواب واللَّه تعالىٰ أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر ؛ في مقابلة سبعين يوم أُحد ، كما عليه جمهور العلماء .
والمراد بإفراد المثل :تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم ، والقراءتان السبعيتان في قوله : {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ} ، بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضُعف والضَعف .
وقال الفراء : القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اهـ . ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي :
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجع