تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 350 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 350

349

هي مدنية، وآياتها أربع وستون آية أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: أنزلت سورة النور بالمدينة. أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً: "لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة: يعني النساء، وعلموهن الغزل وسورة النور". أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور" وهو مرسل. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قول زهير: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب أي منزلة، قرأ الجمهور 1- "سورة" بالرفع وفيه وجهان: أحدهما أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف: أي هذه السورة، ورجحه الزجاج والفراء والمبرد، قالوا: لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع. والوجه الثاني أن تكون مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله: "أنزلناه" والخبر "الزانية والزاني" ويكون المعنى: السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم، وهذا معنىً صحيح، ولا وجه لما قاله الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة، وهو مجمع على جواز الابتداء بها. وقيل هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير: فيما أوحينا إليك سورة، ورد بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه السورة الكريمة، لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا. وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالنصب، وفيه أوجه: الأول أنها منصوبة بفعل مقدر غير مفسر بما بعده، تقديره اتل سورة، أو اقرأ سورة. والثاني أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره: أي أنزلنا سورة أنزلناها، فلا محل لأنزلناها هاهنا لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الذي قبله فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة. الوجه الثالث أنها منصوبة على الإغراء: أي دونك سورة قاله صاحب الكشاف. ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء. الرابع أنها منصوبة على الحال من ضمير أنزلناها، قال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن تتقدم عليه، وعلى هذا فالضمير في أنزلناها ليس عائداً على سورة، بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن. قرأ ابن كثير وأبو عمر "وفرضناها" بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف. قال أبو عمرو: "فرضناها" بالتشديد: أي قطعناها في الإنزال نجماً نجماً، والفرض القطع، ويجوز أن يكون التشديد للتكثير أو المبالغة، ومعنى التخفيف أوجبناها وجعلناها مقطوعاً بها، وقيل ألزمناكم العمل بها، وقيل قدرنا ما فيها من الحدود، والفرض التقدير، ومنه "إن الذي فرض عليك القرآن" "وأنزلنا فيها آيات بينات" أي أنزلنا في غضونها وتضاعيفها، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على مدلولها، وتكرير أنزلنا لكمال العناية بإنزال هذه السورة، لما اشتملت عليه من الأحكام.
2- "الزانية والزاني"، هذا شروع في تفصيل ما أجمل من الآيات البينات، والارتفاع على الابتداء، والخبر "فاجلدوا كل واحد منهما" أو على الخبرية لسورة كما تقدم، والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح. وقيل هو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المكرهة، وكذلك الزاني، ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وأما على مذهب سيبويه فالخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ثم بين ذلك بقوله: "فاجلدوا" والجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وقوله: "مائة جلدة" هو حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد، وهي تغريب عام، وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه: "فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب" وهذا نص في الإماء، وألحق بهن العبيد لعدم الفارق، وأما من كان محصناً فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم بل وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضحنا ما هو الحق في ذلك في شرحنا للمنتقى، وقد مضى الكلام في حد الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ويحيى بن يعمر وأبو جعفر وأبو شيبة "الزانية والزاني" بالنصب، قيل وهو القياس عند سيبويه لأنه عنده كقولك زيداً اضرب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فالرفع عندهم أوجه به قرأ الجمهور. ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن. وقيل وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل، وقيل لأن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب، وقيل لأن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكر الزانية تغليظاً واهتماماً. والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" يقال رأف يرأف رأفة على وزن فعلة، ورآفة على وزن فعالة، مثل النشأة والنشاءة وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة، وقيل هي أرق الرحمة. وقرأ الجمهور " رأفة " بسكون الهمزة، وقرأ ابن كثير بفتحها، وقرأ ابن جريح رآفة بالمد كفعالة، ومعنى "في دين الله" في طاعته وحكمه- كما في قوله: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" ثم قال مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" كما تقول للرجل تحضه على أمر: إن كنت رجلاً فافعل كذا: أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، من الطوف، وأقل الطائفة ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل واحد، وقيل أربعة، وقيل عشرة.
ثم ذكر سبحانه شيئاً يختص بالزاني والزانية، فقال: 3- "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة". قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأول أن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله وأنه محرم على المؤمنين، ويكون معنى الزاني لا ينكح: الوطء لا العقد: أي الزاني لا يزني إلا بزانية، والزانية لا تزني إلا بزان، وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا. ورد هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويرد هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه، ومنه قوله: "حتى تنكح زوجاً غيره" فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، بأن المراد به الوطء، ومن جملة القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلا زانية، الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم، وحكاه الخطابي عن ابن عباس. القول الثاني: أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة كما سيأتي بيانه فتكون خاصة بها كما قاله الخطابي. القول الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين، فتكون خاصة به قاله مجاهد. الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة، فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح. الخامس: أن المراد بالزاني والزانية المحدودان حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة. وروى نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظراً كما لم يثبت نقلاً. السادس: أن الآية هذه منسوخة بقوله سبحانه: "وأنكحوا الأيامى منكم" قال النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. القول السابع: أن هذا الحكم مؤسس على الغالب. والمعنى: أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما سيأتي. وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك. وروي عن ابن عباس، وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً، وبه قال مالك، ومعنى "وحرم ذلك على المؤمنين" أي نكاح الزواني، لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب. وقيل هو مكروه فقط، وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "سورة أنزلناها وفرضناها" قال:بيناها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر:أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها، فقلت: "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" قال: يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجلد رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" قال: الطائفة رجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: "الزاني لا ينكح" قال: ليس هذا بالنكاح، ولكن الجماع، لا يزني بها حين يزني إلا زان أو مشرك "وحرم ذلك على المؤمنين" يعني الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" قال: كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها، فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين، وهو مرسل. وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن يسار نحوه مختصراً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء عن ابن عباس قال: كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان، وبغايا آل فلان، فقال الله: "الزاني لا ينكح إلا زانية" الآية، فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن الضحاك في الآية قال إنما عنى بذلك الزنا ولم يعن به التزويج. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة نحوه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في هذه الآية قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا على المؤمنين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول، وكانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله: "الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك". وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كان رجل يقال له مرثد، يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له، وذكر قصة وفيها: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فلم يرد علي شيئاً حتى نزلت "الزاني لا ينكح إلا زانية" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مرثد "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" فلا تنكحها". وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو في الآية قال: كن نساء معلومات، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس: أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات، فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق شعبة مولى ابن عباس قال: كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله علي، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها، فقال الناس: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنما كن نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية، تزوجها فما كان فيها من إثم فعلي. وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب أن رجلاً تزوج امرأة، ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد، فجاءوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك.
4- قوله: "والذين يرمون" استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة: وجرح اللسان كجرح اليد وقال آخر: رماني بأمر كنت عنه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهن بالذكر لأن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى: "والمحصنات من النساء" فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى، وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال: "والتي أحصنت فرجها" فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب والمراد بالمحصنات هنا العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرد رأي بحت. قرأ الجمهور "والمحصنات" بفتح الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: إنه يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً أن العبد يجلد أربعين جلدة. وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة: يجلد ثمانين. قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال. ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن، ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد القذف. وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم. قرأ الجمهور "بأربعة شهداء" بإضافة أربعة إلى شهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بتنوين أربعة. وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة، فقيل هو تمييز. ورد بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف إليه العدد كما هو مقرر في علم النحو. وقيل إنه في محل نصب على الحال. ورد بأن الحال لا يجيء من النكرة التي لم تخصص. وقيل إن شهداء في محل جر نعتاً لأربعة، ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف. وقال النحاس: يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية: أي ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وقد قوى ابن جني هذه القراءة، ويدفع ذلك قوله سيبويه إن تنوين العدد وترك إضافة إنما يجوز في الشعر. ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال: "فاجلدوهم ثمانين جلدة" الجلد الضرب كما تقدم، والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما، ومنه قول قيس بن الخطيم: أجالدهم يوم الحديقة حاسراً كأن يدي بالسيف مخراق لاعب وقد تقدم بيان الجلد قريباً، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة منتصبة على التمييز، وجملة "ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً" معطوفة على اجلدوا: أي فاجمعوا لهم بين الأمرين: الجلد، وترك قبول الشهادة، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها، ومعنى "أبداً": ما داموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال: "وأولئك هم الفاسقون" وهذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية، وجوز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال. ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة.
5- فقال: "إلا الذين تابوا" وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء، لأنه من موجب، وقيل يجوز أن يكون في موضع خفض على البدل، ومعنى التوبة قد تقدم تحقيقه، ومعنى "من بعد ذلك" من بعد اقترافهم لذنب القذف، ومعنى "وأصلحوا" إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد. وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ هي جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليها بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر، وبعد إجماعهم أيضاً على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق، لأن سبب ردها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أبداً. وذهب الشعبي والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لما قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهراً. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائداً إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة. واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه. وقالت فرقة منهم مالك وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد. وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله " إلى قوله: "إلا الذين تابوا" ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرماً من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله: "أبداً" أي ما دام قاذفاً، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبداً فإن معناه: ما دام كافراً انتهى، وجملة "إن الله غفور رحيم" تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفوراً له، مرحوماً من الرحمن الرحيم، غير فاسق ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة. ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح.
6- فقال: "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم" أي لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء. قيل ويجوز النصب على خبر يكن. قال الزجاج: أو على الاستثناء على الوجه المرجوح "فشهادة أحدهم أربع شهادات" قرأ الكوفيون برفع "أربع" على أنها خبر لقوله: "فشهادة أحدهم" أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو أربع بالنصب على المصدر، ويكون "فشهادة أحدهم" خبر مبتدأ محذوف: أي فالواجب شهادة أحدهم، أو مبتدأ محذوف الخبر: أي فشهادة أحدهم واجبة. وقيل إن "أربع" منصوب بتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله: "بالله" متعلق بشهادة أو بشهادات، وجملة "إنه لمن الصادقين" هي المشهود به، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن، وعلق العامل منها.
7- "والخامسة" قرأ السبعة وغيرهم "الخامسة" بالرفع على الابتداء، وخبرها "أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة وعاصم في رواية حفص "والخامسة" بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة، ومعنى "إن كان من الكاذبين" أي فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور بتشديد أن من قوله: "أن لعنة الله" وقرأ نافع بتخفيفها، فعلى قراءة نافع يكون اسم أن ضمير الشأن، ولعنة الله مبتدأ، وعليه خبره، والجملة خبر أن، وعلى قراءة الجمهور تكون لعنة الله اسم أن، قال سيبويه: لا تخفف أن في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة. وقال الأخفش: لا أعلم الثقيلة إلا أجود في العربية.
"ويدرأ عنها العذاب" أي عن المرأة، والمراد بالعذاب: الدنيوي، وهو الحد، وفاعل يدرأ قوله: "أن تشهد أربع شهادات بالله" والمعنى: أنه يدفع عن المرأة الحد شهادتها أربع شهادات بالله: أن الزوج.
9- " لمن الكاذبين * والخامسة " بالنصب عطفاً على أربع: أي وتشهد الخامسة كذلك قرأ حفص والحسن والسلمي وطلحة والأعمش، وقرأ الباقون على الابتداء، وخبره "أن غضب الله عليها إن كان" الزوج "من الصادقين" فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته، ولأن النساء يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثارهن منه لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب.
"ولولا فضل الله عليكم ورحمته" جواب لولا محذوف. قال الزجاج: المعنى ولولا فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. ثم بين سبحانه كثير توبته على من تاب وعظيم حكمته البالغة فقال: "وأن الله تواب حكيم" أي يعود على من تاب إليه، ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له، حكيم فيما شرع لعباده من اللعان وفرض عليهم من الحدود. وقد أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "إلا الذين تابوا" قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك. وأخرج ابن مردويه عنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل. وفي الباب روايات عن التابعين. وقصة قذف المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة. وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة، وإلا حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، ونزل جبريل فأنزل عليه "والذين يرمون أزواجهم" حتى بلغ "إن كان من الصادقين" فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مطولة. وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، ولم يسموا الرجل ولا المرأة. وفي آخر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب فلا سبيل لك عليها، فقال: يا رسول الله مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: "جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال، سل رسول الله: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فقال عويمر: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسألنه، فأتاه فوجده قد أنزل عليه، فدعا بهما فلاعن بينهما. قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلاعنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذباً، فجاءت به مثل النعت المكروه" وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية. وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، قالوا لا يجتمع المتلاعنان أبداً.